عن مأساة العبور و خيبة الوصول إلى الآخر

هل نستطيع أن نسمي ما يحدث من تحول في الموضوعات التي طالما أكدت هيمنتها على الرواية الجزائرية بـ (موضوعة العبور)؟ و هل نستطيع أن نعتبر بعض الروايات الصادرة هذه السنة دليلا على هذه التسمية نظرا لما حملته رواية (سييرا دل مويرتي) لعبد الوهاب عيساوي، ورواية  ( شبح الكاليدوني) لمحمد مفلاح و رواية ( الرايس) لهاجر قويديري ورواية (كاماراد، رفيق الحيف و الضياع) للزيواني حاج صديق من حالات انفتاح مجنحة على موضوعات جديدة .

و ذلك من خلال استضافة السرد الجزائري في نسخته الجديدة لموضوعات، و من ثمة لشخصيات              و لإمكانيات سرد جديدة ربما بدت غريبة عن المتن الروائي الجزائري و ذلك من خلال استضافة عبد الوهاب عيساوي لمثقفين و سياسيين إسبان شاركوا في الحرب الاسبانية رمى بهم منطق الحرب منفيين في سجن الجلفة، وكذلك من خلال استضافة محمد مفلاح موضوعة لا يبدو أنها استغلت سابقا في الرواية المكتوبة باللغة العربية و هي موضوعة الجزائريين الذين نفتهم فرنسا الاستعمارية إلى كاليدونيا الجديدة بما تحمله قصتهم من جرح مفتوح على مأساة التاريخ و هو يتجدّد في دماء أقاربهم و أحفادهم في الجزائر، و استضافة هاجر قويدري لشخصية تاريخية عاشت في فترة تاريخية طالما بقيت منسية هي الأخرى  و لم يستغلها المتن الروائي الجزائري هي شخصية الرايس حميدو، و هي الفترة التركية التي لا تزال غامضة في أعين الأجيال الجديدة من المثقفين والمبدعين الجزائريين، وأخيرا استضافة الزيواني الحاج صديق للـ(كاماراد) الإفريقي بما يحمله في عينيه من حكاية مليئة بالحياة و بما يحمله جنوب الصحراء من عبق و أرق    و فقر و غنى و هو (كاماراد) ليس غريبا عنّا طالما هو قريب منّا و موجود بين ظهرانينا، و لكن الغريب هو نكراننا له من خلال عدم اهتمامنا بمأساته الوجودية التي هي مأساتنا و هو يتخذ من الجزائر أرض عبور لعوالم طالما حلمنا بها نحن الحرّاقين الجزائريين كذلك.
    ربما لاحظَ القارئ لهذه الحالات الأربع تقاطعات دالّة على إمكانية تحول بينية السرد في الرواية الجزائرية من خلال تحوّل بينية الموضوعة المهيمنة عليها و انفتاحها على عوالم جديدة لم تتعود عليها الرواية الجزائرية من قبل. سياسيون و مثقفون إسبان يعبرون البحر ليقطنوا في الصحراء الجزائرية و جزائريون يعبرون القارات ليبحثوا في الجزر الكاليدونية عن أشباح أجدادهم و جزائريون آخرون يستيقظون فجأة من كتب التاريخ و يعبرون الأزمنة ليعيدوا جرح التاريخ  إلى واجهة السرد الجزائري و مبدعون غربيون منشغلون بذواتهم يعبرون البحر و الصحراء ليجدوا أنفسهم في جنوبها وجها لوجه أمام مهاجرين نيجيريين عبروا الصحراء الجزائرية ذهابا و إيابا ليعودوا إلى حيث انطلقوا .
°°° °°° °°°
   ربما كان الهوس بالظفر بالتميّز سببا رئيسيا في محاولة تحقيقه سعيا و إلحاحا في تجربة الكتابة بما هي عمل متفرّد بذاته ولذاته يجر صاحبه نحو عوالم خارجة عن المألوف  على الرغم من سباحتها في بحر الفكرة نفسها التي تتردّد كل يوم على مسامع العابرين على النصوص المتخفية في الأفكار المنتشرة كالطاعون في بيت الشاشة المسيطر على الخيال لشدّة ما حوّله الباحثون عن السهولة إلى منطقة عميقة في اللاوعي يجلبون منه موضوعاتهم الجديدة و يصقلون بها (تيماتهم) الروائية .
 يظهرُ، في ما يبدو من زخم تخييليّ و ثراء حكائيّ في رواية (كاماراد)  للزّيواني حاج صديق الصادرة مؤخرا بالأردن، ما يمكن اعتباره تميّزا مبحوثاً عنه عمدا و مُشتغلَاً عليه بعناية ، لا في  المساحة المحروثة التي تعودت الرواية الجزائرية على لَوْكِ موضوعاتها داخلها حتى لكأنها العالم منغلقا على الذات، و لكن في المساحة الشاسعة التي توفرها الذات المرهفة في بحثها عن الجديد في أماكن ربما احتقرها الزمن و المكان و الناس جميعا لشدّة ارتباطها بما تحمله فكرة بؤس التخييل عند المبدعين عن مناطق الفقر و الحرمان التي لا يمكن أن تضيف في نظرهم شيئا ذا بال إلى المدونة السردية الجزائرية. و لعل هذا ما يضفي على رواية (كاماراد) للزيواني إمكانية تأثيث لغة السرد الجزائرية بما لم تتعود عليه من عوالم صحراوية إفريقية بمصطلحاتها و أحداثها و إشاراتها و دلالاتها و رموزها و بهاراتها و مذاقاتها.
°°° °°° °°°
  بين فندقين متناقضين أحدهما في مدينة كان الفرنسية الواقفة على مهرجانها السينمائي الذي يعكس حالة التفنّج المنقطعة النظير و الآخر في نيامي عاصمة النيجر المطل على أفقر حيّ عشوائيّ يعكس حالة البؤس المنقطع النظير يسافر بنا الزيواني منذ البداية إلى عالم المتناقضات بما هي دافع لتفجير طاقة السرد في أبهى مظاهر عفويته و براءته و انسيابيته و هو يزحف تارة على رمال حارة مبديا قنوطه من الطبيعة و ما وفرته من مضادات غير حيوية لإنسان منقوص من كل شيء إلاّ من حلمه في تجاوز المعوقات الوجودية التي تحاصره من كل جانب، و تارة أخرى تحت رمال حارة كذلك بما تفجره من حالة وجودية لإنسان عارٍ إلاّ من ذاته و غير مستأنس بغير كينونته في مواجهة الصعوبة المتمثلة في العزلة الجغرافية ( أرض بلا منفذ على البحر)  و العزلة الحضارية (أرض بلا منفذ على الحداثة) و العزلة الوجودية (أرض بلا منفذ على الإنسان). إنه الفقد بأتمّ معنى الكلمة ..الفقد المتمثل في اشتهاء الماء  و اشتهاء المنفذ الجغرافي للوصول إليه و اشتهاء التضحية بكل شيء غالٍ حتى و لو كان بقرةً حلوبا من أجل الموت فيه، لا لشيء سوى لتحقيق حلم الحياة كما تراه عينان شغوفتان بالضوء للبطل (مامادو) الشغوف بالوقوف على شاطئ المفقود في واقعه حدّ المحق و الموجود في حلمه حدّ التخمة.
   في حالات كهذه لا يمكن للبطل( مامادو) إلا أن يكون معبرا عن خيبة ذاته في مواجهة ذاته التي تواجه الآخر (المخرج الفرنسي جاك بلوز ) الآتي هو الآخر من أمكنة معكوسة للبحث      في خيبة ذاته عن للبحث عن تميّزٍ افتقده في موطنه. عالمان متناقضان يلتقيان بصدفة التاريخ و تلكؤ الجغرافيا من أجل تبادل خبرات الذات المتشظية. إنهما عالمان منتقضان متصارعان على النجاح الذي لا يمكن أن يكون إلا بهيمنة أحدهما القويّ على الآخر الضعيف، و متوادان في الوقت نفسه في محاولتهما تجاوز الفشل الذي جربه كلّ منهما في سعيه للوصول إلى الآخر:
-عالم البطل ( مامادو) الفاشل في تحقيق حلمه المتمثل في تغيير موضوعة الحياة كما كانت تنسرد في واقعه المرير في النيجر و الطامح في الذهاب إلى الشمال المنقِذ بوصفه حلّ نهائيّ،
- و عالم المخرج ( جاك بلوز) الفاشل في تحقيق حلمه المتمثل في تغيير موضوعة التخييل السينمائي كما كانت تنسرد في واقعه السنيمائي الغربي المرير و الطامح في الذهاب إلى الجنوب المنقذ كحل نهائيّ.     الشخصيتان تريدان تغيير واقعهما المرير من خلال البحث عن موضوعة جديدة للحياة كما يعيشها الغرب عند البطل النيجيري، و من خلال البحث عن موضوعة الحياة كما يريد المخرج الفرنسي تحقيقها في مشروع فيلمه. إنها حكاية الخيبة المتبادلة بين بطلين لا يجمع بينهما غير طموح كل منهما ليكون، في لحظة ما، في مكان الآخر لتحقيق ما لا يستطيع تحقيقه في مجتمعه نظرا لانغلاق مجتمعه على إمكانية الانفتاح على النظرة الأخرى.
°°° °°° °°°
    و مثلما تبدي الرواية التعلق الظاهر و المبالغ فيه للبطل (مامادو)  بشخصية المخرج ( جاك بلوز) المنقذ نظرا لفارق ما تقدمُه الحياة لأحدهما بالنظر إلى الآخر، فإنها تبدي كذلك التعلق الباطن و المبالغ فيه للخرج السينمائي بشخصية البطل (الحرّاق) و هي تحكي قصة خيبتها جراء مغامرة الهجرة إلى الشمال.    ربما كانت موضوعة الهجرة التي لم تعد إلاّ (حرقة) نحو الشمال من موضوعةً مهيمنةً بصورة    أو بأخرى على عالم التخييل و السينما والسرد في السنوات الأخيرة نظرا لحضورها الواقعي في حياة الدول المصدّرة للمهاجرين و في حياة الدول المستقبلة لهم و ما يتبعها من تداعيات إنتاج قيم طالما اعتقد الإنسان المعاصر أنه محاها من سلوكياته الحديثة و منها تهريب البشر والمتاجرة بهم            و استغلالهم غير الإنساني المدعوم بأنظمة عصرية للاسترقاق و ابتزاز إنسانيتهم من خلال تعميق مأساتهم الوجودية التي تنتمي في العموم إلى أنظمة مغلقة سياسيا و منهكة اقتصاديا و غير مبصرة ثقافيا.    
 غير أنه عندما تنطلق الموضوعة نفسها من عوالم مختلفة عن العادي و خارجة عن المألوف فإننا سنكون في هذه الحالة أمام صورة نادرة من السرد المفعم بالحكاية كما وجب أن تكون على الأقل في نظر المخرج السينمائي الباحث عن غرائبية مفقودة: ساذجة في تشريحها لذاتها و عفوية في توصيفها لعالمه و رامزة في إحالتها إلى غبنها و مليئة بالفوارق الحضارية في فرضها للمقابلة بين رجلين ينصت أحدهما باهتمام بالغ إلى الآخر من داخل فندق تطل غُرَفُهُ على أفقر حي شعبيّ في نيامي بما يحمله الحي الشعبي من رمزية الفقر و العوز و قلة النظافة و كل ما يمكن أن يكوّن كليشيهات مشهورة متداولة عن دول جنوب الصحراء الأكثر فقرا في العالم و هي زيادة على ذلك لا تملك لها منفذا على الماء/ البحر الذي سيصبح رمزا للحياة و للموت في الوقت نفسه.
°°° °°° °°°
    يحاول الزيواني حاج صديق الخروج من منظومة السرد الجزائرية المتشحة منذ مدّة  بعوالم باتت تشكل نسبة كبيرة من موضوعاته المكررة و المطبوعة بثلاثية الدين و الجنس والسياسية التي لا تكاد تفارق مخيال الروائي الجزائري لحظة واحدة حتى و إن حاول الروائيون تغيير زاوية النظر إليها في كل عمل روائي جديد. و لعل هذا الخروج هو الذي يجعل من موضوعة الصحراء - كما كانت في روايته الأولى  (مملكة الزيوان)- الأقرب إلى ملء عوالم السرد التي يقترحها الزيواني في عمله الثاني بالنزول إلى جنوب الصحراء حيث تربض إمكانيات استغلال فضاءاته كطاقة إبداعية كبيرة تعكس مرآة أخرى من مرايا علاقاتنا نحن الجزائريين بالعالم المحيط بنا لم تنتبه إليها الرواية الجزائرية من قبل كما لم تنتبه إلى إمكانيات تيمية كبيرة أخرى نظرا لانشغالها بالمواضيع السُريّة التي أدخلت الرواية الجزائرية في دائرة مفرغة من الحكايات النمطية التي لم تضف إلى السرد إيّ متعة جديدة.
    و لعل هذا هو الجديد الذي يسعى الزيواني حاج صديق إلى تحقيقه في روايته هذه  آخذا      في عين الاعتبار قربه من منابع الحياة التي تطعم سرده بخصوصية صحراوية إفريقية خالصة ذات علاقة وطيدة  بجزء هام من جزائريتنا الممتدة إلى عمق الصحراء. و لعل هذا ما ينساه المثقف الجزائري عموما في بناء علاقته الصمّاء بشمال وطن ربما كان في نظره أوسع من سرد و لكنه أضيق من تخييل في نظر  احتمالات ما يمكن أن تحققه الرواية الجزائرية. و لعل رواية (كاماراد)، مثل الروايات الأخرى المذكورة،  و هي تبحث عن هذا للتميّز في التيمة، تضيف خاصية جديدة إلى خصائص الرواية الجزائرية المعاصرة و هي تبتعد عن المساحات المحروثة و ترحل بإمكانياتها السردية نحو عوالم جديدة يكون الزيواني حاج صديق أحد من يكتبون فيها بعيدا عن السرب و لكنه من قريبا جدا من النبع.

الرجوع إلى الأعلى