شد انتباه العالم عموما والعالم العربي خصوصا موقف الشعب السويسري الأخير الذي رفض في استفتاء شعبي تخصيص راتب قار لكل مواطن ومقيم، سواء كان عاملا نشطا أو عاطلا، كاشفا بموقفه هذا عن طبيعة نفسية حضارية تشكلت مع الزمن ترفض الأجر دون مقابل والكسب دون عمل، وتأبى الرخاء الذي يجرها للاسترخاء ولو كان في بلد تمتلئ خزائن بنوكه بأموال أبناء الأمة والأموال المستقطبة أو المهربة.
مقابل هذا الموقف في الغرب تظهر مواقف مشينة في الشرق تجاه العمل والكسب، فالكثير من الشعوب العربية والإسلامية ومنها شرائح من الشعب الجزائري لو استفتيت في هكذا مشروع لما ترددت في القبول، ولوجد المؤيدون لأنفسهم عشرات الحجج والتبريرات الشرعية والاجتماعية، من قبيل أن الناس شركاء في المال العام وثروة البلد وأن العدالة الاجتماعية تقتضي أن يعطى كل مواطن قدر حاجته،وغيرها من التبريرات التي لا تجد له قبولا منطقيا إلا عند ذوي الشعارات المخدرة للشعوب، من الذين يقودونها بالأوهام ويستدرجونها لمراتع الاستعباد والهوان؛ أو من قبل كسالى ألفوا الاسترخاء والخمول في حياة لا تقبل غير الجد والعمل.
ولا يختلف الذين يقبلون مرتبا قارا دون عمل عن الذين يحرصون على الكسب بطرق غير مشروعة دينيا أو قانونيا، ويتهربون من أداء حقوقهم الدينية والدستورية القانونية، أو ينخرطون في الشبكة الاجتماعية وهم ليسوا ممن تشملهم قوانينها أو يستفيدون من إعانات الدولة والسكنات الاجتماعية وقفة رمضان وهي مخصصة لغيرهم، فكل هؤلاء  متواكلون يستسيغون أخذ المال بدون مقابل والعيش مجانا على حساب الآخرين سواء من أجيالهم أو من  الأجيال التي تأتي بعدهم.
إن السبب النفسي والاجتماعي لرفض السويسريين لراتب قار دون عمل يقابله، أن مجتمعات الحداثة ما قبلها استثمرت في الإنسان، فكان رأس مالها الأساس، إنسان يقدس العمل ويتقنه، ويحترم القانون ويلتزم به، يجل العلم وأهله، وفوق هذا يقدر قيمة الدولة والنظام، يدرك جيدا الخطوط الفاصلة بين الحق والواجب، الحرية والفوضى، العدل والمساواة، ولا يرى وجها لتطابقها، بينما تتدحرج هذه القيم في مخيال الجزائري، ولا يأبه بها الكثير، مما يكشف عن هشاشة بناء الإنسان والاستثمار فيه، وبعده عن صيرورة المدنية والحداثة وثقافة الدولة ومفهوم التعايش والشراكة، كما يكشف عن زيف الشعارات التي تربت عليها أجيال من أبناء الوطن العربي في السبعينيات والثمانينيات، قبل أن تستفيق على الفجوة الحضارية علميا ورقميا ومؤسساتيا التي تفصلها عن باقي الأمم والأوطان.
يحدث هذا والجزائريون ومن خلفهم العرب والمسلمون يعيشون في ظل دين سماوي ويفيئون بظلال شريعته منذ أزيد من أربعة عشر قرنا، دين يؤكد صراحة على قيمة العمل ويربط الجزاء في الدنيا وفي الآخرة به، ويدعوا أتباعه للسعي إلى كسب قوت اليوم بعمل اليد وعرق الجبين، فيقول الله تعالى:((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)) ويربأ بالمسلم أن يأخذ مالا دون عمل، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده» ويقول أيضا: (لأن يأخذ أحدكم حبله، ثم يغدو إلى الجبل فيتحطب، فيبيع فيأكل ويتصدق، خير له من أن يسأل الناس)  وهذا الخليفة عمر يحذر من تفشي ظاهرة القبول بالأجر دون عمل، والكسب دون كد، فكان يقول رضي الله عنه: «لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة»، ويقول أيضاً: «أني لأرى الرجل فيعجبني فأقول أله حرفة فإن قالوا لا سقط من عيني»؛ بل إن الإسلام جعل العمل واجبا فقال سبحانه وتعالى: (( وقل اعملوا))، وقال:
 }فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{،وتيسيرا للعلم سهل السير في الأرض بحثا عن الكسب الحلال، فقال تعالى: }هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ{.
فكيف يقبل أن يستكين شعب ينتمي لهذا الدين للاسترخاء والتواكل ويقبل الكسب غير المشروع والكسب السريع دون تعب أو كلل أو عمل، بينما لا يقبل بذلك شعب آخر لا يحتكم لهذا الدين، بل اهتدى لقناعاته وفلسفته في الحياة بالعقل والضمير والتجربة الإنسانية في الأنفس والمجتمعات، وهل بقي مبرر لمن يتساءلون دوما لماذا تقدم غيرنا وتأخرنا؟
ع/خ

الرجوع إلى الأعلى