المنفى الذي عاشه «ديب» كان عاملا محوريا في تحوّل رؤيته الفنية للعالم

في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والناقد الأدبي لونيس بن علي لـــــ»كراس الثقافة»، عن كتابه النقدي الجديد «الفضاء السردي في الرواية الجزائرية/ رواية الأميرة الموريسكية لمحمد ديب نموذجا»، الذي صدر عن منشورات الاختلاف بالجزائر، وهو عبارة عن دراسة نقدية، توسعت على مدار 200 صفحة، تناولت الرواية بكثير من الاحتفاء والتحليل والمقاربات النقدية المختلفة. كما ضمت عدة محاور ومفاتيح توزعت على أبواب متنوعة العناوين، منها: باب «انفتاح المكان، تمزّق الذات»: تناول الناقد من خلاله تيمة المكان وإشكالاته. وباب «الزمن، توتّر الذات»: تناول عدة إشكالات مرتبطة بتيمة الزمن. باب «الهوية الكونية للمكان»، و»المكان وعلاقته بالرؤية السردية». وأبواب ومحاور أخرى غيرها طرقها الكاتب، وفكك مغاليقها بكثير من الأدوات النقدية التفكيكية. لونيس بن علي، الناقد والباحث وأستاذ النقد الأدبي والأدب المقارن في جامعة بجاية، تحدث أيضا في هذا الحوار عن سبب تناوله لمحور «الفضاء السردي في الرواية الجزائرية»، وكذا عن اختياره لرواية «الأميرة الموريسكية» لمحمد ديب نموذجا للدراسة. وفي تطرقه لمستويات اللغة في هذه الرواية، يرى لونيس، أن اللغة ليست وحدها من يبني المكان بل طريقة بناء المكان من خلال اللغة. يعني ضرورة خلق توافق بين المكان الخارجي وبين اللغة كمكان بديل للمكان الأوّل. وفي سياق الحوار، تحدث عن تجربة المنفى التي جعلت الروائي ينظر إلى المكان بكثير من الحساسية العاطفية والجمالية. وخلص في حديثه إلى أن الروائي الجيد هو الذي يساعد القارئ على إعادة بناء الأمكنة في مخيلته، ووظيفته أن يجعل المكان من خلال اللغة مكونا جماليا. واصفا محمد ديب بالروائي الكبير فعلا.

حاورته/ نوّارة لحــرش

في كتابك النقدي الجديد، تناولت الفضاء السردي في رواية «الأميرة الموريسكية» لمحمد ديب، لماذا «الفضاء السردي» في هذه الرواية تحديدا وليس في روايات أخرى لديب أو غيره من الكُتاب؟
لونيس بن علي: يجب أن أوضّح مسألة أساسية وهي أنّ علاقتي بمحمد ديب بدأت من لحظة تساؤل سيبدو غريباً ومستفزاً، بدأ كلّ شيء يوم سمعتُ في التلفزيون الوطني نعياً مقتضباً لروح محمد ديب الذي فارق الحياة بفرنسا، كان ذلك في بداية ماي عام 2003، حينها تساءلتُ، وقد نسيتُ تماما خبر وفاته: ألم يكن «ديب» قد مات منذ سنوات؟ استغربتُ أنّ الرجل كان حيًا في الوقت الذي كنتُ أتخيّله في العالم الآخر. إنّي أنتمي إلى جيل لا يعرف إن كان بعض الأدباء على قيد الحياة أم هم في عداد الأموات، وهذه حالة مأساوية وصلنا إليها، لما أصبحت المؤسسة الثقافية عندنا تقتل المبدعين قبل موتتهم الطبيعية.
ماذا كنتُ أعرف عن «ديب»؟ مجرد شذرات من رواية «الدار الكبيرة»، وبعض الصور بالأبيض والأسود (رمز القدامة) لذلك المسلسل الذي شاهدته لما كنتُ صغيرا ولم أكن أستمتع به طبعا بحكم السن. كانت لحظة موت «ديب» لحظة بداية البحث عن نصوصه الأخرى، قد تكون طريقة سرية لتكفير هذا الذنب، لكني اكتشفت الحقيقة التالية: لقد قتلنا «ديب» لما اختزلناه مرة أخرى في رواية واحدة أو اثنتين.
أما سبب الاهتمام بالفضاء السردي، فالمسألة لا تعدو أن تكون حتمية أكاديمية أملتها علي إرغامات بيداغوجية في البداية، قبل أن أكتشف بالصدفة روايته (l’infante Maure) لأدرك أن هذا الكاتب روائي كبير فعلا.
في الدراسة ركزت على المكان، ليس كبنية ولكن من منطلق «علاقة المكان بإدراكات الإنسان»، كيف برأيك تتأسس علاقة المكان وإدراكات الإنسان بعيدا عن المكان كبنية وكمعطى جمالي له القدرة على الاحتواء، احتواء الإنسان؟
لونيس بن علي: المكان قبل أن يكون مساحة فيزيائية فهو فكرة أو قيمة. من هنا، وبتأثير من قراءتي لكتاب «شعرية المكان» لغاستونباشلار، اكتسبتُ نظرة جديدة للمكان، فأدركتُ أنّ هذا الفضاء هو إسقاط لأفكارنا وعواطفنا ومشاعرنا واستيهاماتنا وأحلام يقظتنا. والأدب هو القناة الفنية التي من خلالها تتجسد هذه العلاقة بين الأمكنة والتجربة الإنسانية، في الأخير ماذا يبقى منها؟ تبقى الذكريات والمشاعر التي تشكلت فيها. الشاعر العربي قديما كان يفهم بعمق الطبيعة الوجدانية للمكان، لهذا لم تخل قصائده من بكاء على الأماكن، لأنه لم يكن يرى الطلل بقدر ما كان يرى الإنسان فيه.
ركزت على أن المكان في رواية «الموريسكية» يتحقق من خلال لغة الرواية، «خطاب السارد أو الشخصية، ليلي بيل». وقلتَ: «اللغة تُحقق وجودا لغويا للمكان». إلى أي حد حققت رواية «الموريسكية» لمحمد ديب هذا الوجود اللغوي للمكان؟ وهل يمكن القول أن اللغة كفيلة بأن تعطي للمكان تحققه ومعناه الرمزي أيضا؟
لونيس بن علي: ليست اللغة وحدها من يبني المكان، بل طريقة بناء المكان من خلال اللغة. يعني ضرورة خلق توافق بين المكان الخارجي وبين اللغة كمكان بديل للمكان الأوّل. في الأخير، وبعيدا عن أي مغالاة شكلية، كلّ ما في النص يكتسب هوية لغوية، يبقى أنّ العالم يعيد تشكيله في مخيلة القارئ، والروائي الجيد هو الذي يساعد القارئ على إعادة بناء الأمكنة في مخيلته.
بين تحقق الوجود النصي والوجود الفعلي للمكان مسافة لغة لا أكثر، ما رأيك؟
لونيس بن علي: وهي مسافة (جمالية) بالمناسبة، وظيفة الروائي أن يجعل المكان من خلال اللغة مكونا جماليا، بتعبير آخر، كتب ديب عن الصحراء، لكننا سنحب تلك الصحراء بكل رمزيتها التي اكتسبتها في روايته، في حين أنّ الصحراء في الواقع وبعيدا عن الإشهار السياحي هي مكان مخيف ومرعب ورمز للموت والخواء.
اعتمدت على القراءة التقاطبية للمكان، نموذجا من النماذج المقترحة لقراءة المكان كمكون سردي؟. هل يمكن أن توضح أكثر وما أهم ما استنتجته واستخلصته من هذه القراءة؟
لونيس بن علي: كان لابد من اللجوء إلى «يوري لوتمان»، فالقراءة التقاطبية تعني أنّ المكان يتم إدراكه من خلال نظام من الأبعاد، وكذا من خلال علاقته بأمكنة أخرى، وديب في روايته «الأميرة المورسكية» لم يقدم لنا مكانا ذا بعد واحد، فالشمال يقابل الجنوب، والمكان المغلق يقابله المكان المفتوح، والمكان الضيق يقابله المكان الواسع. سنكتشف أنّ تلك الأبعاد تساهم في تفجّر الدلالة المكانية في علاقتها بأسئلة أساسية طرحها ديب من خلال شخصياته الروائية. نحن في الأخير، نعيش وفق هذه التقاطبات.
ذهبت إلى القول أن تأثيرات الواقع التاريخي والاجتماعي والثقافي تنعكس على صياغة صورة معينة للمكان، ما مدى هذه التأثيرات في الرواية، أو التي تشكلت في الرواية؟
لونيس بن علي: حللتُ فضاء المكان في هذه الرواية انطلاقا من تجربة «المنفى»، يبدو أنّ قيمة الطرح الديبي للمكان يتأسس في علاقة المكان بالمنفى، وعلاقة المنفيّ أو المهاجر بالمكان هنا وهناك. وعطفا على سؤالك الأوّل، لا نستطيع أن نقرأ المكان في معزل عن التجارب الإنسانية، في الأخير الروائي ليس مهندسا معماريا، يرسم مخططات المنازل دون أن يسأل من سيعيش فيها.

الأدب هو القناة الفنية التي من خلالها تتجسد العلاقة بين الأمكنة والتجربة الإنسانية

«يخضع بناء المكان إلى إستراتيجية معينة، مما يعني أن لكل رواية تصورها الخاص للمكان»، كيف رأيت إستراتيجية ديب في تصوره الخاص للمكان، أو في طريقة خلقه للمكان؟
لونيس بن علي: هذا السؤال هو تتمة للسؤال الذي سبقه، وسأضيف إلى ما قلته سابقا، أنّ تجربة المنفى جعلت الروائي ينظر إلى المكان بكثير من الحساسية العاطفية والجمالية، كيف يمكن أن يتجاوز مأزق المنفى؟ وكيف سيعبّر عن ذلك في عمل روائي؟ ألا يبدو السؤالان جديران بالطرح؟ هما كذلك. إذ نجد أنّ ديب ومن خلال شخصية طفلة تدعى «ليلي بيل» – وهنا يجب أن نلاحظ أن ديب اختار أن تكون بطلته فتاة صغيرة– يبني المكان داخل وعي طفولي. النتيجة أنّ الفتاة التي كانت تتساءل عن المكان البعيد الذي يذهب إليه والدها باستمرار، توصّلت إلى طريقة لاكتشافه، أولا من خلال حكايات والدها، فالجنوب بالنسبة لها حكاية. ثانيا من خلال خيالها أي حكايتاها التي تخترعها حين تختفي في حديقتها الصغيرة، وثالثا من خلال إقامة مقارنة بين الشمال والجنوب، بين الثلوج والرمال. توصّلت إلى أنّ لا فرق بينهما. هنا يمكن أن نفهم أمرا مهما.
الدراسة، أفردت حيزا لمأزق السؤال عن المكان، والهوية والجذور والانتماء، كيف تحددت ملامح أجوبة ديب في هذا النص الروائي «الأميرة الموريسكية»، وهل ترى أن الأجوبة كانت فقط مجرد مأزق آخر لأسئلة لا حد لسقفها؟
لونيس بن علي: يجب أن أؤكد على النتيجة التالية، لم يسقط ديب في رؤية ضيقة وهو يكتب هذه الرواية، بل فتح رؤيته على الهم الإنساني ككل. تجربة «ليلي بيل» في الرواية هي تجربة أي إنسان في هذا العالم، لهذا لا نجد أسماء للشخصيات في الرواية، ولا أسماء للأماكن أو البلدان، كان «ديب» يبني عالما إنسانيا خارج شرنقة القومية مثلا، لهذا فإنّ سؤال كسؤال الهوية «من أنا؟» تخلّص أخيرا من تبعيته القومية الضيقة. أعتبر «ديب» روائيا عالميا لأنه كان يكتب للإنسان. أي للهوية الإنسانية.
في متن الدراسة جاء قولك: «الكاتب يحاول أن يجعل الرواية استمرارية زمنية بين تجربة الحياة المعاشة، وبين تجربة الحياة المتخيلة». فهل هذا يقود بشكل ما أو من جهة أخرى إلى محاولة الكاتب في أن يجعل الرواية استمرارية مكانية بين المكان المعاش فيه وبين المكان المتخيل أو المحلوم به.
لونيس بن علي: والسبب أنّ المنفى الذي عاشه «ديب» كان عاملا محوريا في تحوّل رؤيته الفنية للعالم، فلا أتصوّر أنّه كان يمكن له أن يكتب بكلّ ذلك العمق الإنساني وبكل تلك الرهافة الفنية لو بقي في أرض الوطن، ثم لا يجب أن ننسى أنّ «ديب» حاول العودة إلى الجزائر لكن هناك من وضع العراقيل لتحول دون عودته، حين مات «ديب» لم يحضر جنازته إلا الأهل وبعض الأصدقاء المقربين. هنا سنفهم أنّ التجربة الحياتية تُساهم في توجيه المبدع نحو أقاليم إبداعية معينة.
قلت أن «الرواية لا تقوم على بناء واقعي للأحداث، وخالية من التصور التصاعدي للحدث»، هل هذا لأن الفضاء العام للرواية كان مبنيا أكثر على التخييل، أو لنقل كان يتحايل على استحضار المكان والماضي وتاريخ هوية منسلخة أو منسلبة بفعل الغياب وبفعل مكان آخر احتل حيز المكان الأصل؟
لونيس بن علي: لا يوجد عمل روائي متخيل مائة بالمائة، هذا غير معقول. كل كتابة تنطلق من التقاط عناصر من الواقع أو العالم أو الحياة الشخصية للروائي، إلا أنّ الفرق بين إنسان عادي وبين روائي أنّ هذا الأخير يملك الموهبة والخبرة في وضع كل تلك العناصر في قالب فني والتعبير عنه بلغة مجازية.
أيضا ذهبت إلى القول «أن الحذف الافتراضي كان المهيمن في النص من خلال البياضات والفراغات التي تخللت بنيته وأن وظائف الحذف تعددت». برأيك هذا الحذف الافتراضي، أو الحذوفات الافتراضية التي (كانت متعددة وكثيرة)، هل أخلت بالسياق العام لمتن الرواية، أم أضفت عليه وعليها مسحة إبداعية خدمت النص؟
لونيس بن علي: كانت جزء من البناء الفني للرواية، رواية «ديب» لم تكن رواية الحدث، بل كانت رواية التأمل في النفس الإنسانية الباحثة عن خلاص ما. لهذا لم يكترث بالزمنية الخطية، ولم يعر اهتماما لتحركات الشخصيات في المكان، كان ما يهمه تصوير نظرة طفلة صغيرة للعالم حولها، تركها تخلق العالم في مقاس عفويتها وطفولتها وبراءتها. كان يريد أن يمسك العالم في لحظة نقاء. فنظرة الكبار كثيرا ما تلوثها الأحكام المسبقة.

 

 

الرجوع إلى الأعلى