الدكتاتور عاريا من جبروته في حضرة مخاوفه الطفولية
عرّت مسرحية “تيك تاك بوم” المقدمة أول أمس الخميس بركح مسرح محمد الطاهر فرقاني بقسنطينة شخصية الدكتاتور، بعد أن جعلت منه ضحية لمخاوفه ووساوسه الطفوليّة وجرّدته من جبروته وقناع القوة الذي يختبئ خلفه خارج بيته.
واتخذ العرض، المُقتبس عن مسرحية العدّ التنازلي لمكبث للكاتب العراقي علي عبد النبي الزيدي، من الهزل والسخرية السوداء المواد الأساسية لرسم لوحة عبوسة وبائسة عن معاناة شخص مريض نفسيا يظنّ نفسه جنرالا مستبدّا صار حبيس منزله، بعد أن سُلبت منه قوته وسلطته وتفرق من حوله الأتباع والأصدقاء، ثم طوّر الخوفُ لديه هذيانًا سمعيّا بوجود قنبلة في منزله، حيث صار يخيّل إليه صوت عقارب مؤقّت قنبلة على وشك الانفجار، فيحمل زوجته ومساعده الوحيد الذي بقي معه على البحث عن القنبلة، كما أصبح يتخيل مشاهد لا وجود لها، وتضاعف من مخاوفه، دون أن يصل إلى ما في وسعه أن يبدّدها.
ولم يختر مخرجا المسرحية زمنًا كرونولوجيًّا مرتّبا للأحداث، بل جاءت مبعثرة في ما يقارب الساعة من العرض، واستطاعا من خلال ذلك أن يعكسا حالة العقل الفاقد للبصيرة وحجم الفوضى والصخب وانعدام المنطقية داخل نفسية الدكتاتور، الذي أدى دوره أحد مخرجي المسرحية وصاحب النص الممثل داودي سرحان. كما أدت دور زوجة الجنرال الممثلة فيزة بيبش فضلا عن دور روح الوالدة الميتة من خلف الستائر، في حين أدى الممثل صلاح الدين تركي جميع أدوار الشخصيات الأخرى في العمل، كما أنه الطرف الثاني في إخراج العرض، لكنه ظهر عدة مرات في شخصية المساعد الوحيد للجنرال.  وقد طُبعا شخصية المساعد، الذي اختير له اسم حديبة، بغباء وبلادة كبيرين، يرمزان إلى أن الواقف مع المُستبد غالبا ما يكون متخليًّا أو متقاعسًا عن استخدام عقله للتفكير أو أنه عاجز عن التفكير والتحليل والرفض، لكنه مع ذلك يكنّ لسيده ولاءً مطلقا، على عكس المتنافسين والطامعين الذين انفضوا من حوله. ويبدي حديبة طيبة عفوية تستوي مع السذاجة، ولا تقطعها إلا بعض حالات الانتفاض في وجه السيّد عندما يفرط في تعسفه اتجاهه بشتمه وضربه أحيانا، بشكل هزلي.
أما الزوجة “سيسا”، فقد كانت حاملا، لكن سلوكها متضارب جدا، فهي تحنّ على زوجها تارة وتثور في وجهه وتشتمه بكلمات لاسعة لكرامته تارة أخرى، وقد وُظفت في العرض بعض الشتائم القوية من اللهجة الدارجة، كما أنها تكون في حالتها العامة نكدية فاقدة لأنوثتها وتتشفى في معاناة زوجها، وتلقي باللوم عليه، لأنه جعلها تعيش معه حياةً مضطربة بسبب انشغاله عنها بنصب المكائد السياسية لخصومه وأعدائه، وسعيه الكبير للسيطرة على الشعب، الذي يظن بأنه يحبه ولا يفرّط فيه، ما تركها في حالة انفصام، إلا أنها دائما ما تواجهه بحقيقته، فيهم بقتلها ثم يتراجع لسبب لا يعلمه، فهو لا يعرف كيف يعبر عن الحب، حيث تَعْلَق الحروف في حلقه عندما يحاول أن يقول لزوجته عبارة عاطفية بسيطة مثل “أحبك”.وشملت المسرحية أيضا شخصية طبيب مثليّ يتصرف بشكل أنثوي، ويحاول معاينة الجنرال لكنه يرفض أن يقترب منه، لكن الطبيب يصر على معالجته فتأخذ الأحداث منحى تصاعديا ينتهي بالشجار بينهما واستعمال الجنرال لسلاحه الرشاش الموجود بالقرب منه، لكنه لا يصيب الطبيب الذي لم يغضب من رميه بالرصاص، لكنه ثار عندما رماه الطبيب بوشاح.
واستطاع المخرجان تعويض الفراغ الذي خلفه العدد القليل من الممثلين، بالأضواء والموسيقى، حيث تألّف ديكور المسرحية من طاولة وأريكة وكرسي هزّاز، وغُطيّت جميعها بستائر براقة، باستثناء خريطة كروية للعالم، في حين وضعت على خلفية الركح ثلاث ستائر طويلة انعكست عليها ألوان مختلفة بفعل الأضواء المسلّطة عليها من الخلف، حيث عكست دواخل عقل الشخصية الرئيسية ومن خلفها أيضا كان شبح الأمّ المتوفاة ينطلق مثل صدى من مكان وزمان آخرين ويحدّث الجنرال، الذي يصبح طفلا عندما يسمعها.
واختتمت المسرحية بنهاية مفتوحة، وقعت قبلها حربٌ جسدها المخرجون من خلال الأضواء والمؤثرات الصوتية، كما جُسّد مشهد رقصة على وقع أغنية “الرقصة الأخيرة” للفنانة الفرنسية إنديلا. وتفاعل الجمهور مع المسرحيّة، التي أنتجها مسرح قسنطينة بالتعاون مع الجمعية الثقافية الماسيل، بالضحك، خصوصا عند المشاهد الساخرة، لكن بعضا من الحاضرين الذين تحدثنا إليهم رؤوا بأن الممثلين حاولوا دفع بعض المشاهد إلى حدها الأقصى ما أفقدها العفوية، وجعلهم يمثلون بشكل آلي، لكنهم أثنوا على العرض في شكله العام، في حين تساءل آخرون عن سبب عدم تخصيص نقاش مع الحضور حول العرض بعد نهايته.
سامي حباطي

الرجوع إلى الأعلى