في 29 أوت من السنة الماضية فازت مدينة وهران بشرف تنظيم الدورة الـ 19 لألعاب البحر الأبيض المتوسط 2021، و هذا بعدما صوًت عليها أعضاء اللجنة الدولية للألعاب المتوسطية المجتمعين في مدينة بيسكارا الإيطالية لتحصد الباهية 51 صوتا مقابل 17 صوتا فقط لمنافستها مدينة صفاقس التونسية، وقبل 5 سنوات من تنظيم هذا الموعد المتوسطي تستعد وهران لتحافظ على لقبها «مدينة متوسطية» ليس لارتباطه بالألعاب ولكن لجغرافية المكان وسوسيولوجية التركيبة البشرية للمدينة عبر العصور.
وكان أول إنجاز احتضن الليلة البيضاء التي عاشها سكان المدينة هي «الحديقة المتوسطية» المطلة على البحر المتوسط والتي تتربع على مساحة 5 هكتار، كما ينجز حاليا القرية المتوسطية التي ستأوي 14 ألف رياضي والمحاذية للملعب الأولمبي الجديد أين ستقام الألعاب والذي يتسع لأكثر من 40 ألف متفرج. الملفت للانتباه هو اندماج المجتمع المدني بالولاية مع التحضيرات لحسن استقبال الضيوف والترحيب بهم بالطريقة الوهرانية أي الصدر الرحب والكلمات الطيبة وهي الصفات التي تميز سكان الباهية على مدار القرون الغابرة.
«شعبي لا يُقهر وضيفي لا يُحقر»
ذكرت بعض المصادر أن قائلها هو سيدي المعقود المهاجي الذي أعطى للمدينة أيضا صفة الأسود لأنه كان يروض الأسود في جبال وهران في القرون القديمة، ويبدو من خلال هذه المقولة أن سكان وهران يُعرفون منذ القدم بطيبة القلب وحسن استقبال الضيف وسعة الخاطر، ولحد الآن تعتبر هذه المقولة شعارا لبلدية وهران، كما أنهم عرفوا بمقاومتهم للغزوات والحملات الاستعمارية المتتالية.
ورغم مرور الحقب الزمنية والتغييرات التكنولوجية لكن لازالت صفات المدينة وسكان وهران محافظة على الأهم الذي لخصه سيدي المعقود في المقولة السابقة أو الذي قاله الولي الصالح سيدي الهواري المغراوي الذي عاش في وهران ما بين 1380م و1439 حيث حسب الأساطير فإنه قال «وهران .. زايرها يروح غاير وساكنها يبقى حاير» بمعنى أن من يزور المدينة تبهره ببهائها وحسن استقبال وتسامح سكانها وجمال طبيعتها بينما سكانها لا يستمتعون ولا يحسون بكل هذه الصفات التي يملكونها و كذا الخصائص التي ميز الله بها مدينتهم.
وهران.. من يذكر هذه المدينة اليوم يضيف لها مباشرة عبارة «48 ولاية» ليس لترقيمها لكن ليعكس التركيبة الحالية لسكانها الذين ينحدرون من كل ولايات الوطن، ومهما تعددت الأسباب إلا أن لوهران عراقة تاريخية في هذا الأمر، حيث منذ إنشائها سنة 942م وهي تضم أجناسا مختلفة كل واحد منها جلب ثقافته وعاداته وتقاليده لتصنع المدينة فسيفساء ثقافية وتراثية مفتوحة على مدار الأزمنة. مثلما كشفته بعض المصادر فقد أسفرت نتائج الإحصاء السكاني الذي أشرفت عليه الإدارة الإستعمارية الفرنسية ما بين 1841و 1847 والخاص بسكان وهران، على أن المدينة تتكون من مزيج أوروبي وأقلية من الجزائريين، حيث تم إحصاء 47300 فرنسي قدموا من منطقة الألزاس خاصة ومناطق أخرى من فرنسا، 31 ألف إسباني من الذين ظلوا بالمدينة بعد خروج المستعمر الإسباني من وهران، 8800 ساكن من أصل مالطي و 8200 إيطالي إضافة ل8600 سويسري وغيرهم، بينما كان الجزائريون ينقسمون بين أربع قبائل هي،  قبيلة زمالة بـ6700 ساكن و قبيلة الدواير بـ11300 نسمة و قبيلة الغرابة بـ 12700 نسمة وقبيلة عامر الشراقة بـ 18 ألف ساكن، هذه التركيبة التي إنقسمت بين سكان وسط المدينة الأوروبية و»الدوار الأسود» للعرب والمسلمين وهي المنطقة التي تسمى حاليا «المدينة الجديدة» جعلت من وهران تختلف عن المدن الجزائرية الأخرى كونها تشبعت بثقافات مختلفة جلبها المستعمرون والمعمرون مما جعل الساكن الوهراني يتميز بطباع لازمته لغاية اليوم. ومما ميزها أيضا هو المرسوم الذي صدر سنة 1863 والذي ألغى العروشية وأحل محلها «ثقافة المدينة والمواطنة» مما عكس عنها البعد المتوسطي المتجذر فيها بمختلف مركباته.
800 كلمة إسبانية في اللهجة الوهرانية
كشفت دراسة قام بها الأستاذ بن علو أمين من جامعة مستغانم مختص في الأنثروبولوجيا، أن اللهجة الوهرانية تضم 800 كلمة أصلها إسباني، وهي الكلمات التي لازالت لحد اليوم تميز الكلمات الوهرانية، مثل « الفيشطا والتي تعني الإحتفالية، و الشانكلا التي تعني النعل المنزلي أو التقليدي المعروفة بالبليغة عند باقي الجزائريين، والكولا وهي كلمة اسبانية تعني الطابور وكذا كلمة كرانتيكا وهي الأكلة التي تميز وهران»  وغيرها من الكلمات التي ظلت تلازم سكان المدينة بسبب تعرضها للاستعمار الإسباني لحوالي 5 قرون ولا زال بعض سكان سفح جبل المرجاجو يتقنون الإسبانية، وربما هذا الارتباط  يفسر الهجرة الكبيرة خلال السنوات الأخيرة لشباب وهران لإسبانيا وحتى أن العديد منهم لديهم أملاكا وعقارات في أليكانت و ألميريا بإسبانيا. وقبل الإسبان كانت القبائل البربرية،هي أصل سكان سفح المرجاجو أي مدينة وهران، وتتكون اللهجة الوهرانية من عدة كلمات بربرية أو «شلحية» كما يصطلح عليه مثل كلمة «واه»  والتي تعني الرد بنعم و «اسقر» التي تعني أسكت و «احرز» بمعنى احذر و»الحوش» وهو وسط الدار في السكنات الأرضية «وغيرها من الكلمات التي تصنع مزيج التركيبة اللغوية للوهارنة وتعطيهم البعد المتوسطي الأوروبي.
الأحياء القديمة تحتضر والجديدة لم تحفظ الذاكرة
رغم أن السلطات العمومية بادرت خلال السنوات الأخيرة في عمليات ترميم العمارات القديمة بوسط مدينة وهران وهي العمارات التي يعود أغلبها للحقبة الاستعمارية الفرنسية والبعض منها للحقب الإسبانية والعثمانية، إلا أن مبان كثيرة عتيقة كانت تحكي ماضي المدينة وتراثها أضحت اليوم تنهار وتتساقط لتعلن انتقال المدينة لنمط معماري حديث  أصبح يتجلى في بعض المباني العصرية التي تقارب ناطحات السحاب والتي أفقدت وسط وهران شكله العمراني المتميز الذي لازال يقاوم من أجل البقاء بأكبر شوارع وسط المدينة، وهي العربي بن مهيدي، خميستي وشارعي20 أوت و مستغانم والأمير عبد القادر وبعض الشوارع في أحياء أخرى منها البلاطو، كما تتعرض كذلك بنايات أقدم حي بالولاية، وهو سيدي الهواري للانهيار و الاندثار، رغم أن السلطات العمومية تبذل مجهودات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من عمارات أثرية للإبقاء على شواهد تاريخ المدينة، ويبدو أن 24 عمارة بهذا الحي ستخضع للترميم وإعادة التأهيل بعد إختفاء عشرات العمارات خلال السنوات الأخيرة بسبب إنهيارها وتساقطها.
بالمقابل تنامت بشكل سريع عمارات جديدة عبر أحياء جديدة توسعية 90 بالمائة منها بالجهة الشرقية للولاية بوادي تليلات وقديل وبلقايد، وهو القطب الذي بدأ منذ سنتين تقريبا يستقبل مئات العائلات المرحلة من أحياء وسط وهران الهشة، ولازال هذا القطب يستقبل الساكنين المحولين من النمط الأوروبي بالمدينة إلى النمط العمراني الجديد في عمارات متراصة و فضاءات تختلف تماما عن الواقع الذي يحاكي التاريخ في البنايات القديمة، وتعد عمليات الترحيل هذه الأكبر منذ الاستقلال، وهي تقارب على الإنتهاء من إحدى مراحلها التي تضم 8178 وحدة سكنية سمحت بالقضاء على القصدير الذي كان يحيط بالمدينة ليترجم حجم الكثافة السكانية التي نزحت لوهران خلال العشرية السوداء، كما سمحت بتقليص عدد السكنات الهشة التي كانت تهدد قاطنيها بالموت.
هذا التحول العمراني يترجم الحجم الكبير لعمليات إنجاز السكنات في إطار حصص الولاية من البرامج الخماسية التي أقرها رئيس الجمهورية، ولكن من جانب آخر، يترجم حجم العائلات التي استقرت بوهران منذ الثمانينات أي حتى قبل النزوح القوي خلال العشرية السوداء، حيث لم تجد تلك العائلات سوى ضواحي المدينة لإنجاز بيوت قصديرية، بينما كانت وهران غداة الاستقلال أول ولاية بالجزائر ليس لها مشكل سكن  فمباشرة بعد خروج حوالي 180 ألف  فرنسي من وهران تم تعويضهم في المساكن التي تركت شاغرة بـ 100 ألف مواطن وهراني  مما يعكس انعدام أزمة السكن بالمدينة آنذاك  لغاية نهاية السبعينات حين انفجر النزوح الريفي  نحو المدن وتضاعفت صعوبة تلبية كل طلبات السكن التي تواصلت لغاية بداية 2000 ، حين بدأ العمل على ضبط إستراتيجية محكمة للقضاء على هذه الأزمة التي تعقدت وصعب حلها بسهولة وهاهي ترى الفرج في 2016 .
إحتفالية شهر التراث تُلبس ماضي المدينة على حاضرها
يبدو أن احتفالية شهر التراث هذا العام أخذت صبغة اقتصادية من خلال شعار الاحتفالية الموسوم بـ «التراث قيمة اقتصادية»، وربما هي أحسن طريقة للحفاظ على التراث المادي واللامادي عندما يتم تثمينه اقتصاديا خاصة في ظل الأزمة التي تمر بها البلاد، فإلى جانب كل المحاضرات التي تضمنت البعد الاقتصادي، يحمل برنامج التظاهرة بوهران على مدار شهر من 18 أفريل لغاية 18 ماي المقبل، معارض لمختلف الأبعاد التراثية من طرب وغناء إلى طبخ وحلويات وألبسة وحليً وصور تعكس ماضي المدينة وصولا لخرجات موجهة لسكان المدينة وللزوار إلى كل المناطق الأثرية المعروفة منها قلعة سانتا كروز والمدينة الأثرية « بورتوس مانيوس» شرق الولاية وكذا معالم أخرى منتشرة في مختلف أحياء المدينة، ولكن أهم ما يميز هذه الاحتفالية هو النشاط الجديد الذي سيُذكًر الوهرانيين وكل زوار المدينة بماضيها العريق الذي سيغلف الحاضر العصري ويضمن تواصل طابعها المتوسطي التاريخي، حيث ستقوم السلطات العمومية المشرفة على التظاهرة التراثية بتغليف 5 محطات للترامواي بملصقات لمعالم أثرية مع تعريف يرافق كل معلم وتسمية المحطة باسم المعلم الأثري الذي تلبسه، وكل معلم سيؤرخ لحقبة زمنية من تاريخ الولاية منها الحقبة الإسبانية والعثمانية والفرنسية، حيث أن كل استعمار مر بالمدينة ترك بصمته وعاداته وتقاليده وتراثه.
هوارية ب

الرجوع إلى الأعلى