حمل التطور الرقمي العديد من الظواهر الحديثة التي انتشرت بشكل واسع داخل المجتمعات وأسست لها قاعدة جماهيرية، ومن بين هذه الظواهر خاصية “الميمز”، التي تقوم بمعالجة مختلف المواضيع السياسية والاجتماعية والصحية بطريقة هزلية، الأمر الذي سهل من تغلغلها بشكل إبداعي في المنصات الافتراضية، لتصبح بذلك وسيلة لتشكيل «لغة» جديدة، لكنها تحولت إلى أداة للتنمر والعنصرية في غياب ضوابط قانونية وأخلاقية تحكمها.

والــمــيــمز هو جمع «ميم» المشتقة من الكلمة اليونانية «ميميما» وتعني التقليد، وفي العالم الرقمي، تصِف أي صورة أو مقطع فيديو أو جزء من نص، يضاف إليه تعديل بسيط ليحمل روح الدعابة، حيث تتم مشاركته من مستخدم لآخر على شبكة الانترنت فيما تبقى الصور المرفقة بتعليق، الشكل الأكثر انتشارا والأسهل فهما.
«ترند» يزدهر في المجتمع الجزائري

وأصبح «الميمز» شكلا من أشكال «الترند» وجزءا هاما من ثقافة الجيل الرقمي المنغمس في برمجيات وخوارزميات الإنترنت، وقد ازدهر في السنوات الأخيرة بالمجتمع الجزائري ليعكس تصورات من حياتنا الواقعية، سواء في  مواضيع اجتماعية أو سياسية أو رياضية وغيرها، ويرتبط غالبا بالأحداث التي تثير الرأي العام.
وهناك العديد من الأمثلة عن «ميمز» كان لها صدى في العالم، منها صورة مركبة عن قضية السجناء الفلسطينيين الذين تمكنوا في سبتمبر 2021 من الهرب من سجن إسرائيلي شديد الحراسة، بعدما حفروا نفقا انطلاقا من داخل زنزانة، حيث تم دمج مشهد جندي إسرائيلي يشاهد الحفرة باستغراب، مع صورة من الفيلم الشهير «الخلاص من شاوشانك» والذي هربت فيه إحدى الشخصيات من السجن بطريقة مماثلة، وكان هذا «الميم» من الأكثر تداولا على مختلف منصات مواقع التواصل الاجتماعي.
من عثمان عريوات إلى توم هانكس!

أما اللاعب ذا نوفاك دجوكوفيتش المصنف الأول عالميا في التنس، فقضيته أحدثت ضجة كبيرة حول العالم عندما تم ترحيله من أستراليا التي سافر إليها للمشاركة في بطولة أستراليا المفتوحة للتنس، لأنه لم يتلق لقاح كورونا الذي يعتبر إجباريا للمشاركة في البطولة، حيث صنع النشطاء له «الميم» وألصقوا فيه رأسه على جسد الممثل توم هانكس بطل فيلم «المحطة».وفي الجزائر، يبقى «ميم» الفنان عثمان عريوات من الأكثر تداولا في السنوات الأخيرة، سواء عبر صور أو مقاطع فيديو صغيرة تنقل أشهر عباراته ومشاهده في فيلمي «عائلة كي الناس» و «الطاكسي المخفي»، كما يتم اقتناص مقاطع من لقاءات تجريها قنوات فضائية مع جزائريين في الشارع أو خلال لقاءات تلفزيونية، لجعلها مادة للهزل الذي لا يخلو في كثير من الأحيان من السخرية والتنمر الذي لم يسلم منه حتى الأطفال، على غرار «ميم» التلميذ الذي سألته أستاذته عن المهنة التي يرغب فيها مستقبلا، فأجاب بعفوية، «شجرة».
وأخذت هذه الظاهرة حيزا من حياة الشباب لكن في غياب ضوابط أخلاقية واجتماعية وقانونية تحكمها، حيث تحمل أيضا في العديد من الأحيان أبعادا عنصرية، على غرار ما حدث في «ميم» عنصري ضد الأمريكي ذي البشرة السمراء جورج فلويد الذي اتُهم شرطي بقتله، وقد كان تداول هذا «الميم» سببا في متابعة شرطي آخر في القضاء.كما تعد «الميمز» من عوامل انتشار المعلومات المضلِّلة، خاصة خلال الأزمات السياسية والاقتصادية، وقد ظهرت جدية هذا الخطر خلال جائحة كورونا، عندما استُعملت «الميمز» في تداول  أخبار كاذبة داخل  قالب ترفيهية تنصح بإتباع طرق خاطئة و وهمية للوقاية والعلاج من فيروس  كوفيد 19 و التحذير من أخذ اللقاح.
* سارة وشفون أستاذة السيميولوجيا  بجامعة قسنطينة 3
«الميمز» قد يتحول من النقد الساخر إلى أداة عنصرية

تعتقد، سارة وشفون، أستاذة السيميولوجيا بكلية علوم الإعلام والاتصال والسمعي البصري بجامعة قسنطينة 3، أن “المميز” لا يساهم في تزييف الحقائق بشكل مباشر لأنه من السذاجة الاعتماد عليه كمصدر موثوق للمعلومات، لكنه قد يفعل ذلك ضمنيا من خلال ترسيخ أفكار مغلوطة أو عنصرية في قالب هزلي، ما يجعله مستبعدا من الإدانة والمساءلة، فتصبح بذلك خطابات الكراهية الواردة فيه أمرا مألوفا وشائعا يعزز صورا نمطية لا تخضع لضوابط أخلاقية أو معايير اجتماعية.ويحيد “الميمز” عن هدفه الأول وهو النقد الساخر ويصبح أداة تنمر وعنصرية تسيء للبعض، كما أن الفضاء الرقمي، تضيف المتحدثة، مليء بالميمز التي تعزز من خطاب الكراهية لأعراق معينة، أو التي تعكس العنف الرمزي ضد المرأة، أو تسيء للأديان.وأشارت الأستاذة، إلى أن نجاح الميمز ودرجة انتشاره مرتبطان بقوة الفكرة التي يطرحها سواء كانت  إيجابية أو سلبية، وكذلك بقوة العلاقة التي تربط بين الصورة المتحركة أو الثابتة وبين التعليق المصاحب لها، والتي شرحها الفيلسوف “رولان بارث” حين تطرق لوظيفتي المناوبة والترسيخ للرسالة الألسنية، حيث تتسم الصور دون تعليقات بالتعدد الدلالي، وبمجرد إضافة التعليق للصورة يتم توجيه إدراك المتلقي نحو مدلول دون غيره، فيمارس بذلك سلطة على “الميم” من خلال التحكم في تأويل المتلقي له، لأنه يقوده نحو معنى بذاته.
وأكدت المختصة، أن بعض الميمز قد تؤوّل على أنها عنصرية ومسيئة تماشيا مع معاني التعليقات الواردة فيها، مما يبين أنها غير حيادية بل منحازة دوما لأفكار مصمميها. ولفتت الأستاذة، إلى أنه لا يمكن الجزم ولا التعميم بأن “الميمز” لغة العصر لأن البعض من مستخدمي الأنترنت لا يعلمون شيئا عنه بعد ولا يندرج ضمن ممارساته اللغوية، لكن يمكن القول إنه جزء من التواصل الثقافي الافتراضي، الذي كرسته التحولات الرقمية الرهيبة، باعتباره آلية للتعبير عن الآراء والمواقف إزاء قضايا مواضيع مختلفة بشكل ساخر عبر شبكات التواصل الاجتماعي، مثل الكاريكاتير والنكت.وأضافت الأستاذة، أن “الميمز” تعكس جانبا من جوانب الحياة في قالب طريف يتم تداوله عبر جماعة ضيقة أو ينتشر بين الملايين كما يحصل مع الترند، موضحة أن تصميمها ومشاركتها أصبح ممارسة تحصل بشكل يومي يقبل عليها الشباب بشكل كبير، كما تستخدم لتقوية الصداقة وللحصول على الترفيه والتنفيس والتخلص من الضغوطات اليومية.واعتبرت المتحدثة، أن الإقبال الكبير على إنتاج واستقبال “الميمز” من طرف  المستخدمين، هو انعكاس لعلاقتهم الحميمة مع تقنية الهاتف النقال، أو اللوح الالكتروني والكومبيوتر، وتعزيز لشعورهم بالانتماء لما يعرف بجماعات الويب التي يتشاركون فيها نفس الاهتمامات والأفكار واللغة، ولذلك يعتبر الشخص  الذي لا يفقه أبجديات “الميمز” طفرة بين أبناء جيله، كما قد يتم إقصاؤه وعزله افتراضيا لأنه لا يفهمه ولا يتفاعل معه، خاصة أن ذلك مرتبط بقدرة المتلقي على فك الشفرات وفق المرجعيات الثقافية والاجتماعية المشتركة بينه وبين المرسل.وتعتقد وشفون، أن الشبه الموجود بين الأمثال الشعبية والميمز، هو أن كلاهما ظاهرة سوسيوأنثروبولوجية، تعكس مشاعر الشعوب على اختلاف طبقاتها وانتماءاتها وتجسد أفكارها وتصوراتها تجاه الواقع الاجتماعي، وكلاهما يتميز بالاختصار والإيجاز والتركيز،  لكن أن يشكل الأول تهديدا للثاني أو بديلا عنه، فهذا أمر مستبعد للغاية برأيها، وذلك لاختلاف السياق التاريخي الذي ظهر فيه كل واحد منهما، وتباين خصائصهما لاسيما أن الأمثال الشعبية تعد عصارة حكمة الشعوب وفلسفتها، كما أن المثل قد يعيش لقرون ويظل حيا في ذاكرة الشعوب بناء على استمرارية حضوره وانتقاله من جيل إلى أخر، أما «الميم» فيشبه ذاكرة السمكة لأنه قد يزول بمجرد زوال الحدث الذي أدى إلى ظهوره.                     
لينة دلول

الرجوع إلى الأعلى