* أحد الناجين يروي تفاصيل مقتل ثلاثة من أقربائه

صبــاحٌ بلــون الحــزن والصّدمـــة في وســط المـدينـــة  
لم يتخلص سكان مدينة قسنطينة من الشعور بالفزع الذي أمسوا عليه بسبب حادث المرور الاستثنائي المسجل بين شارعي كدية عاتي وعبان رمضان المعروف باسم “الصوابط”، فقد استوقف الموقع الذي قتل فيه أربعة أشخاص، العشرات من المارة من داخل وخارج وسط المدينة، وظلوا طيلة اليوم يستعيدون الطريقة التي “طارت” فيها مركبة من نوع “سيات ليون” حوالي الساعة السادسة مساء من أعلى سلالم “باطا” الرابطة بين الشارعين إلى الأسفل، على علو يقارب الثلاثة طوابق، مؤدية إلى كارثة كبيرة، وقد شيّعت قسنطينة الضحايا الأربعة بابن زياد و قايدي عبد الله  ومقبرة زواغي وسط حالة من الحزن والذهول من حادثة ستظل عالقة في الأذهان بكل ما تحمله من غرابة وألم.
سامي حباطي
و تنقلنا حوالي منتصف النهار إلى مسرح الحادث الأليم، حيث يلاحظ في وجوه المواطنين علامات التساؤل والصدمة، فضلا عن تحلقهم في مجموعات صغيرة يتوسطها شخص أو اثنان يعيدون قص وقائع الحادث على غيرهم. وقد تقربنا منهم، فسمعنا العديد من الروايات المتضاربة في بعض النقاط، لكنها تتقاطع في الكثير منها، حيث حاولنا نسج حبكة للحادث من خلال ما أخبرونا به، في حين لفت انتباهنا، بمجرد انتهائنا من صعود السلالم، بقايا سلة معدنية لرمي القمامة، مثبتة على الأرض بأنبوب أسطواني سميك، بعد أن تحطمت كليا جراء الاصطدام القوي للمركبة بها. وتوقفنا على حافة الرصيف المقابل مباشرة للطريق التي يفترض أن المركبة جاءت منها، ولم نلاحظ على الأرض إلا أثرا خفيفا باللون الأسود لاحتكاك إطارات السيارة بالإسفلت، ويتمثل في خطين باللون الأسود، لكنها لم تكن آثارا قاتمة السواد، على غرار ما يسجل عادة في حوادث المرور.
" السيارة قفزت "
وأكد لنا كثير ممن تحدثنا إليهم، من الذين كانوا قريبين من موقع الحادث أثناء وقوعه، بأن السيارة قدمت مسرعةً في الاتجاه المعاكس المقابل مباشرة لمدخل السلالم، لكن بعضهم أشاروا إلى أن علو الطريق في نفس علو الرصيف، ما ضاعف من المشكلة، لأن السيارة لم تصادف، بحسبهم، عائقا يخفف من سرعتها أو يجعلها تنحرف عن الخط الذي كانت تسلكه نحو “هاوية” السلالم، كما قالوا إن ذلك كان قادرا على أن يجنب الوقوع في كارثة أدت إلى قتل أربعة شبان لم يتجاوز أكبرهم حافة العشرين.

ويسجل نفس الأمر على طول طريق شارع كدية عاتي، فصبّ عدة طبقات من الإسفلت فوق بعضها أدى إلى ارتفاع الطريق، لدرجة أنها تتجاوز في بعض النقاط الرّصيف، ما يفسر مشكلة ركن السيارات على أرصفة المكان المعروف بكثرة الحركة خلال ساعات النهار، فالسيارات يمكنها أن تعتلي الرصيف بسهولة كبيرة.
وتحدثنا مع بعض أصحاب المحلات القريبين من الموقع، حيث أوضح لنا أحدهم بأن السيارة لم تتدحرج بحسب ما شاهده، وإنما قفزت من أعلى السلالم إلى أسفلها بسبب السرعة الكبيرة التي كان يسير بها السائق، في حين أتت على روح الضحية الأول أثناء نزوله السلالم وباغتته من الخلف ما أدى إلى مقتله بسبب الجروح البليغة التي تعرض لها، خصوصا في قفا جمجمته، فيما كان الضحايا الآخرون أسفل السلالم على الرصيف، الذي لاحظنا عليه آثار تحطم جزء منه، بسبب ثقل المركبة التي حطت عليه بقوة كبيرة وواصلت تقدمها لتمر بين عمودي أحد أقواس الحي وترتطم ببوابة قاعة لممارسة الرياضة.
ويلاحظ أيضا تشقق بعض قطع البلاط في أعلى السلالم، التي أخضعت لعملية ترميم خلال تظاهرة عاصمة الثقافة العربية وأثارت كثيرا من الجدل عندما قررت السلطات استبدال حجارتها الزرقاء بنوعية جديدة من البلاط المستورد من الخارج، حيث قوبل القرار برفض كبير من سكان الحي حينها. وحدثنا بعض طلبة الإنجليزية بالمعهد العالمي لتعليم اللغات “يو.آل.سي” عن هول الصدمة التي تعرضوا لها بسبب الصوت المدوي الذي نجم عن الحادث، حيث شبهه أحدهم بصوت الانفجار، فيما أكد لنا أحدهم بأن الحادثة منعتهم من مواصلة الدرس خلال ليلة الحادثة وغادروا المكان أبكر من المعتاد.
الضحية يعقوب كان في طريقه إلى درس الإنجليزية
وعلمنا من عزيز، أستاذ الإنجليزية بمدرسة “فايث سكول” الواقعة بحي النجمة، بأن الضحية يعقوب داودي البالغ من العمر ثلاثين سنة، قد كان في طريقه إلى حي النجمة من أجل الالتحاق بدرس اللغة الإنجليزية المسائي. وأضاف نفس المصدر بأن المعني هو من كان بصدد نزول السلالم المذكورة عندما فاجأته المركبة من الخلف، حيث قال “إنه من خيرة طلبته الذين عرفهم، كما أن الجميع يشهد له بحسن الأخلاق وطيبته مع غيره”، موضحا بأنه يشغل منصب رئيس مصلحة الحجوزات بوكالة سياحية معروفة بوسط مدينة قسنطينة، فيما يقيم بحي سيدي مبروك.
وقدم المواطنون مجموعة من الروايات حول سبب انطلاق المركبة صوب السلالم بهذه السرعة الكبيرة في الاتجاه الممنوع، لكنها تبقى غير مؤكدة، فبعضهم تحدث عن خلاف وقع بين السائق الشاب البالغ من العمر 25 سنة مع امرأة، أنزلها ثم انطلق بسرعة، بينما أخبرنا آخر بأن صاحب المركبة شخص هادئ وغير معروف بتصرفات طائشة أو القيادة الجنونية، كما أن بعض المواطنين من سكان الحي نفوا أن يكون قد سار في الاتجاه الممنوع، لكن ما زاد من وقع الصدمة على الأشخاص، تصور كل منهم نفسه مكان أحد الضحايا، فشارع عبان رمضان يعج بالمارة طيلة اليوم، و”لا يتوقع أحد منهم أن تهوي على رأسه سيارة من أعلى السلالم”، مثلما قال أحدهم.
وذكر لنا المكلف بالاتصال على مستوى مديرية أمن ولاية قسنطينة بأن القضية ما تزال قيد التحقيق المفتوح لمعرفة ملابساتها، حيث تتعلق، بحسب محدثنا، بحادث مرور مفضي إلى وفاة أشخاص، في حين ما يزال السائق المسمى (ح.ح) ماكثا في المستشفى بعد أن تعرض هو الآخر لعدة إصابات بليغة. وقد نشرت مديرية الأمن على صفحتها الرسمية بشبكة التواصل الاجتماعي “فيسبوك” تعزية لأهالي الضحايا المتوفين في الحادث.       
س.ح

 

الناجي من الحادث  غلام سقني  للنصر
الفــاجعــة وقـعـت في ثــوانٍ و مصــدوم لفقــدان ثـلاثــة أقربــاء
لم يكن غلام سقني صاحب العشرين عاما، يعلم أنَّ نزهته بوسط مدينة قسنطينة مساء أمس الأول ستكون الأخيرة له رفقة ابن عمته سقني محمد بنفس العمر، وابن خالته عبد الرحمان بوخلف البالغ من العمر 17 عاما، وقريبه محمد وليد جاو صاحب 18 عاما، وأنَّ الموت سيغيِّب أقرباءه الأصدقاء للأبد على يد سائق سيارة في حادث مرور لم يسبق وأن سجل سيناريو مماثل له.
روبورتاج: فاتح خرفوشي
غلام سرد لـ»النَّصر» في مجموعة من الكلمات نطقها بصعوبة بعد إصابته بصدمة جرَّاء فقدان مرافقيه الثلاثة، ما حدث بالضبط، بعد تضارب روايات الحاضرين والقريبين من مكان وقوع حادث مساء الأحد «المشؤوم» قبيل الساعة السادسة بشارع عبان رمضان، «الصوابط» كما تعرف محليا، حيث كان مع المرحومين محمد وعبد الرحمان ووليد بوسط المدينة بعدما توجَّهوا للحلاق واقتناء ألبسة جديدة، بحسب رواية أحد الأقرباء. ومقابل السلالم الحجرية المؤدية من أعلى حي كدية عاتي، فاجأتهم سيارة تطير في الهواء، صدمت مباشرة عبد الرحمان ومحمد ووليد وقتلتهم مباشرة، فيما كتب له هو عمر جديد بعدما سقط في محاولة منه للهرب بعيدا.
وعندما استيقظ غلام سقني من الفاجعة التي لم تستمرّ سوى ثوان قليلة، رأى جثث أقربائه هامدة على الرَّصيف بالقرب من صيدلة «يخلف» والدماء منها تسيل، حيث هرع المارَّة لمعرفة ما حدث ونجدة المصابين، على غرار طبيبة كانت بعين المكان، حاولت إسعاف أحد الضحايا، لكن دون جدوى، لينقلوا إلى المستشفى الجامعي، نحو مصلحة حفظ الجثث، من طرف أعوان الحماية المدنية.كما فقد غلام سقني القدرة على الكلام بعد الحادث مباشرة، واستمرّ وضعه لعدَّة ساعات، وبالرغم من تحسنه البارحة، إلا أنَّه لا يزال في حالة صدمة وإنكار لما حدث أمام ناظريه، والدموع ترتسم على وجهه بين الحين والآخر.
الضحايا كانوا راجلين  

وبحسب ذات المتحدث، فإنَّ السيارة سقطت مباشرة من السلالم على الأجساد النحيلة لأقربائه، ولم يتمكَّن الثلاثة من مقاومة الضربة القاضية لسيارة «سيات ليون» تحمل ترقيم ولاية قسنطينة وفارقوا الحياة، رفقة شاب آخر من حي سيدي مبروك اسمه يعقوب داود، مشيرا إلى سير الجميع على الأقدام ولا وجود لدرَّاجة نارية، مثلما سرده البعض.
عبد الرحمان.. عامل بمحطَّة غسل السيارات كان يحلم بالانضمام للأسلاك الأمنية
أجمع جيران المرحوم الشاب عبد الرحمان بوخلف من بلدية ابن زياد، والقاطن بالعمارات القريبة من المركب الرياضي الجواري، أنَّ الشّاب «النحيل» كان محبوبا لدى الجميع، وخاصة عائلته، كونه صغير الأشقاء الذكور، وهو ما خلَّف أسى كبيرا بعد فقدانه بحادث أول أمس الأحد، بوسط مدينة قسنطينة.
وقد ترك الفقيد مقاعد الدراسة وتوجَّه إلى العمل، حيث اشتغل عاملا بسيطا رفقة شقيقه بمحطة لغسل السيارات بالمكان المسمَّى «القنطرة الكحلة»، بين حي قادي عبد الله و»الشراكات»، وتغيَّب عن عمله يومي السبت والأحد، حيث قضى الليلة السابقة ليوم وفاته عند شقيقته بالمدينة الجديدة علي منجلي، ليلتقي يوم الواقعة مع أقربائه غلام ومحمد القاطنين بحي عباس المعروف باسم «ابن عاشور»، وكذا قريبه الآخر محمد وليد جاو، السَّاكن بعلي منجلي، وكانت نزهتهم بوسط المدينة لقضاء بعض الأمور، غير أنَّ القدر أخفى لهم شيئا آخر...
وتبعا لتصريحات مقرَّبين، فقد كان عبد الرحمان يحلم بالانضمام إلى أحد أسلاك الأمن، سواء الجيش أو الدرك أو الشرطة، لكنَّ طلبه الأوَّل من أجل ذلك رفض ولم يستسلم للأمر، حيث كان بصدد التحضير لملف آخر، إلا أنَّه فارق الحياة قبل ارتداء البدلة الموحَّدة لإحدى أسلاك الأمن الجزائري.
محمد سقني يقطن بسكن متواضع ببن عاشور  

أمَّا الضحية محمد سقني ابن العشرين ربيعا، ابن عمة غلام الناجي الوحيد من الحادث المروري الأليم الذي خلَّف أربعة ضحايا قتلى بعين المكان، وجاره بحي ابن عاشور الشعبي، على مستوى الطريق الوطني رقم 79 باتجاه ولاية ميلة، فقد كان هو الآخر شابًّا بسيطا جدا، بساطة البيئة التي ترعرع فيها، وأثناء مراسيم دفنه بمقبرة قايدي عبد الله، بكاه أحد أشقائه بحرقة، وأبكى الحاضرين الذي شيعوا عبد الرحمان إلى مثواه الأخير، حيث تمنَّى الموت مكان شقيقه صغير السنّ، في مشهد أثار مشاعر الجيران والأقرباء والمشيِّعين.
وبدا أصدقاء وأقرباء الفقيد محمد، الذين التقت بهم «النصر» بحي ابن عاشور، قبل وصول جثمان الشاب الرَّاحل، في دهشة ممَّا حدث، حيث ما زالوا غير مصدّقين لحقيقة مغادرة فتى الحي الذي نشأ معهم منذ الصغر لذاكرتهم إلى الأبد، إلى جانب الفقيدين الآخرين، كون الثلاثة تربطهم علاقة قرابة ومصاهرة، وهو ما جعل الحزن أكبر بفقدان ثلاثة أفراد من عائلة كبيرة.                
ف.خ  

الرجوع إلى الأعلى