حملت تسمية  "المدرسة التقنية لقسنطينة" عند تأسيسها سنة 1921، و بالرغم من كونها واحدة من بين ثلاث مؤسسات تقنية إحداها بالحراش بالعاصمة، و الأخرى بوهران، إلا أن ثانوية توفيق خزندار صنعت لنفسها اسما ومجدا بفضل تألق طلبتها الذين حولوا ورشاتها التطبيقية التقنية إلى أكبر مصنع مناولة في الشرق، يعنى بتصليح الآلات الصناعية و تزويد الشركات بقطع الغيار.
نور الهدى طابي * تصوير الشريف قليب
تخرج منها الجنرال بوسطيلة بوطرفة وبن بوزيد
المدرسة الداخلية التقنية لقسنطينة التي تقع بشارع مداوي بوجمعة " باب القنطرة"  و تتربع على مساحة مبنية قدرها 13955 مترا مربعا، فضلا عن فضاء حر بسعة 700 متر مربع غير مستغل ، عرفت بأنها ثانوية مخصصة للذكور فقط، و لم تنفتح على تعليم البنات إلا بداية الستينات من القرن الماضي، و قد كان غالبية طلبتها من أبناء المعمرين الأوروبيين، و نسبة قليلة جدا لا تتعدى 1 في المائة من نخبة أبناء العرب المسلمين من مختلف ولايات الشرق الجزائري، أبرزهم الجنرال أحمد بوسطيلة القائد السابق لجهاز الدرك الوطني، فضلا عن وزير التربية الأسبق أبو بكر بن بوزيد، و المدير العالم لمؤسسة سونلغاز نور الدين بوطرفة، فضلا عن عدد من العباقرة و  العلماء ذوي الصيت العالمي في مجالات الرياضيات و الهندسة الإلكترونية و الصناعية المتواجدين حاليا في كبريات المعاهد و الجامعات العالمية على غرار الدكتور الطاهر كزاي.
اسم الثانوية التي تحمل رمزا خاصا يرتبط  بها و يشير إلى تخصصها التقني، ارتبط منذ تأسيسها بعنصر الذكاء وصفة النخبوية إذ أنها كانت بالنسبة للأوساط الطلابية التي لم تدرس بها تشكل عقدة نقص، كونها ظلت إلى غاية الثمانينيات، قبلة لعباقرة و نوابغ الرياضيات، فالالتحاق بصفوفها التعليمية كان مشروطا بتحصيل معدل يتجاوز 16.50 في اختبار الدخول الذي كان يشرف عليه أساتذة أوروبيون، نذكر من بينهم البروفيسور بونسان و كرانكا و ديشان، إضافة إلى الأستاذ بولغان من بلغاريا و غوغي من فرنسا.
في بداية الستينات لم تكن المؤسسة التي كانت تعرف باسم ثانوية القنطرة، تشرف على تدريس أكثر من طالبتين اثنتين، من أصل 300 طالب غالبيتهم فرنسيين، تركوا بصمتهم محفورة في أرشيف المؤسسة، و على رفوف مخازنها التي تتوفر على عدد معتبر من المخططات التقنية و قطع الغيار الدقيقة التي أنجزتها سواعدهم فأبدعت فيها، إذ لا تزال منجزاتهم دليلا على عظمة تاريخ الثانوية التي كانت حتى سنة 1986، مكانا مخصصا للمتفوقين في الهندسة الكهربائية و الصناعات الميكانيكية، و الرياضيات و الكيمياء و الفيزياء.
مقر النضال الطلابي الثوري بقسنطينة
خلال الثورة و تحديدا في السنوات الأخيرة قبل الاستقلال، شكلت الثانوية التقنية مقرا للنضال الطلابي، حيث عرفت بأنها ملتقى الطلبة العرب المسلمين الذين كانوا بمثابة الصوت النخبوي للنضال من أجل التحرر، و قد كانت تربط بعضهم علاقات قوية بالمجاهدين، كما أكد لنا بعض الطلبة القدماء الذين التقيناهم خلال زيارتنا للمؤسسة، ففي سنة 1961، نظم طلبة الثانويات بالجزائر عموما و قسنطينة على وجه الخصوص، مظاهرات طلابية حاشدة للمطالبة بالاستقلال و التنديد بجرائم المنظمة السرية، و كانت ثانوية خزندار مقرا للاجتماع، حيث التقى ما يزيد عن 200 طالب جزائري مسلم عند بوابتها الرئيسية و علقوا الأعلام الوطنية بقرب العلم الفرنسي، رافعين شعار الطلبة الأحرار.
وخلال نفس السنة، كما جاء في شهادة لأحد الطلبة الجزائريين، و هو مسؤول الأرشيف الوطني سابقا المؤرخ عبد الكريم بجاجة، بأن طلبة الثانوية و عدد من المؤسسات الأخرى بقسنطينة، نظموا مظاهرة طلابية رافضين الالتحاق بالأقسام،  احتجاجا على فصل 5 طلبة جزائريين بتهمة حمل السكاكين، إذ اتهمتهم الإدارة بالتواطؤ مع المجاهدين و محاولة الإخلال بالنظام العام.
 الثانوية التي تزدان جدرانها حاليا بصور الشهداء و الشهيدات، لا تزال محتفظة بأرشيف كامل من الصور التي يعود بعضها إلى سنة تأسيسها، أي سنة 1921، يبرز المستوى الراقي الذي كانت عليه المدرسة خلال الثورة و بعد الاستقلال بسنوات عديدة، كما لا تزال محجا للعديد من طلبتها القدماء، سواء الفرنسيين أو الجزائريين، يزورونها ليستذكروا لحظات الشباب و الزمن الجميل، كلما قادتهم الأقدار إلى مدينة الصخر العتيق، بالمقابل اختار آخرون اللقاء  في منتديات إلكترونية تحمل اسم الثانوية، يتبادلون عبرها الصور و  يستغلونها كمحطة للقاء.     
ورشات كوّنت خيرة المهندسين يأكلها الصدأ
 بعد الاستقلال تم تغيير تسمية الثانوية من القنطرة إلى ثانوية توفيق خزندار، وقد استمرت حتى سنة 1986 في تخصصها التقني، وهو ما سمح لها بتكوين عدد كبير من خيرة التقنيين و المهندسين الجزائريين في مجال الهندسة الكهربائية و الهندسة الميكانيكية و الصناعة الكهربائية و الميكانيكية، وقد أكد لنا عدد من طلبة الاستقلال الذين أصبح غالبيتهم موظفين حاليا بإدارة الثانوية، بأن العديد من المؤسسات على غرار الإذاعة الوطنية كانت تتيح فرص التوظيف لطلبة الثانوية، حتى قبل تخرجهم.
أما الورشة التطبيقية الخاصة بالمؤسسة و التي تتربع على مساحة إجمالية تعادل 2000 متر مربع تقريبا، فكانت تعد مفخرة الثانوية إذ تعتبر نموذجا مصغرا لشركة منتجة يديرها طلبة لا تتعدى أعمارهم 17 سنة، خصوصا و أن الورشات التي تتوفر على أزيد من 100 آلة متخصصة في صناعة قطع الغيار الخاصة بالمناولة، كانت تتعامل مع العديد من الشركات و المؤسسات الصناعية الكبرى على غرار "سوناكوم "، إضافة إلى شركات أخرى من كامل الإقليم الشرقي للبلاد، فكان الطلبة يلتزمون بإصلاح الأعطاب التقنية والكهربائية في آلاتها، فضلا عن تزويدها بقطع غيار تصنع داخل الثانوية وفق نماذج ومخططات من إبداع الطلبة أنفسهم.

 فتلميذ خزندار سنة 1975 و حتى ،1985 كان أكثر تمرسا من مهندس خريج جامعة حاليا، هكذا عبر طلبة المدرسة القدماء، الذين دلونا على مخزن كبير، قيل لنا بأنه كان مخصصا لتخزين قطع الغيار و الآلات الصناعية الخاصة بالشركات الكبرى، هو حاليا مغلق بعدما توقف النظام التقني و أصبحت الثانوية مؤسسة عادية، إذ يتوقع أن يعاد استغلال المخزن و يحول إلى مطعم مدرسي.
وضعية الورشات التقنية حاليا مزرية، إذ تعاني الإهمال منذ سنوات عديدة، فالغبار يغطي المخططات و النماذج القديمة و الصدأ بدأ يأتي على آلات اللحم و التقطيع و أفران صهر الحديد، التي تأكدنا بأنها لا تزال في حالة جيدة و قابلة للاستعمال، حيث أخبرنا مسؤولون بالثانوية بأن شركة " آلمو" بواد حميميم أشرفت سنة 2003 على صيانة الآلات، لتجنب تلفها النهائي ثم أعادتها إلى ورشة الثانوية، كونها تعد من ممتلكات قطاع التربية، وهو ما يطرح تساؤلا حقيقيا عن مصير ثروة صناعية قيل لنا بأن قيمتها تعادل 2 مليار سنيتم.
 مع ذلك يبقى اسم الثانوية وحده رنانا و مرتبطا بشخصيات هامة مرت ذات يوم على أقسامها و حجراتها الداخلية التي فصلت عنها حاليا و حولت إلى متوسطة، تتصل بالمؤسسة الثانوية عن طريق نفق صغير يربط بدوره أمجاد الماضي بالحاضر.

الرجوع إلى الأعلى