الروايـــة وفنتازيـــا التـــاريخ
لنتخيّل، ولنكن جديين، أنّ حربا ستنفجر بسبب مشاغبة صبيانية. الأمر سيبدو إلى حد ما مداعبة ثقيلة، والسبب أنّ ما يشعل فتيل الحروب هي الأسباب الكبيرة، ثم من قال أن الحروب هي شأن صبياني؟ لقد نشأنا على نظرة صارمة إلى التاريخ بأنه صناعة الكبار، ولا ناقة للأطفال فيه.
شعاري اللحظة، وقد يمهّد بشكل موارب لموضوعي، هو ما كان يردده الأمير الصغير في رواية الطيار الفرنسي "سانت ايكسوبيري": "الكبار مدعاة للشفقة".
في رواية عمارة لخوص الأخيرة "صراع حول خنزير إيطالياني بساحة سان سلفاريو" (Querelle autour d’un cochon Italianisme à San Salvario)
 (منشورات البرزخ 2014)، هذا الأسلوب الباروكي الذي يقدم لنا الحدث الكبير بروح ساخرة، تهكمية، فيه شيء من فلسفة اللعب، حيث يغدو التاريخ مجرد ورشة لصناعة أحداث ووقائع على المقاس.
كانوا يقولون، وهذا الكلام من لدن الخبراء الذين نصّبتهم مؤسسات علمية وسياسية، أنّ المؤرخ هو من يكتب التاريخ، وينقله إلى الكتب بأمانة، وبحرص أخلاقي طافح، مع أنه على علم بأنّ التاريخ الذي يكتبه هو تفصيل على مقاسه وعلى مقاس الأشخاص الذين وكّلوا له مهمة كتابته. أمّا اليوم فاستبدل المؤرخ –ولا يهم نواياه الآن- برجل الإعلام، ذلك الشخص الذي يعمل في جريدة أو في قناة أو إذاعة أو وكالة أنباء. ودون حقد فهو صاحب سلطة رابعة شئنا أم أبينا.
لكن كثيرون منا لم يفهموا بعد ما المقصود بالسلطة الرابعة؟ لنترك الرقم جانبا لأنه نسبي تماما، فقد قرأتُ أنّ هناك من يعتبر قوة الإعلام اليوم فوق كل السلطات، قلت لنترك الرقم جانباً ونركز تحديدا على لفظة "السلطة". سنتفق على أنّ المقصود بها أنّ الإعلام اليوم يتحكم في المعلومة، والمعلومة اليوم أصبحت في مقام من يسيطر على منابع الماء أو الطاقة أو تجارة الأسلحة حتى ذات الدمار الشامل، أصبحت المعلومة تلعب دورا حساسا في حياتنا، إذ يجب أن نتخيل عدد المعلومات التي تخترقنا كل يوم، أكيد الرقم سيكون مدهشا، بل دون مبالغة نحن لم نعد نتنفس الهواء، بل نتنفس معها المعلومات، استنادا إلى هذا المعطى الجديد، أي الحضور المهيب للمعلومة في حياتنا، أصبحنا لا نفرق بين المعلومات، بمعنى آخر، لقد سقطت الحواجز بين الحقيقة والزيف، بين الواقع والخيال.
السؤال: ماذا سيفعل صحفي إزاء المشكلة التالية: جريمة قتل شنيعة راح ضحيتها شبان ألبانيون في حي من أحياء ايطاليا، غير أنّ المعلومات حول حيثيات الجريمة ومرتكبيها شحيحة، بل لنكن أكثر حرصا على الأمانة: منعدمة. فما الحل؟
توجد حلول دائمة حيث توجد المشاكل. وفي الإعلام، يمكن أن تتحول مثل هذه الجرائم، خاصة إذا اتصفت بطابع عنصري، إلى صيد إعلامي ثمين، أليس الإعلام اليوم يلعب أكثر على وتر الإثارة غير مكترث بإيصال الخبر إلى المتلقي، ولو كان على حساب صدقية الحدث؟
لقد فكّر بطل رواية لخوص "أونزو" في طريقة لكتابة مقال حول الجريمة، فهو يعمل في جريدة محلية وغير شعبية، وتحت رئاسة رئيس تحرير يصفه بالرومانسي، فالرجل ما زال يعيش تحت سحر قضية الصحافيَين الأمريكيَين اللذين كتبا تحقيقا في جريدة الواشنطن بوست واللذان تسبّبا في استقالة الرئيس الأمريكي "نيكسون" في عام 1974م. فرئيس التحرير مؤمن أشد الايمان أنّ الصحافة التي تعجز عن التأثير على الواقع وعلى السياسة وعلى الإطاحة بالرؤوس الكبيرة ليست بصحافة.
استغل "أونزو" أوهام رئيس تحريره لكتابة سبق إخباري لا مثيل له، سترفعه عاليا في بورصة الصحافة العالمية. مرجعه في ذلك القاعدة التالية: "تسعون بالمئة من المعلومات المنشورة كل يوم خاطئة. خمسة بالمئة لم يُدقّق فيها، والنسبة المتبقية هي فقط ما يمثل المعلومات الحقيقية." (23) يجب أن نقرأ بتمعن ما يقوله "أونزو"، وإذا كانت المعلومة صحيحة يعني أننا نسبح في بحيرة من الأوهام. هنا تفوّه "أونزو" بالآتي: "ليس أمامي أي خيار. ففي هذا السيرك الإعلامي التافه، يجب اللعب إلى أقصى الحدود. أن نخلق مصدرا" (42)
يقولون أنّ الحرب سجال وخداع، يهتدي "أونزو" إلى حيلة لتغطية شح المعلومات حول الجريمة، وتتمثل هذه الحيلة في "اختلاق شخصيات وهمية"، وجعل هذه الشخصيات الوهمية تروي عن الجريمة باعتبارها شاهدة عليها. فمن يعلم؟ إنها من أسرار المهنة، والصحفي الجيد هو الذي يخفي مصادره ولا يفشي بها لأحد حتى لرئيس تحريره. بقي له أن يفكّر في طريقة لتجسيد الحيلة، هنا فكّر في صديقه الممثل المسرحي "ماريتناني"، ففضلاً عن مواهبه التمثيلية فهو مقلد أصوات جيد.
انطلت الحيلة على الجميع، وأصبحت الجريدة تحظى بشعبية كبيرة بسبب مقالات الصحافي "أونزو" الذي استطاع أن ينفذ إلى أعماق شبكات الإجرام الرومانية التي تنشط في إيطاليا، وينجز حوارات مع عضو مهم من العصابة. اقتنع الجميع بالحوار لأن ماريتاني كان ممثلا جيدا.
هذا هو الإعلام اليوم، مسرحية كبيرة بممثلين محترفين، فمن سيكترث إذا كان ما ينقله حقيقة أم كذبا طالما أن الجميع مقتنع. لقد تجاوزنا مرحلة "الخبر الصادق" إلى مرحلة "تصديق الخبر"، يكفي فقط أن نشاهد أو نقرأ بعماء. الإعلام اليوم هو الذي يخترع التاريخ، ويخترع الأنظمة، ويخترع الساسة، يخترع الأزمات، والأعداء والأوبئة، والحروب، ألم يقل "بودريار" أنّ حرب الخليج الأولى لم تقع على أرض الواقع بل جرت أطوارها في أخبار CNN؟ هناك من ضحك من كلامه حينها.
حكاية "أونزو" لم تنته بعد، لأنّ أمامه قضية أخرى، هذه المرة لا تتعلق بكتابة مقال لكن التوسط دون وقوع حرب في الحي، والسبب؟ القصة التي سيرويها لخوص طريفة جدا، غير متوقعة، تكشف كذلك كيف أنّ ما يشعل النزاعات هي الخيالات المشبعة بالأحقاد، خنزير يتسلل إلى قاعة صلاة في مسجد الحي "هو مجرد مستودع حوّل إلى مسجد" فيعيث فيها. طبعا، هناك من صوّر الخنزير جينو –هذا هو اسمه– يذرع القاعة في كل الجهات، وبالنسبة للمسلمين الذي يؤمّون المسجد فإن وجود هذا الخنزير في مكان مقدس يعني إهانة كبيرة لمقدساتهم، ولابد أن يدفع مرتكب هذا الفعل الثمن.
هنا تبدأ الآلة التأويلية تؤدي دورها، تدعمها مخيالات جماعية تشكلت على مبدأ ثابت هو أنّ الآخر هو العدو المتربص. لقد فهموا أنّ الغزوة الخنزيرية على المسجد ليست فعلا معزولا تماما، خاصة وأنّ في الحي من الايطاليين من رفضوا أصلا فتح مسجد بهذا الحي، والسبب أنّ المساجد ليست إلا قواعد خلفية للإرهاب، والمسلم هو مشروع إرهابي لا يعلم إلا الله متى سيفجر نفسه في ساحة عمومية. بالنسبة إلى الإيطاليين، لابد من أخذ الدروس من التاريخ، وأحداث 11 سبتمبر 2001 ليست بالبعيدة، ألم يتم التحضير لخطة التفجيرات من داخل مسجد صغير؟
أما بالنسبة للمسلمين فهذا دليل كافي على أنّ صاحب الخنزير وهو "جوزيف" النيجيري قد فعل ذلك انطلاقا من خلفية كراهية إزاء الإسلام والمسلمين. المناخ مشحون بالتوتر، والمتدينون في حي سان سلفاريو شبه مقتنعين بأنّ حادثة الخنزير مفتعلة لاستفزاز مشاعرهم، وهي لا تختلف عن الرسومات المسيئة إلى الرموز الإسلامية المقدسة، في هذه الحالة، لابد من الاقتصاص من المجرمين وإعلان حرب مقدسة عليهم.
يحاول "أونزو" أن يتوسط بين المتدينين ويوسف للحيلولة دون ارتكاب الحماقات، على الرغم من أنّ يوسف أكّد أنه لم يكن الفاعل، والصور تقول أن الخنزيز هو جينو الذي يملكه.
سيدرك الصحافي في الأخير، أنّ يوسفَ بريءٌ، وأن الذي أدخل الخنزير إلى المسجد هم شلة من الأطفال المشاغبين الذين أرادوا اللهو بهذا الحيوان والتقاط صور له ونشرها في الوسائط الإلكترونية، أما نواياهم فليست أكثر من لعب أطفال.
بسبب سخافة صبيانية، كاد الحي أن يتحول إلى أرض لمعركة دينية، فكل شروط هذه الحرب توفرت، ولم يبق إلا سل السيوف.
يمكن الآن أن نجد رابطا بين القصتين، قصة أونزو مع الحوارات الوهمية، وقصة يوسف مع المتدينين، فالجميع يعيش داخل كون من الأوهام التي وحدها من صار يغذي الحقيقة، فالإعلام اليوم يستثمر في الخيالات التي تغري الناس، وتجعلهم يقبلون على استهلاك المعلومات بنهم ودون وعي نقدي، كما أنّ هذه الخيالات لاسيما حين تكون مغروسة داخل تربة الأحقاد والعداوات القديمة والجديدة ستكون الحائل الكبير أمام إمكانية حصول تفاهم أو حوار ثقافي وحضاري.

الرجوع إلى الأعلى