محاولات التّحديث في الوطن العربي لم تؤدّ بنا إلّا إلى مجتمع القبيلة
• الحداثة العربية حداثة شكلانية استهدفت الشّكل لكنّ المضمون أبقته هامشيا
في هذا الحوار، تتحدث الكاتبة والناقدة والباحثة الأكاديمية غنية كبير، عن كتابها النقديّ الأخير «إشكاليّة وعي الحداثة الشّعريّة»، الّذي تناولتِ فيه الكثير من إشكالات وأسئلة الحداثة، من بينها أسئلة حول مدى تحقّق الحداثة الشّعريّة في القصيدة العربية، وعن مستويات النقد العربي لهذه الحداثة. كما تحدثت عن إشكالية هاجسية تتكرر دائما وهي «كيف نخلق حداثة عربية خاصة»،
حاورتها/ نــوّارة لــحــرش
وعن شؤون أخرى ذات صلة كلّها بالحداثة وإشكالاتها.للإشارة الكاتبة والأكاديمية غنية كبير، من مواليد العام 1985، متحصلة على شهادة البكالوريا لخمس مرّات متتالية شعبة علوم الطبيعة والحياة. -شهادة ليسانس لغة وأدب عربي جامعة المسيلة 2008 -شهادة ماجستير تخصص مدارس النقد الأدبي المعاصر جامعة سطيف وشهادة الدكتوراه  في 2019
• في كتابك النقديّ الأخير «إشكاليّة وعي الحداثة الشّعريّة»، تناولتِ فيه الكثير من الإشكالات والأسئلة من بينها سؤال مؤداه «هل حقّقت القصيدة العربيّة الحداثة الشّعريّة». كناقدة وباحثة كيف وجدتِ هذه الحداثة في القصيدة العربيّة وهل تحققت شعريا؟
غنية كبير: تنطلق هذه الدّراسة الموسومة بـ»إشكاليّة وعي الحداثة الشّعرية» من عدّة تساؤلات يطرحها الأكاديميّون والمهتمّون بالبحث في الحداثة الأدبيّة، وأوّل سؤال يُطرح اليوم، هل حقّقت القصيدة العربية الحداثة الشّعرية؟ وهي تطبّق ما نظّر له النقّاد بخصوص الحداثة المنشودة، وتستورد نماذج جاهزة للسيّدة «حداثة» وتلبسها على عجل سواء أكانت على المقاس أم لا. وهل اهتمّ الشّعراء بكلّ جوانب الحداثة الشّعرية، أم أنّهم غلّبوا نسقا على آخر وجعلوا منه جوهريّا بالنّسبة إلى الجوانب الأخرى؟
ولأنّنا متيقّنون من أنّ الأديب ابن المجتمع، وأنّ الحداثة الأدبيّة امتداد للتّحديث الفكري والاقتصادي والسّياسي والثّقافي، فهل يمكننا أن نتحدّث عن حداثة أدبيّة؟ وهل يمكن للشّاعر في الوطن العربي أن يستوعب حداثة غير موجودة في مجتمعه، حتّى تظهر في قصيدته؟ وبما أنّ اللّغة تعبّر عن الفكر، فهل يمكن للّغة أن تنتج حداثة مفقودة في قصيدة؟ طبعا إذا حدث هذا معناه أنّنا أمام شاعر عبقريّ سيخلّده التّاريخ الأدبي، إن حصل واكتشف النّقد عبقريّته.
وقبل كلّ هذا، هناك عدّة تساؤلات تُطرح عن عمليّة المثاقفة مع الغرب، أكانت إيجابيّة للشّاعر العربيّ عامّة والجزائريّ خاصّة، أم أنّها كانت مثاقفة من طرف واحد اكتفى فيها الشّاعر العربي بالنّقل الأعمى للنّماذج الموصوفة بالحداثة؟.
• كثيرا ما يتكرر سؤال الحداثة والمجتمع. فهل لكلّ مجتمع حداثته؟
غنية كبير: الحداثة تاريخ، بل إنّها تجربة تاريخيّة مريرة عرفتها المجتمعات الأوربيّة، وهنا أيضا نطرح مجموعة من الأسئلة: هل لكلّ مجتمع حداثته، وبالتّالي هل هناك فهم خصوصيّ للحداثة؟ أم أنّ هذه الأخيرة لها نموذج واحد هو النّموذج الغربيّ والّذي يجب على كلّ المجتمعات إتّباعه؟ أكيد أنّ الإجابات بسيطة لكنّ المجتمعات تتجاهلها، لأنّ في تجاهلها توفير لجهودها في اكتشاف الخاصّ في تاريخ شعوبها وربطه بالعامّ والكونيّ.
الواضح أنّ التّحديث العربي قد أخفق، وهذا الفشل قد سبقه فشل في التّنمية على كلّ المجالات، فهل المشكل في حضور التّراث، أم في العقل؟ أم في أشياء أخرى ينبغي على المثقّف العربي أن يشتغل على اكتشافها وتجاوزها.
إنّ الحداثة ليست مجرّد مفهوم يتهافت رجال الاقتصاد والسّياسة والفكر والدّين والنقّاد والأدباء لتبنّيه والتّباهي باستخدامه، لكنّها تحوّل تاريخيّ وفكريّ حصل لبعض الشّعوب، ومن يبحث في تجربة اليابان، وتجربة الصّين، يجد أنّهما قد أوجدتا حداثتهما الخاصّة ووضعاها في إطار التّفاعل مع النّموذج الكوني، بينما كلّ محاولات التّحديث في الوطن العربي لم تؤدّ بنا إلّا إلى مجتمع القبيلة من جديد وإلى نتائج لا يتّسع المجال لإحصائها على كثرتها وحدّتها.
• وهل من حداثة عربية مرجوّة، وهل يمكن طرح مشكلة الحداثة العربية من وجهات نظر وسياقات مختلفة؟
غنية كبير: يـرى الدكتور نسيم خوري أنّ طرح مشكلة الـحداثة العربيّة سواء من وجهة نظر اجتماعية ثقافية أو شِعرية معناه طرح الكثير من الإشكاليات والاصطدام بالعديد من الظواهر التي لم تُناقش ولم تدرس بكفاية. فمنذ قرون عديدة، يصطدم الحديث مع القديم في العالم العربي والرّغبة في تحديث المجتمع تبقى قائمة، هذا الاصطدام والتّعارض بين القديم والحديث أخذ في الواقع بعدا مختلفا: فبالنّسبة للقيم الشرقية فهي تتعارض مع القيم الغربية التي لا تحتفي بالمقدّس والدّيني وتركّز اهتماماتها على العلمية، وأمام العالم الـحداثي (الغرب) الممقوت والـمكروه والفاتن والـمغري في الوقت نفسه، وضع العالم العربي في مأزق، فماذا الّذي يمكننا المحافظة عليه من العادات؟ وماذا يجب أن نتبنّى من الحداثة؟ ما هي نقاط التوافق بين الماضي والحاضر؟
ومن جهة أخرى، تحدث نسيم خوري عن الحداثة الشّعرية وأكّد أنّ هناك العديد من المجلات الأدبية قد دعّمت الاتّصال مع الغرب من خلال حركة ترجمة واسعة، فابتداء من ظهور مجلّات «شِعر» و»مواقف» تمّ التّعرف على كبار الشّعراء الانجليز- الفرنسيين والأمريكيين.. والاتّجاهات الشّعرية الغربية المعاصرة، هذه المجلات زرعت الحداثة الشّعرية وأنتجت ميولات وتيارات أدبية جديدة كانت غير معروفة في الماضي، إلى هذه النقطة نستطيع القول بأنّها وضعت حدّا للصراع بين القديم والجديد.
طبعا ما يقصده نسيم خوري هو أنّ هذه المجلّات الأدبية قد قرّبت الحداثة الشّعرية الغربية من الشّاعر العربي لتغريه فيعجب بها ويستلهمها.
•برأيك هل تكمن الإشكالية دائما في كيف نخلق حداثة عربية خاصة؟
غنية كبير: يتّضح من كلّ ما سبق ذكره أنّ الإشكاليّة ليست كيفيّة نقل الحداثة الأوربية إلى المجتمع، ومن ثمّ إلى الأدب العربي والقصيدة العربية، وإنّما الإشكالية تكمن في خلق حداثتنا العربية الخاصّة.
كلّ الظّواهر في تاريخنا الفكري الحديث تدلّ على وجود أساتذة كبار في ميادين المعرفة المختلفة، قد أفادوا من الاتّصال بالثّقافة الحديثة، وذلك واضح من خلال مؤلّفاتهم، فالنّظرة السّريعة عبر مؤلّفات كمال أبو ديب، ومحمّد مفتاح، وسعيد يقطين، ورشيد بن مالك، والسّعيد بوطاجين وغيرهم في مجال النّقد يتأكّد أنّهم تأثّروا بالحداثة النّقدية الأوروبية، ومن يقرأ روايات أحلام مستغانمي، وواسيني الأعرج، ومحمد شكري، ومحمد زفزاف وغيرهم لا يبقى له مجال للشكّ من أنّ هؤلاء الروائيين قد استفادوا من الحداثة الروائية في بلادها الغربيّة.
لكن قبل أن نغوص في مفاهيم الحداثة الأدبية والنّقدية ينبغي أن نميّز بين مفاهيم ثلاثة هي: المعاصرة والـحداثة والـجدّة، فكثيرا ما استخدم نقّاد الأدب ومؤرّخوه الألفاظ الثّلاثة وهم يعنون الأمر نفسه. وما نلاحظه هو اقتراب المفاهيم التي يقدّمـها النـقّاد والفلاسفـة العـرب والغـرب للحداثة، ومن بين بعض التّعريفات التي قدّمها النقّاد العرب، يقول الغذّامي: «منذ البداية كنت قد طرحت التّعريف الّذي التزمته للحداثة وكان ذلك في محاضرة لي في الطّائف عام 1983م بعنوان (الموقف من الحداثة) ونشرتها في كِتاب يحمل العنوان ذاته، ثم كرّرت ذلك في مقالة هي بمثابة البيان الثّقافي عام 1986، نشرتها في (اليمامة) وفي مجلّة (كلمات) البحرينية ثم في كتابي (تشريح النص)، وهذا التّعريف الّذي ألزم به نفسي هو أنّ الحداثة هي التّجديد الواعي، وهذا يعني فيما يعني أنّ الحداثة وعي في التّاريخ وفي الواقع، ويكون الفهم التّأسيسي فيها جذريّا مثله مثل شرط الوعي بالدّور والمرحلة».
أمّا أدونيس، فيرى أنّ الحداثة العربية تنبثق من قديم عربي هي في الوقت نفسه في تعارض معه، فأن تكون شاعرا عربيا حديثا هو أن تتلألأ كأنّك لهب خارج من نار القديم، وكأنّك في الوقت نفسه شيء آخر يغاير القديم مغايرة تامّة، وينطوي معنى الحداثة هنا على تغيير النّظرة للممارسة الكتابية الشّعرية، وتقييما جديدا لمقوماتها وتجديدا لقوانين التّعامل معها، وللقوانين التي تكوّنها.
ونفس المفهوم تقريبا يقدّمه غالي شكري إذ يرى «أنّ مفهوم الحداثة عند شعرائنا الجدد مفهوم حضاري أوّلا، وهو تصوّر جديد تماما للكون والإنسان والمجتمع، وهو وليد ثورة العالم الحديث في كافّة مستوياتها الاجتماعية والتّكنولوجية والفكرية».
• وكيف كان برأيك النقد العربي الحديث في مستويات تفسيره للحداثة الشّعرية؟
غنية كبير: لقد حاول النّقد العربي تفسير الحداثة الشّعرية في الوطن العربي منذ بدايات ظهورها في القصيدة العربيّة وبعد ذلك شكّلت تلك التفسيرات نظرية اتّبعها الشّعراء المعاصرون ومن هناك بدأت متاعب القصيدة في تحمّل ما يصبّه فيها الشّعراء المبتدئون ساعين إلى الوصول إلى ما حقّقه الكبار، كلّ واحد ينظم وفق النّسق الّذي يرجّحه على أنّه الأكثر أهمية في الحداثة الشّعرية.
ويرى بعض النقّاد أنّ النّسق الموسيقي هو جوهر الحداثة الشّعرية، فالقصيدة في خروجها على نظام البيت الشّعري الكلاسيكي القائم على تفعيلات محدّدة سلفا قد وصلت حسب هؤلاء إلى الحداثة، لأنّ النّظام العروضي القديم قد أوقع القصائد في النّمطية، وبالتالي فمن كسّر تلك القوانين والأنظمة هو محدث، لكنّنا نتساءل إن كانت الـحداثة الشّعرية هي فقط الخروج عن قانون العمود الشّعري، فلماذا سعت نازك الملائكة لتقنين الشّعر الحرّ مجدّدا؟ ألـم يكن الشّعر الحرّ ثـورة على صرامة قانون العمود؟ فلماذا نستبدل القانون بالقانون؟
• هناك من يرى أنّ الأسطورة ساهمت في تحقق الحداثة في الشّعر المعاصر. هل هذا صحيح؟
غنية كبير: صحيح هناك من يرى أنّ الشّعر المعاصر قد تحقّقت فيه الحداثة منذ ولوج الأسطورة إلى جسد القصيدة، وبناء على ذلك ينبغي أن يكون الواقع مؤسطرا في القصيدة، وفي الحقيقة أنّ شعراء الحداثة قد استلهموا الأساطير في قصائدهم فكانت حاملا موضوعيّا لتجاربهم وتصوّراتهم، لكن ذلك لا يعني أنّ الأسطورة هي الجانب الجوهري في الحداثة الشّعرية، وقد أدّى ذلك التصوّر ببعض الشّعراء الشّباب إلى الوقوع في خطأ تكريس القصيدة لخدمة الأسطورة بدل أن تخدم الأسطورة تصوّرات الشّاعر ومن ثم تخدم القصيدة.
أمّا أصحاب النّسق الصّوري فيقولون بأنّ الصّورة الفنيّة في القصيدة المعاصرة هو ما خلق اختلافها عن نظيرتها القديمة، لأنّ الأشكال البلاغيّة القديمة حسبهم ليس لها النّفس والطّاقة الكافية لتجاري هذا العصر بخلفياته الثقافية المختلفة، فلا معقولية الواقع تطلّبت طريقة جديدة في الكتابة أو تطلّبت لا معقولية الكتابة.
ويذهب النّسق الرؤيوي وهو أكثر الأنساق اقترابا من حقيقة الحداثة، إلى أنّ الرؤيا الحداثية هي التي تصوغ وجود الحداثة، وليس المستويات الفنيّة أو الشّكلية وبالتالي ينظر إلى القصيدة الكلاسيكية على أنّها قصيدة رؤية أما الـحداثية فهي قصيدة رؤيا، فالرّؤيا باعتبارها ميتافيزيقية فهي تسمو بالإنسان عن العالم المادّي الخارجي إلى العالم الرّوحي أين يجد حقيقته وسكينته أيضا، وبالتّالي على الشّاعر ألّا يحتار في شكل قصيدته إنّما عليه أن يعالج الحيرة والقلق والتوتّر الّذي يعيشه الإنسان مركّزا على المضمون.
وفي الحقيقة فإنّ ترجيح جانب على آخر في تقدير جوهر الحداثة أمر خطير، فكلّ الجوانب التي أشرنا إليها تتكامل فيما بينها لتحدث القطيعة مع القديم، والمضمون هو الّذي يحدّد حاجته إلى شكل معين وموسيقى تستوعب اهتمامات الشّاعر الآنية والقول بأنّ القصيدة العمودية لا يمكنها أن تستوعب تعقيدات العصر، حكم متسرّع أفرزته اللّهفة إلى تجريب الجديد، وسهولة هذا الجديد الّذي منح الفرصة حتى لأصحاب المواهب الـمتواضعة أن يكتبوا شعرا (حداثيا).
من هنا يمكننا اعتبار الحداثة العربية حداثة شكلانية، استهدفت الشّكل لكنّ المضمون أبقته هامشيا. وإنّنا نجد أدونيس أكبر أدعياء الحداثة ينظّر للشّكل ويصرّ على شكلانية الحداثة ولفظيتها، مع عزوف عن التنظير للمعنى، لأنّ الثقافة العربية قد جعلت اللفظ مرادفا للذّكر (الـمركز) والمعنى مرادفا للمؤنّث (الهامش).
• هل من السهل تحديد حداثة الشّعر والقصائد؟
غنية كبير: من الصّعب أن يستطيع ناقد تحديد حداثة قصيدة بناء على نسق يراه الأكثر أهميّة في الحداثة الشّعرية خصوصا وأنّ الحداثة في الأدب يجب أن تسبقها حداثة في المجتمع الّذي ينتمي إليه المبدع.
وقد رأينا أنّ الحداثة في المجتمعات الأوروبية كانت نتيجة لسلسلة من الثّورات ضدّ الاستبداد والظلم والخرافات البالية، وبالتالي فعلى كلّ مجتمع إيجاد حداثته الخاصة به، لكي تنتقل تلك الحداثة إلى الأدب وتختفي العيوب النسقية عند شعرائنا.
نلاحظ من عرض بسيط لأفكار الشاعر الجزائري حمود رمضان أنّه كان بذرة حداثة حقيقية في الجزائر والوطن العربي بأكمله، لكن وفاته المبكرة حالت دون تبلور مشروعه التحديثي، كما أن نزعة الرفض عند أزراج عمر وأحلام مستغانمي كانت بداية جيدة للدخول في موجة التحديث، فلأوّل مرة نقرأ لشاعرة جزائرية تثور على التقاليد وترسم لعلاقة جديدة بين الرجل والمرأة.
هناك أيضا تجارب شعريّة جزائرية متميّزة نظرا إلى أنّها أحدثت قطيعة مع المتداول، إذ هجر هؤلاء الشّكل القديم وحاولوا في نفس الوقت التّعبير عن مضامين إنسانية جديدة، ومع علمنا بأنّ ليس كلّ تجديد في الشّعر هو بالضّرورة تحديث، إلّا أنّ تجارب هؤلاء قد حقّقت قفزة نوعيّة باتّجاه الحداثة الشّعريّة.
ن.ل

الرجوع إلى الأعلى