أفــول المثقـف الفرنســي

نشرت مجلة بوليتيكو الإنكليزية مقالا للكاتب سودير هازاريسينغ حول تراجع أثر و نفوذ المثقفين الفرنسيين بعنوان «أفول المثقف الفرنسي»، حيث برزت على الساحة الثقافية الفرنسية مؤخرا أصوات المثقفين و الفلاسفة أمثال برنارد هنري ليفي و ميشال ولبيك و غيرهم تدعو للكراهية و العنصرية، و لم يتورع بعض المثقفين من خلال الفقاعات الدعائية الإعلامية لنشاطاتهم عن مسايرة الساسة في شن الحروب و تبرير عمليات التدمير و القتل لدول و شعوب غير أوروبية، بعضهم فعل ذلك بذريعة نشر الحضارة، و البعض الآخر وجد في العدوان على الآخرين طريقة لصد الخوف منهم، خوف مرضي يسكن فئة من المثقفين الفرنسيين الذين شرح الباحث في الشؤون السياسية بكلية باليول في جامعة أكسفورد نوازعهم. و لكاتب المقال في مجلة «بوليتيكو» كتاب بعنوان «كيف يفكر الفرنسيون» صدر في نيويورك و لندن، و تمت ترجمته للفرنسية و صدر عن فلاماريون تحت عنوان « هذه البلاد التي تحب الأفكار». النصر تقدم ترجمة للمقال.

بقلم سودير هازاريسينغ / ترجمة عمر شابي

واحدة من أبرز خصائص الابتكارات الثقافية الفرنسية الحديثة هي «المثقف».
المثقفون في فرنسا ليسوا فقط خبراء في مجالات محددة مثل الآداب و الفن و الفلسفة و التاريخ، فهم يتحدثون بمصطلحات شاملة، و ينتظر منهم تقديم دليل أخلاقي حول الشؤون الاجتماعية العامة و القضايا السياسية. و بالفعل فإن أكثر المثقفين الفرنسيين شهرة هم من الوجوه المقدسة، صاروا رموزا لقضايا تبنوها. مثل فولتير حينما أدان اللاتسامح الديني. و دفاع جان جاك روسو عن الحريات الجمهورية، و موقف فيكتور هيغو الصارم ضد طغيان نابليونو كذا صرخة إميل  زولا لصالح العدالة في قضية دريفوس، دون نسيان دفاع سيمون دوبوفوار المستميت عن تحرر المرأة.
و أعطى المثقفون أكثر من كل ذلك للفرنسيين الشعور بالراحة و الفخر عند دفاعهم عن تلك القضايا و هو ما يشير إليه المفكر إدغار كيني بمصطلح رضا الغاليين الذاتي حين يقول أن «الفرنسيين لديهم ميل لاستهلاك أنفسهم في سبيل مجد العالم، للآخرين كما في سبيل أنفسهم. من أجل مثل إنسانية، حضارية عالمية ينبغي بلوغها».
التثاقف الفرنسي يتجلى أيضا في خليط شتى من القضايا و النظريات حول المعرفة و الحرية و الوضعية الإنسانية، و تناقشت أجيال من المثقفين الفرنسيين خريجي المدرسة العليا في باريس بحدة عن معنى الحياة في الكتب، و الجرائد و المجلات، و عبر اللوائح و العرائض و  المقالات النقدية، و أعطوا صفات لذلك من الواقعية و الروحانية و الجمهورية و الاشتراكية و الإيجابية و الوجودية.
و تزايدت حمى النقاش بعد الحرب العالمية الثانية بظهور مصطلح البنيوية و هي فلسفة كبيرة تشير إلى أهمية الأساطير و اللاوعي في فهم الإنسان. و كان عرابها الكبير فيلسوف السلطة و المعرفة ميشال فوكو و عالم الأعراق كلود ليفي ستروس. كلاهما كان بروفيسورا في كوليج دو فرانس و لأنه كان يتقاسم الاسم مع علامة الثياب الأمريكية الشهيرة بقي الفيلسوف الفرنسي طيلة حياته يتلقى طلبات لتزويد أصحابها بسراويل الجينز.
لكن الرمز الكبير لمثقفي الضفة اليسرى كان الفيلسوف جان بول سارتر، و الذي حمل دور المثقف العام عاليا، و كمثقف ملتزم كان عليه واجب نذر نفسه للعمل الثوري. متسائلا عن صحة المفاهيم القائمة. و أعطى سارتر بمواقفه و طريقة عيشه البوهيمية صورة عن الغد المشرق الذي ينتظر الإنسانية، بنقد و معارضة الوضع القائم في كل من النظام الجمهوري و الحزب الشيوعي و النظام الفرنسي الاستعماري في الجزائر و حتى النظام الجامعي القائم حينها.
و مثلما قال بنفسه فقد كان سارتر نتيجة مواقفه دائما يوصف بأنه خائن، و هذه الصورة المعارضة للنظام هي ما أعطى للمثقفين الفرنسيين هالتهم و حتى حين كان يعبر عن مقت الوطنية كان سارتر يساهم في شعور الفرنسيين بأنهم كبار. و كان بذلك أحد أكبر الوجوه الفرنسية في القرن العشرين و كسبت كتاباته أتباعا لدى النخبة المثقفة من بيونس إيرس حتى بيروت.
اليوم لا تكاد الضفة اليسرى تكون سوى ظل باهت لما كانت عليه أيام أمجاد المثقفين و الفلاسفة الكبار. و بخلاف حالات استثنائية نادرة مثل كتاب توماس بيكيتي عن الرأسمالية، فقد توقفت باريس عن كونها مركزا مهما للابتكار في الإنسانيات و العلوم الاجتماعية.
و ما يطغى على إنتاج المثقف الفرنسي حاليا هو السطحية، و الصفات المستنبطة مثلما ما يتجلى بقوة لدى برنارد هنري ليفي و كذا حالتها الذهنية المتشائمة، و لا تجد في كتابات المثقفين اليوم ما يبشر بغد أفضل بل الحنين إلى القيم الزائلة للبطولات البائدة مثل ما جاء في كتاب ستيفن هيسل «عار عليكم» أو معاداة للإسلام من قبيل خطابات حزب الجبهة الوطنية اليميني لمارين لوبان المحذرة من تدمير الهوية الفرنسية.
و تكفي قراءتان لألان فينكيلكروت (الهوية التعيسة 2013) و إيريك زمور (انتحار الفرنسي 2014) حتى تتضح صورة التقهقر و الانحلال حتى التلاشي و الموت، التي تميز المشهد الثقافي الفرنسي. و أحدث عمل في هذا الميدان كتاب (الخنوع 2015) لميشال ولبيك، و هي رواية مختلة الوضعية تتنبأ بانتخاب مسلم رئيسا لفرنسا.
كيف يمكن تفسير فقدان فرنسا لرصيدها الثقافي؟ بالتغييرات في المشهد الثقافي العام التي أثرت على الرضا الذاتي لدى الغاليين، و تفكك الماركسية في نهاية القرن العشرين ترك فراغا لم يملأه سوى فكر ما بعد الحداثة. لكن كتابات أمثال فوكو و دريدا و بودريار لا تزال بشكل ما تنير بعض الطريق و تسمح بكشف هلامية ما بعد الحداثة مثلما تشير إليه الرواية الأخيرو للوران بيني (الوظيفة السابعة للغة) حول جريمة قتل غامضة مبنية حول موت الفيلسوف رولان بارث سنة 1980.
و حتى الواقع الفرنسي بحد ذاته لا يسمح للمثقفين بأخذ مواقع صحيحة، فالنظام التعليمي صار محشوا بالعدد و قليل الميزانية و التعليم العالي صار هشا و هو ما يبرزه ترتيب الجامعات الفرنسية في جدول رابطة شانغهاي المعني بالترتيب العالمي للجامعات. فقد تحول النظام التعليمي الفرنسي إلى الأقل جدارة و الأكثر تكنوقراطية، و أنتج نخبة أقل صقلا و أدنى إبتكار ثقافيا من نظيرتها في القرنين التاسع عشر و العشرون. و الفرق واضح جدا بين ساركوزي و هولاند رئيسا فرنسا اللذان لا يكادان يقدران على التحدث بلغة فرنسية سليمة في قواعدها، مقارنة بمن سبقوهم من رؤساء فرنسا المفوهين القادرين على الخطابة بطلاقة.
 و جدلا يمكن القول أن فرنسا فقدت حركيتها الثقافية بفعل تراجع دورها كقوة على الساحة الدولية سواء على الصعيد المادي بمنتجات قوية و واسعة الانتشار أو على الصعيد اللامادي متمثلا في المنتوج الثقافي، في عالم تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية. ثقافيا يقود الأنكلو-سكسون أوروبا و اقتصاديا هناك القوة الألمانية التي تركت الفرنسيين يصارعون لإعادة اختراع أنفسهم.
و القليل من المثقفين الفرنسيين معروفون في العالم اليوم بخلاف ولبيك وحتى الحائزين على جائزة نوبل للآداب أمثال لوكليزيو و باتريك موديانو ليسوا معروفين و مثال الفرانكوفونية لم يعد سوى صدفة فارغة، حتى منظمة الفرنكوفونية لم يعد لها سوى تأثير قليل لدى الشعوب الناطقة بالفرنسية عبر العالم.
و مثلما لخص بيار نورا الوضع فقد وقعت فرنسا ضحية «تريفها من الريف الوطني»، و أصبحت لا قيمة لها، فلا إنهيار الشيوعية و لا ثورات الربيع العربي إستلهمت شيئا من فرنسا، بل حتى الأفكار النيرة لفلاسفتها أمثال روسو صارت أداة بيد الديمقراطيين المسيحيين الألمان الذي يتعاطون إيجابيا مع أزمة تدفق أمواج اللاجئين.

الرجوع إلى الأعلى