يعاني الكثير من العمال و الموظفين من ضغوطات، ناجمة عن بيئة عمل غير صحية، تترك آثارا نفسية متفاوتة، تتراوح بين القلق و التوتر، و قد تصبح حادة، لتصل إلى الاكتئاب، و حتى التفكير في الانتحار في بعض الأحيان، و هي أعراض ما يعرف بالاحتراق المهني، الذي أصبح يصنف ضمن مشاكل الصحة العمومية.

وهيبة عزيون

الاحتراق الوظيفي منتشر في  مختلف القطاعات المهنية، و يؤدي بشكل كبير إلى تراجع مردودية بعض المؤسسات،  و من بين أسبابه عدم تحفيز العامل، سواء من الناحية المادية أو المعنوية، التمييز بين العاملين، العلاقات المتوترة مع المسؤول، و مع الزملاء، في ظل غياب لغة الحوار، إلى جانب أسباب أخرى، اجتماعية و اقتصادية، تفرضها متغيرات الحياة.
و قد حذر مختصون من خطر الاحتراق الوظيفي ال»بورن أوت»، و آثاره المتشعبة، سواء على الشخص، أو محيطه، و حتى مكان عمله، مؤكدين أنه يشهد تزايدا مستمرا، و داعين إلى القيام بدراسات ميدانية، لحصر أسبابه و معالجتها، و إيجاد آليات للتكفل بضحاياه.
موظفون يشتكون نقص التحفيز و ضغوطات العمل
قالت سعاد/ م، وهي موظفة بمكتب دراسات للجيولوجيا و المناجم  بقسنطينة، في حديثها للنصر، أنها تعاني من الضغط النفسي في عملها، و أرجعته بالدرجة الأولى، إلى كون المدير يميز بين الموظفين، و لا يعاملهم على قدم المساواة، فهناك من يبذل جهدا مضاعفا، و يقضي وقتا أطول في العمل، بالمقابل هناك زملاء اتكاليين، لا يقدمون نفس المردود، لكنهم يتقاضون نفس راتب زملائهم، و هذا ما أثر، حسبها، على مردودية المؤسسة.
و أضافت سعاد أنها  قدمت استقالتها ثلاث مرات في وقت سابق، بعد أن بلغت معاناتها النفسية درجة كبيرة، لكن مسؤولها في العمل، كان  يتصل بها في كل مرة، و يرجوها، لكي تعود، لأنها تسير جزءا هاما من العمل، و حاليا بعد أن مرض، أصبح يستخدم مرضه، من أجل استعطافها للعمل أكثر، و أكدت للنصر أنها حاليا لا تنظر لعملها، إلا كمصدر للمال و فقط، و لا تحس بأية سعادة عند التوجه إلى مقر عملها.و قالت خولة/ب، أن غياب التحفيز، و استغلال الموظف، لكي يعمل لمدة أطول، في حين لا تعكس رتبته و راتبه الجهد المبذول، كلها عوامل، أدت إلى تفشي الاحتراق الوظيفي،  مثلا هي تعمل بإحدى شركات تصنيع الأدوية، و يشكو الكثير من زملائها من القلق و الإرهاق المستمر، و تحاول من جهتها تجاوز هذه المرحلة بصعوبة، بحكم حاجتها إلى الراتب الشهري.
أما سمية/ م ، أستاذة مساعدة بمعهد تسيير التقنيات الحضرية بجامعة صالح بوبنيدر قسنطينة3 ، فذكرت أن هناك مجموعة من العوامل تتسبب في ظهور مشكل الاحتراق الوظيفي، من بينها الضغوط الإدارية، و ضغط المسؤولين، و كذلك الظلم في الوظيفة، كما يساهم زملاء العمل في ذلك، بسبب وجود حساسيات و مشاكل بينهم، دون أن تنسى نقص التحفيز،  و بحكم أنها أستاذة، فإنها ترى أن للطلبة دور مهم في هذه المعادلة، فإذا وجد الأستاذ تجاوبا من طرف طلبته، سيتجاوز الكثير من المشاكل، و العكس صحيح، فقد يصاب الأستاذ بالإحباط و الاحتراق الوظيفي و المعنوي، في حال عدم اكتراث طلبته بالمقياس الذي يدرسه لهم.
و قال محمد الشريف، من جهته،  أن بيئة العمل تغيرت كثيرا بين الماضي و الحاضر، فبعد قرابة 25 سنة من العمل بإحدى المؤسسات الوطنية، أصبح ينتظر بشغف كبير بلوغ سن التقاعد، لمغادرة المؤسسة، في ظل غياب التحفيز و عدم تقدير الموارد البشرية، و حل محلهما التسلط و الأجواء المشحونة، و تأثيرهما سلبي و مباشر على نفسية الموظفين..
الإدمان على المهدئات و مشاكل في النوم بسبب  ال»بورن آوت»
قال سميح/ب عون شرطة من قسنطينة، يعمل بولاية ورقلة، أنه يعاني من مشكل الأرق منذ مدة، بسبب طبيعة عمله و الضغوطات التي يعيشها يوميا، و تفاقمت حالته و أصبح يعاني من اضطراب حاد في النوم، و كثيرا ما يلجأ إلى تناول أدوية تساعده على الاسترخاء و النوم.
و أضاف سميح، أن اضطراب النوم كان يصيبه من حين لآخر،  خاصة في أيام العمل الصعبة بحكم مهنته كشرطي، لكن منذ تحويله من قسنطينة إلى ورقلة، تفاقم الأمر، لأنه لم يتقبل التحويل و هو في سن 43، فقد ابتعد عن أسرته الصغيرة و يشعر بالقلق الشديد عليها، لأن أبناءه في سن صغيرة ، و لا تستطيع زوجته تحمل عبء رعايتهم و تعليمهم لوحدها.
و  أكد المتحدث أن العديد من زملائه في القطاع، يعانون من مشكل القلق و الخوف الزائد، و منهم من يعاني من الاكتئاب، و يلجأ الكثير منهم إلى تناول المهدئات و المنومات، بشكل دائم.
و اعترفت رانيا/ب موظفة، في حديثها للنصر، أنها تفكر في الذهاب إلى أخصائي نفساني أو طبيب أعصاب، ليصف لها بعض الأدوية التي تساعدها على النوم، فهي تعاني منذ مدة من اضطراب في النوم، و عدم الرغبة في التوجه إلى العمل، بسبب الأجواء المشحونة بينها و بين زملائها و لامبالاة مسؤولها بما يحدث، و عدم اهتمامه بتحسين ظروف العمل.
 كما تحدثت عن رغبتها في الحصول على عطلة غير مدفوعة الأجر، تتراوح مدتها بين ستة أشهر إلى سنة.
 بينما قالت سعاد/م ، موظفة في مكتب دراسات الجيولوجيا و المناجم، أن ضغوط العمل ترافقها إلى بيتها، و تؤثر على نفسيتها كثيرا و تؤدي إلى تذبذب نومها، ما جعلها تدمن على  المهدئات و لا تنام دونها.

النفسانية وردة بن رحلة
بيئة العمل غير الصحية تؤدي إلى بروز مشكل الاحتراق الوظيفي
اعتبرت الأخصائية النفسانية العيادية وردة بن رحلة، الاحتراق الوظيفي أو « بورن آوت» ، خطرا حقيقيا يهدد الصحة العمومية،و قد خذ في الانتشار مؤخرا بشكل مخيف، سواء في القطاع الخاص و حتى العمومي، بسبب عدة متغيرات طرأت على بيئة العمل و البيئة الاجتماعية.
و أكدت المعالجة النفسانية في حديثها للنصر، أن بيئة العمل غير الصحية، تعتبر في مقدمة العوامل التي تؤدي إلى ظهور و تفاقم مشكل الاحتراق الوظيفي، ففي السنوات الأخيرة، أصبح الحوار غائبا تماما بين المسؤول و العمال، و تحولت إلى علاقة عمل عمودية، مبنية على إصدار الأوامر، فتفشى التسلط في المؤسسات و أماكن العمل عموما، مع  وجود ضغوطات حياتية اجتماعية و اقتصادية، إلى جانب طبيعة شخصية الفرد، فهي تغذي و تساعد على ظهور و انتشار هذا المشكل النفسي، الذي تحول إلى مشكل صحة عمومية.
و ترى المتحدثة أن الحوار بين الرئيس و المرؤوس، يساهم كثيرا في امتصاص الغضب، لكن للأسف لم يعد هذا النمط في التعامل موجودا، مع وجود عدم توازن ظاهر، و تمييز بين العمال، ما  يولد ضغوطات و مشاحنات ، إلى جانب زيادة ساعات العمل و حرمان الموظف أحيانا من أيام الراحة و العطل، خاصة في بعض المهن عند الخواص، التي ترجح فيها مصلحة العمل على العامل، كالخبازين و البنائين و غيرهم.
و كذا في بعض القطاعات الحساسة، مثل الصحة و الشرطة و الجيش،  فإذا تفاقمت الضغوطات، و كان الشخص هشا نفسيا، سيكون عرضة للاحتراق الوظيفي، و في الكثير من الحالات ينتهي به الأمر في مصالح الأمراض العقلية.
و رغم تصنيفه كمرض مهني، لم تخصه الدولة اهتماما كبيرا، حسب المتحدثة،  خاصة و أن هناك الكثير من  الحالات المسجلة،  و هو ما يعكسه العدد الكبير من العطل المرضية التي لا تكون أغلبها بسبب أمراض عضوية، بل بسبب الاكتئاب و الإجهاد النفسي، إلى جانب تسجيل عدد كبير من العمال، الذي  فضلوا التقاعد المسبق في وقت مضى، و منهم إطارات، فهذه المؤشرات، قالت الأخصائية، من المفروض أخذها بعين الاعتبار، و البحث عن أسبابها لإيجاد حلول لها .
و تحمل النفسانية مسؤولية تزايد خطر الاحتراق الوظيفي، للمسؤولين في أماكن العمل، مشيرة إلى أن هذا الخطر ينعكس على إنتاجية و مردودية العامل، ففي حال تراجعها على المسؤولين البحث عن السبب.
 كما تنصح الموظفين بضرورة الذهاب عند معالج نفساني و طبيب أعصاب، عند تكرار بعض الأعراض لديهم، كالقلق الزائد، و الإرهاق البدني و الفكري، و عدم القدرة على النوم، و الضجر المتكرر،  خاصة عند التوجه على العمل، و كذا عدم القدرة على التركيز و ظهور مشكلة النسيان،  مشيرة إلى أن هذه الأعراض تتفاقم بمرور الوقت،  لتصل إلى الاكتئاب الحاد،  و منه إلى الانتحار، حسبها.
 و أضافت المتحدثة أن للاحتراق الوظيفي آثار وخيمة على الجسد، حيث يسرع في ظهور بعض الأمراض، كالسكري و السرطان، مشيرة إلى العدد المعتبر من المصابين بالاحتراق الوظيفي الذين يقصدونها من أجل المتابعة و العلاج النفسي، على غرار إحدى السيدات التي دفعها الاحتراق الوظيفي، إلى تغيير أربع مناصب عمل، إلى جانب تأثيراته السلبية على وضعيتها الاجتماعية، فانتهى بها الأمر إلى العلاج في مستشفى الأمراض العقلية.
و مثل هذه الحالات كثيرة جدا، و قد تصل حد الإصابة بمشاكل عصبية مستعصية. و دعت النفسانية الأخصائيين إلى الاهتمام كثيرا بظاهرة الاحتراق النفسي، و تنظيم ندوات و لقاءات للحديث عنه.

أخصائي الأمراض العصبية البروفيسور محمد الشريف صغير
تحسين ظروف العمل كفيلة بتقليص خطر ال»بورن أوت»
يرى البروفيسور محمد الشريف صغير ، أخصائي الأمراض العصبية و أستاذ بكلية الطب بجامعة قسنطينة 3 صالح بوبنيدر، أن هناك أسباب كثيرة لها علاقة مباشرة بمشكل الاحتراق الوظيفي، المصنف ضمن الأمراض المهنية، و يختلف، حسب طبيعة الوظيفة، مثلا في قطاع الصحة و تحديدا في المستشفيات، نجد أن الطاقم الطبي و شبه الطبي، و كذلك الإداريين، أكثر عرضة للاحتراق الوظيفي،  بسبب ضغط العمل، نقص التنظيم، ونقص الوسائل و الإمكانيات، و هنا يبذل الموظف مجهود إضافيا، من أجل تحقيق نتيجة مرضية، لكن في كل مرة لا ينجح في بلوغ ما يصبو إليه، و رغم التعب النفسي يواصل الضغط على نفسه، ليبذل جهدا أكثر، إلى أن يصل إلى  مرحلة الإجهاد، و بداية ظهور أعراض ال»بورن آوت» أو الاحتراق الوظيفي ، كعدم التركيز، اضطراب النوم، نقص الفعالية في العمل، القلق عدم تحمل التعامل مع الناس، إلى أن يبلغ مرحلة ظهور أفكار اكتئابية، فتراوده أفكار سلبية، بأنه غير قادر و غير فعال في عمله.
و بمرور الوقت، كما قال الأخصائي، تتفاقم وضعيته ليصل إلى مرحلة تبلد المشاعر و عدم القدرة على أداء أي عمل، و بلوغ مرحلة قلق و اكتئاب مرضي شديد يستدعي العلاج، إلى جانب عدم القدرة عن الأكل و الشرب و الحديث مع الآخرين، إلى جانب الإدمان على  المهدئات و المنومات دون نتائج  إيجابية.
و أضاف المتحدث أن السبب الحقيقي موجود في بيئة العمل و البيئة الاجتماعية، من ضغوطات، نقص الوسائل ، العمل الشاق و غيره، لهذا من الضروري  تحسين بيئة العمل، و كذلك ظروف الحياة العامة، خاصة و أن الاحتراق الوظيفي، خطر حقيقي على الأشخاص و المجتمع، و هو مشكل صحي  تتقاسمه كل دول العالم، و ينتشر أكثر في الدول الصناعية و المتطورة، حيث تزيد فيها نسب الانتحار السنوية في أماكن العمل، بسبب ال»بورن آوت»،مثل الصين و فرنسا و غيرهما.
لهذا يجب تنظيم أماكن العمل بطريقة تجعل الموظف يشعر بأريحية، خاصة من الجانب النفسي، كفتح دور حضانة في مقرات العمل، توفير الوسائل اللازمة للعمل، منها وسائل النقل و التغطية الصحية، ليتمكن الموظف من أداء عمله على أحسن وجه، و يرفع من مردوديته.                                              و.ع

الرجوع إلى الأعلى