العالم فقد الذاكرة

عقب صدور روايته الأخيرة «عدد صفر» العام الماضي أجرى كريس والاس مسؤول مجلة «أنترفيو» الأمريكية حوارا مع أمبرتو إيكو في مدينته ميلانو أين عاش الكاتب الإيطالي الأشهر  و التقى الرجلان في مكتبة إيكو  بين أكثر من 50 ألف من الكتب، فكان هذا الحوار الأخير للكاتب الذي نشرته المجلة في الثاني من نوفمبر 2015.  رحل إيكو عن عالمنا الأسبوع الماضي و ننشر هنا ترجمة لنص الحوار من موقع المجلة الإلكتروني.

ترجمة: عمر شابي

كريس والاس: حينما كنت في ميلانو الشهر الماضي، طفت كثيرا مثل شخصيات «بندول فوكو» محاولا إيجاد دار النشر التي يعملون بها. لكن دون جدوى...(ضحك كلانا)
أمبرتو إيكو: إنها غير موجودة. لقد اخترعت الشارع.
هناك سطر في «العدد صفر»: «كلما عرف الشخص أكثـر، كلما كانت الأشياء خاطئة». و كولونا كان يشعر بهذا النوع من القلق حيال الحياة المدققة كثيرا. أقصد أنه كان يشير إلى نفسه بدعابة على أنه خاسر، و هذا ليس جديدا، نراه بحيوية في لوانا، و يوجد في غالبية أعمالك- أن الحياة الفكرية، حياة القراءة، تأتي على حساب الحياة التي نعيشها.
بكل تأكيد. في حالة كولونا، حاولت تقديم شخص في حالة فشل تام في الحياة، و كان منغمسا بقوة في تخيلات حياته الأدبية عما هو في الحياة الحقيقية. و سؤالك يجعلني أفكر أن شخصيات بندول فوكو كانت مجموعة مثقفين ضاعوا في تخيلاتهم الأدبية، دون أن يكونوا قادرين على التعاطي مع الحقيقة.
حسنا، تماما. لهذا السبب أنا أتمثل نفسي فيهم كثيرا.
و هذه ليست مشكلتي (ضحكنا سويا) مثلما أكتب قصصا عن المؤامرات و الشخصيات المصابة بالبارانويا، بينما أنا في الواقع شخص متشكك للغاية. و كنت طيلة حياتي معنيا بالشؤون السياسية، إذن كنت أواجه الحقيقة. هل تعرف أحيانا ليس صحيحا ما قاله فلوبير، أن «مادام بوفاري هي أنا». أحيانا شخصياتي ليست هي أنا.
إذن منزلك في الريف ليس هو المكان الذي أجرى فيه شخوص بندول فوكو طقوس الدرويديين. ليس المكان الذي خبأ فيه لمبو كتاب الرسوم في لوانا. أنت مسموح لك بأن تختلق – رغم أن أناسا مثلي يحاولون قراءة السير الذاتية في كل ما تكتبه. و بالحديث عن هذا لقد تسليت كثيرا على حساب الصحف و وسائل الإعلام في "العدد صفر". كان هذا موضوع  إثارة لديك منذ زمن بعيد. في مكان ما من الكتاب سأل أحد الناشرين بطريقة جدلية «هل الصحف تتبع المجريات أم تخلق المجريات؟». الجواب الضمني هنا أن الصحف تقود الطريقة التي نفسر بها التاريخ.
صحيح. مثلما تعرف، لسنوات عدة كتبت مقالات و نصوص للصحف، من الداخل. إذن انتقاد الصحف كان موضوعا تعاملت معه منذ مدة طويلة. في لحظة ما قررت أن أحول ذلك إلى رواية. أحد المشاكل التي ناقشتها على الدوام كانت رفض التمييز بين التعليق و الواقعة. الصحيفة تغلف كل واقعة بتعليق. إنه من المستحيل أن نقدم وقائع مجردة بدون أن نقوم بوضع وجهة نظر. في هذا المجال من الطبيعي أن تقوم الصحف بصناعة رأي القراء. حسنا، الصحيفة يمكنها أن تواكب المجريات و الدوافع، و رغبات القراء. خذ الجرائد المسائية الانكليزية إنها تتبع رغبات القراء الذين يهتمون فقط بالإشاعات عن حياة العائلة المالكة. لكن حتى الصحف الأكثر موضوعية، و الجادة في العالم ترسم الطريقة التي يمكن أو يجب على القراء التفكير بها. لا مناص من هذا.
هناك جانب مهم، المجلة التي تكتب لها عادة «ليسبريسو» قامت مؤخرا بتسريب موقف البابا من مسألة التغير المناخي، و تسبب ذلك في حساسية- لكن قولبة أفكارنا و قراءتنا للتاريخ موضوع محوري في «العدد صفر»، و في الكثير من أعمالك، بما فيها غير الروائية، و منه أنت ترينا بما أننا مجتمع يعيد كتابة التاريخ باستمرار، ندقق فيه و لا نصنعه بالطريقة التي جعلت شخصية الرواية براغادوسيو يعيد كتابة تاريخ موسوليني. إننا على الدوام نبدو كأننا نغير التاريخ، نطوره و نكتب على هوامشه، و نفعل ذلك بتاريخنا الشخصي، و منه نحن نبدل ذكرياتنا، نعيد تفسيرها، مثلما نفسر الأحلام.
كنت على الدوام منبهرا بالشخصيات التي تتملكها البارانويا الذين يتخيلون المؤامرات. أنا منبهر بهذا بطريقة نقدية. بندول فوكو كان مثالا غريبا عن هذا النوع من الأشخاص. بينما «شفرة دافنشي» لدان براون أخذت تلك الشخصيات على محمل الجد. لقد قلت أن دان براون أحد شخصياتي من بندول فوكو (يضحك). حسنا، لكن شخصيا كتبت على الدوام ضد هذا النوع من البارانويا الثقافية. أنت محق عندما تقول أننا على الدوام نعيد صناعة التاريخ. ذكرياتنا هي باستمرار إعادة بناء تفسيرية للماضي، و مثلها آفاقه. لكن شخصيات رواياتي هي التي تعيد كتابة التاريخ (ضحكنا) أحاول كتابته بالطريقة الصحيحة.

نظريات المؤامرة تعبير عن هروبنا من تحمل المسؤولية

لماذا برأيك نقع تحت تأثير نظريات المؤامرة؟ هل هو بسبب عصابنا، و القلق الذي نعيشه ما يجعل تلك النظريات ذات جاذبية؟
آه نعم. لو فتحت الأنترنت، ستجد الكثير من هذه الأشياء، و بالتالي فهي نوع من المرض الاجتماعي. أتعلم، قبل 60 أو 70 سنة، كتب الفيلسوف الكبير كارل بوبر مقالة ذات تأثير كبير حول كل نظريات المؤامرة. أظهرت أنها كانت على الدوام طريقة للتنصل من مسؤولياتنا.
إنها نوع مهم من المرض الاجتماعي، نقوم من خلاله بتجنب التعرف على الحقيقة مثلما هي، و تجنب مسؤولياتنا أيضا. سأعطيك مثالا غبيا و أساسيا: أخذت سيارتي مساء السبت و سرت على الطريق السريع، كان هناك زحام شديد. ثم قلت من هو المسؤول عن كل هذا؟ المسؤول هو أنا و كل الأغبياء مثلي الذين أخذوا سياراتهم مساء السبت على الطريق السريع. لكن أنت تعلم لكي أتجنب المسؤولية، أحاول أن أجد شخصا ما مسؤولا عن الزحام. المؤامرات و كل النظريات حول المؤامرة هي أيضا جزء من شريعة الزيف. و أنا منغمس في كل كتاباتي النظرية منها و  الروائية بإنتاج الزيف. مجموعتي من الكتب النادرة تتضمن فقط الكتب التي لا تقول الحقيقة (يضحك) أنها مزيفة. بالمناسبة ليس من بينها غاليليو لأنه قال الحقيقة، لكن فيها بطليموس لأنه كان مخطئا. كنت على الدوام مهتما بالأشياء المزيفة و المختلقة لأنني كفيلسوف، أنا مهتم بالحقيقة. لكن لكي تقرر ما هو حقيقي فهذا أمر صعب، غالبا ما يكون تحديد ما هو خاطئ سهلا. و بالمرور عبر الخاطئ هناك إحتمال أن تفهم شيئا ما عن الحقيقة. هذا موقف فلسفي خذه كما هو.
يبدو أنني أتذكر أنك وصفت الجمال ذات مرة بنفس الطريقة، من أنه من السهل أن تصف القبح عما لو كنت تريد وصف الحسن.
حسنا هذا لأن القبيح خلاق أكثر من الجميل (يضحك) الجمال يكون غالبا في صفوف معينة، أعتقد أن القبح فيه تسلية أكثر من الحسن.

لوسيو جيلي كان يقود منظمة سرية صنعت كل السياسة في إيطاليا

المجتمعات السرية التي تكون إما مستحضرة أو مسؤولة عن التحكم في المؤامرات من خلال أعمالك تجذبني أيضا، بقدر ما هي في أعمال لنقل بورخيس أو كوبريك. كل التنظيمات السرية على الأقل مثلما تظهر في الأعمال المتخيلة تجذبني، أعتقد لأنه هناك ميل للانضمام لهذه المجموعات من المختارين الذين يملكون بعض الأسرار حول كيف نعيش. لكن في حياتي الحقيقية لا أريد أن أكون عنصرا منها.
اسمع، التنظيمات السرية، مثل المؤامرات هي موجودة، كانت هناك مؤامرة لقتل يوليوس قيصر. كانت هناك الكثير من المجموعات السرية في القرن التاسع عشر. المشكلة الوحيدة هي أن تلك المؤامرات حين تكون موجودة يتم اكتشافها بعد برهة، حتى و لو نجحت مثل المؤامرة على يوليوس قيصر بعدها تم كشفهم، أو لا ينجحون مثل المؤامرة على نابليون الثالث و الذين تم كشفهم أيضا. الأمر نفسه مع التنظيمات السرية. نعرف هذا، في إيطاليا كان نوع من التنظيم السري يقوده السيد لوسيو جيلي، يقوم بتحديد الكثير من الحقائق و الأحداث في السياسة الإيطالية. المشكلة الحقيقية هي حين تتخيل التنظيمات السرية بينما هي غير موجودة. هناك الكثير من المقالات و المواقع على الأنترنت حول الموضوع، دعنا نذكر مجموعة بيلدربرغ ( مجموعة من القادة السياسيين و الماليين و الثقافيين من أمريكا الشمالية و أوروبا)، و اجتماعاتهم السنوية، التي هي ليست سرية على الإطلاق. الناس يلتقون خلالها. و يتحدثون. رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ليس مجبرا على الذهاب إلى منتدى دافوس لكي يقوم بمؤامرة سرية مع -لا أدري- ليكن الرئيس الفرنسي. يفعلون ذلك بالهاتف. الناس يعتقدون أن هذه المجموعات تتآمر على مصير العالم. لكن حين تتخيل المجموعات السرية و المؤامرات فهي طريقة تتفاعل بها مع الحياة الاجتماعية السياسية. لأنك قلت «لا نعلم من هم. و لا يمكننا القيام برد فعل دون تفكير» فهي بالتالي طريقة للإبقاء على الناس بعيدين عن المجال السياسي.
هذا عدمي، قهري، و في الواقع فإن أكبر خدعة يمكن أن يقوم بها تنظيم سري هي الإيحاء للناس بأن المجموعات السرية موجودة، و منه يشعرون بعجزهم و يصيرون لا مبالين و فاترين، ما أهمية خورخي لويس بورخيس بالنسبة لك؟
كبيرة جدا. هناك كتابان أثرا في. أحدهم جويس و عنه كتبت أيضا كتابا، و الآخر كان بورخيس، الذي أعشقه. كان هناك ملتقى في اسبانيا قبل عشر سنوات حول فكرة علاقتي ببورخيس. كانت ماريا كوداما زوجة بورخيس هناك، بورخيس أثر في كثيرا.

لو قرأ بوش ما كتب الإنكليز و الروس عن أفغانستان لما غزاها

لديك ذاكرة خارقة. تحدثت عن فكرة قلعة الذاكرة، و أنا متعلق بها كثيرا، كما لو أن لدي الكثير من الذكريات تحتاج إلى مكان يساعد على تقويتها و تقيم فيه. لكن ربما في الماضي كان الناس لديهم ذكريات أكبر عما لدينا. في الواقع في مرحلة ما من التاريخ كان الناس يحتفظون بها في رؤوسهم، و كان الناس يعرفون ذلك. ما الأمر عندك؟ ما حال ذاكرتك الآن؟
اسمع، لدي ذاكرة جيدة، لكن سأكون مهتما بالذاكرة حتى و لو كانت ذاكرتي سيئة، لأنني أعتقد أن الذاكرة هي روحنا. لو فقدنا ذاكرتنا كلية سنكون بلا روح. و هذا ما يثيرني في الوقت الحالي، فقدان الذاكرة كظاهرة عامة كونية، خصوصا لدى الأجيال الجديدة. أعني أن جيلي كان يعرف تقريبا جيدا ما حدث خلال 50 سنة قبل مولده. الآن أتابع برامج الترفيه و الألغاز، لأنها تعبير قوي عن مجال الذاكرة لدى الشباب، و هم قادرون على تذكر كل شيء في حياتهم تقريبا لكن ليس قبل، و أحيانا لا يتذكرون أشياء حدثت في حياتهم، و اعتقد أن هذا النوع جعلهم محكومين بالعيش في الحاضر الأبدي. ربما تكون الأنترنت قد ساهمت في ذلك، لأنها تعرض الحاضر الدائم. صحيح أنه من خلال الأنترنت لو كنت تجيد استخدامه يمكنك أن تعيد صياغة التاريخ. لكن عليك أن تكون موهوبا للقيام بذلك. على العكس يبدو من خلال الحاضر الأبدي أن الناس يفقدون ذاكرتهم. كتبت مرة مقالا لإبراز لو أن بوش قرأ كل الوثائق الروسية و البريطانية من القرن التاسع عشر حول أفغانستان لما فعل ما قام به في القرن الحادي و العشرين. كان يمكنه أن يفهم ما مدى صعوبة أن يتحكم في تلك البلاد. هو على الأرجح لم يقرأها ( يضحك)، إذن هذا فقدان للذاكرة يمكن أن نجده في السياسة.  لكن حتى هتلر، لو أنه أخذ بعين الاهتمام ما وقع لنابليون حينما غزا روسيا، لما قام بغزو روسيا بسهولة. حسنا هناك على الدوام حالات فقدان للذاكرة. لكن يبدو أن هذا هو المرض الشائع في زمننا، و أنا منشغل بهذا الشأن. أنا أتابع أحفادي لمعرفة ما يحدث لهم، إن كانوا يدرسون في مدارس جيدة، نعم و لكن أيضا لمعرفة ما إذا كانوا يعرفون ما حدث قبل ميلادهم. لكن هناك سبب آخر يجعلني مهتم بالذاكرة. في مجموعة كتبي النادرة هناك مخطوطات قديمة عما يسمى تقنيات الذاكرة، كانت مهمة في عصر النهضة و المرحلة التي تلتها و اللاحقة لها.

الفاقدون لشخصياتهم هم الذين يظهرون على التلفزيون

من المهم أن تقول أن الذاكرة هي نوعا ما روحنا. أنا مندهش في الوقت الحالي من الصورة التي يقدم بها الناس أنفسهم، بعبارة أخرى هم يقدمون العالم و ليس أنفسهم، بالضرورة لكن رمزيا يجعلون من أنفسهم علامات تجارية. هل تعرف ما أنا بصدد الحديث عنه، أين يصنع الناس صورا عامة عن أنفسهم؟
يتباهون أو يتفاخرون نعم شيء من هذا، الشخصية التي يظهرونها للعام، مثل لوغو..
هناك عالم اجتماع بولندي زيغمونت بومان الذي لديه نظرية جد مقنعة عن المجتمعات السائلة. نحن نعيش في مجتمع أضاع في الكثير من الأماكن فكرة الدولة، الأمة. الأحزاب الكبيرة في إيطاليا الديمقراطيون المسيحيون، الشيوعيون تم حلهم. ليس هناك مركز للمجموعة البشرية. إذن الحل الوحيد للأشخاص الذين يفتقدون هذه النقطة المرجعية هو الظهور على التلفزيون. أنهم أيضا مستعدون للظهور على التلفزيون ليقولوا أنهم ديوثيون أو شيء من هذا القبيل (ضحكنا سويا). كل الأشياء التي كان في الماضي يتم حفظها كأسرار صارت اليوم معلنة. كل التدوينات، فايسبوك، تويتر صنعها أناس يريدون إظهار قضاياهم الخاصة مقابل شيء زائف، محاولين الظهور بما هم ليسوا عليه، لبناء شخصيات أخرى، و هذا فقدان حقيقي للشخصية.
هل أنت على الخط؟ على تويتر؟ ما هو اسمك على وسائل التواصل؟
لا، لا أنا مستهلك قديم للورق. لا يمكنني الاستغناء عن قراءة صحفي كل صباح. أستعمل التلفزيون للأخبار، و برامج الألغاز و أحيانا للأفلام الجيدة. أنا لست على فايسبوك و لا على تويتر لأن غاية حياتي هي أن أتجنب المراسلات. أتلقى الكثير من المراسلات من كل العالم، و بالتالي أحاول تجنب ذلك. أستعمل الأنترنت، البريد الإلكتروني طبعا كلما احتجت لذلك. أحيانا اذهب لأتطلع على ما ابتكره الناس على تويتر، في المدونات و ما شابه. مؤخرا في ندوة صحفية سألوني عن الأنترنت و قلت أنه مع وجود 7 ملايير شخص يعيشون على هذه الأرض، هناك كمية كبيرة من المعتوهين و الحمقى، حسنا. في الماضي كان هؤلاء يعبرون عن أنفسهم مع أصدقائهم أو في الحانة بعد تناول كأسين أو ثلاثة من مشروب ما، ثم يقولون كل سخافة و الناس يضحكون. الآن لديهم الإمكانية لإظهار أنفسهم على الأنترنت. و هناك إلى جانب ما ينشره الكثير من الناس المثيرين و المهمين – حتى البابا يكتب على تويتر- لدينا كمية كبيرة من الحمقى. مشكلة كبيرة من الأنترنت هي كيف نصفي المعلومة، كيف نرمي جانبا ما هو غير موثوق أو ما هو سخيف، و الحفاظ فقط على المعلومات المهمة. لكن لا يمكنك أن تتخيل ما نوع الثورة التي حدثت في الصحف الإيطالية حينما قلت ذلك.

العنصرية لا زالت تحت السطح في أمريكا

أريد أن أسألك عن اهتمامانا الأخير بالعلم الكنفدرالي في الولايات المتحدة و سلطة الرمز. ردنا على إطلاق النار في تشارلستون كان في جزء منه إنزال العلم الكنفدرالي، الذي كان يرفرف على مبنى حكومة كالورينا الجنوبية حركة رمزية لنزع رمز آخر.
لكنك تعلم، هناك بقايا من العنصرية عبر كل العالم. حقيقة أنك تعيش في مجتمع شامل، يتحرك فيه الناس و يلتقون. في إيطاليا حاليا مئات الأفارقة يأتون إلى شواطئنا يوميا. ومع ذلك ظهر العنصريون في بلدنا. هناك على الدوام طبقة من العنصريين تحت الأرض في الولايات المتحدة و في بلادك هناك مشلكة أخرى أنكم لديكم الكثير من قطع السلاح. هنا حين يصير شخص ما مجنونا غالبا ما يأخذ سيارته و يحاول قتل  الناس بها. في حالة الشخص الذي قتل كل من كانوا داخل الكنيسة، يبدو أن الوالد أعطاه البندقية بمناسبة عيد ميلاده، و هذا مشكل مميز لديكم.
شيء مما أنت معروف به على الأقل في أمريكا هو الخلط بين ما نعتقده ساميا و الثقافة الضحلة. توما الأكويني مع كتب الرسوم، الكونت أوف مونتي كريستو مع أرسطو. كل ذلك على صفحة واحدة و الكل يتعايش، أعتقد أننا وصلنا إلى مرحلة الخليط كثقافة.
أنت تعرف أنهم يحتفلون بالعيد الخمسين لكتابي «أبوكاليتيسي إي أنتيغراتي» ( الفظيع و المتكامل) نشرته عام 1964، و احتفلوا العام الماضي، لكنني تلقيت فقط الكتاب مع الكثير من النقاش. نعم أكيد لست أول من تطرق للثقافة الشعبية، كتبت عن سوبرمان، تشارلي براون، و غيرهما كنت دوما مهتما بالأدب الشعبي الكونت أوف مونتي كريستو و حتى الأقل أهمية من الانتاجات، قلت حينما تبلغ الخمسينات من عمرك عليك أن تتوقف عن الاهتمام بالحاضر و أن تكتب فقط عن شعراء العصر الالزابيثي. لم أكتب مطلقا عنهم، لكنني رغبت في قول ذلك لطلبتي، الشبان أكثر قدرة على فهم ما يجري حاليا. و حين يتقدم بك العمر من الأحسن أن تتحدث عن أشياء تفهمها أكثر منهم. لست مطلعا عما يجري حاليا من إصدارات في كتب الرسوم، و هذا يبدو صعبا بالنسبة لي (يضحك)، أواصل متابعة الأدب الشعبي، لكن لأجل المتعة الشخصية. حين لا استطيع النوم ليلا أقرأ رواية بوليسية، مثلما يفعل أي شخص طبيعي. حين حاولت فعل شيء عن الثقافة الشعبية في الستينات، حاولت تطبيق معايير النقد المخصصة عادة للثقافة الرفيعة. كان ذلك فضيحة بعض الناس قالوا «كيف تحلل سوبرمان بنفس الوسائل التي تحلل بها الكوميديا الإلهية؟» و أجبت أن كرامة البحث ليس مصدرها الموضوع، لكنه الطريقة، المشكلة هي أن تستعمل الطريقة الصحيحة لتحليل ما يراه الكثيرون مجرد هباء.

كتبت حينها أن سوبرمان كان نوعا من الدين و الآن ربما هو المخيال الشعبي في أمريكا، الطريقة التي نرفع بها الأعلام في العاصمة الفيدرالية أخذت منك الكثير، كتبت في 1994 أن ماكينتوش كاثوليكية و آي بي أم بروتستانتية، لكنهما الآن شهرتان كبيرتان و هما آلهتنا الجديدة.
نعم، نعم في كل وقت كانت تسود ثقافة شعبية. أتعلم هناك قصة رومانية قديمة  يؤدون فيها تراجيديا، ووجد أحدهم في المسرح أن دببة تتقاتل، و كل الناس تركت المسرحية التراجيدية و ذهبت لمشاهدة الدببة (ضحكنا سويا) أنه شيء مألوف في كل الحضارات و الثقافات. لم أجد الأمر تراجيديا أعتقد أن الناس في بلدكم لا يريدون فقط مشاهدة الأبطال الخارقين بل هنالك شيء آخر. تلفزيوناتنا مليئة بالسخافة. برلسكوني يعمل على أن يكون معدل مشاهدي برامج قنواته هو 12 سنة.
في كل أعمالك يذهب الناس إلى المطعم الجماعي و إلى المقاهي و البارات و يتبادلون الأحاديث و الضحكات و يكشفون المؤامرات و يتعرضون للسحر و التسممات و يقعون في الحب، هل هذا صحيح في حياتك، هل تذهب لمجالسة طلبتك  أو زملائك، تشرب و تتحدث عن ملابس الجينز و السياسة و القواعد السرية التي تحكم العالم؟
حسنا هذا مهم للتخيل. أذهب قليلا الآن بسبب نظام الحمية الغذائية الذي أتبعه، كنت سعيدا بالتدريس في جامعة بولونيا، لأن بولونيا مدينة وسطها قديم تاريخي مبني كله من الأقواس، الأقواس معناها أن الناس كبيرهم و صغيرهم يمكنهم المشي أثناء سقوط المطر، و تحت الأقواس كانت عدة حانات و مطاعم. الطلبة يذهبون هناك مثلي، في رسائل دكتوراه وجدت هوامش من رسائل مماثلة كان أصحابها على وشك تقديمها، هذا يعني لي أن الطلبة يتبادلون الأحاديث و الأفكار في المطاعم و البارات، لقد حدث نفس الشيء في بدايات نشأة الجامعات الأوروبية في القرون الوسطى، كانت هناك أغاني يتم أداؤها و نحن في الحانة، أغلب حياتنا كانت هناك. من المهم أن يجلس الناس معا و يتحدثون، أخشى على الناس الذين يقضون لياليهم على الأنترنت و لا يذهبون للبارات.
أنا واحد منهم، حين لا أكون في البيت أقرأ كتبك، و الشيء الذي أطرحه منه هو الضغط و موازنة الحجة العقلية و سلطة الرمز و نوع من السحر. كل شخصيات رواياتك كانت تبحث عن هوية، عن معنى لحياتها ، هل جاء هذا من حياتك الخاصة كيف تبحث عن المعنى؟
هذا أمر صعب للإجابة عليه، لأنني أفعل ذلك طيلة اليوم. حين أقرأ الصحف، كتابا، أو أنظر إلى الناس من حولي أحاول... تعلم أن رولان بارث قال مرة أن السميائي أو السيميولوجي مثلما كان يطلق عليهم حينها هو الشخص الذي يمشي في الشوراع و حين يرى الناس فيها أشياء يرى هو المعنى. هذا سلوك حقيقي. أن ترى كل شيء ذو معنى حتى الأشياء الأقل أهمية، لتثبت شيئا، حتى و لو كان أكبر المسائل في الحياة. أن تكون فيلسوفا محترفا هو أن يكون التفكير في الأشياء الكبيرة و الصغيرة طبيعيا لديك. إنها المتعة الوحيدة (يضحك).

 

الرجوع إلى الأعلى