الخميس 3 جويلية 2025 الموافق لـ 7 محرم 1447
Accueil Top Pub

تأمين البلاد من مناورات الاستعمار الجديد وكسب معركة الغذاء والماء: الجزائــر .. من الاستقلال إلى تحصين السيادة


 تحيي الجزائر الذكرى 63 لاسترجاع السيادة الوطنية في سياق يتميز باستكمال مسار بناء جزائر جديدة منتصرة وفية لمبادئ أول نوفمبر 1954، سيدة في قراراتها، ترتكز على قاعدة مؤسساتية صلبة وممارسة ديمقراطية حقيقية وصولا إلى تجسيد الأهداف التي حددتها رسالة الشهداء بصون وتعزيز السيادة الوطنية، والمواصلة في مشروع البناء الوطني استجابة لطموحات الشعب الجزائري.

تحتفل الجزائر هذا الخامس من يوليو بالذكرى 64 للاستقلال والسيادة الوطنية، والتي أخذت كل معانيها مع استكمال بناء أسس «الجزائر الجديدة والمنتصرة» الوفية لمبادئ الثورة التحريرية ومرتكزة على الثوابت التي ترسخت منذ 1962، تعزيزاً للسيادة الوطنية واستقلالية القرار الوطني، رغم المناورات والدسائس التي حيكت في الخفاء من قبل دوائر أجنبية معادية وجهات متربصة.
وقد وضع رئيس الجمهورية على رأس أولوياته استكمال دعائم السيادة الوطنية واستقلالية القرار السياسي والاقتصادي عبر تسريع وتيرة التنمية وشموليتها لتمس كافة التراب الوطني وتطوير الاقتصاد الوطني من خلال مشاريع هيكلية ستغير وجه البلاد في السنوات المقبلة، وعيا منه بأن التحدي الحقيقي للبلاد بعد استرجاع سيادتها يكمن في تحقيق الازدهار الاقتصادي والاجتماعي في ظروف إقليمية ودولية تستوجب تكاتف جهود الجميع لرص الصفوف وتقوية الجبهة الداخلية.
وقد أكد رئيس الجمهورية، في تصريح سابق، أن السيادة الوطنية تصان بالارتكاز على جيش قوي مهاب واقتصاد متطور وأن التطور الذي تشهده الجزائر أمر ملموس لا ينكره إلا جاحد. وبطاقات شبانية متشبعة بالروح الوطنية ومتفتحة على العالم، مع العمل المتواصل لرص الصفوف وتعزيز الوحدة الوطنية ومواجهة المحاولات التي تسعى لضرب سيادة واستقرار البلاد.
وإذا كان الطابع التاريخي والعاطفي يغلب على الاحتفال بعيد الاستقلال، فإن التطورات الراهنة التي يشهدها العالم والتحولات الجيو ستراتيجية التي يشهدها العالم وسط حروب ونزاعات وانتهاك للسيادة الوطنية لعدة دول سواء عبر الحملات العسكرية أو إثارة النعرات الداخلية أو من خلال عصابات من المرتزقة، يفرض على الجميع التفكير في التحديات الأمنية التي تواجهها البلاد بسبب الإضرابات المحيطة بها، وكذا التحديات الاقتصادية بعد 63 سنة من الاستقلال واسترجاع السيادة الوطنية، لأن الجانب الاقتصادي جزء مهم من السيادة الوطنية خاصة في ظل الظروف العالمية الحالية.
وبالنسبة للجزائريين فإن مبدأ السيادة الوطنية سيبقى دوما أحد المقومات الأساسية للدولة وخطا أحمر لا يسمح بتجاوزه بأي حال من الأحوال، وتحت أي ظرف أو مسمى، فالجزائر، التي دفعت الملايين من الشهداء ثمنا لاستعادة سيادتها، «تصر اليوم على صونها والدفاع عنها بكل ما أوتيت من قوة والمضي في طريق تعزيز المكتسبات التي تحققت على خطى بناء الدولة الجزائرية على أسس قوية.
 الحفاظ على الذاكرة والتطلع لجزائر قوية ومنتصرة
وقد جعلت الجزائر من الحفاظ على الذاكرة الوطنية والعرفان لتضحيات المجاهدين والشهداء واجبا مقدسا وواحدة من أهم الأولويات، وذلك بتوجيه من رئيس الجمهورية الذي أكد في عديد المناسبات حرصه على ملف التاريخ والذاكرة، والذي ينبع من تلك الصفحات المجيدة ومن تقدير الدولة لمسؤوليتها تجاه رصيدها التاريخي، باعتباره أحد المقومات التي صهرت الهوية الوطنية الجزائرية.. وهو حرص ينأى عن كل مزايدة أو مساومة لصون ذاكرتنا بعيدا عن الاستغلال السياسي.
ويحتفي الجزائريون هذا العام بذكرى استرجاع السيادة الوطنية، وهم يشهدون تجسيد معالم عهد جديد، يستند إلى إرادة سياسية قوية كرست القطيعة مع ممارسات الماضي واختارت الاندماج في مشروع وطني واعد. وقد عمل رئيس الجمهورية، على التأسيس للجزائر الجديدة انطلاقا من الإرث التاريخي والوطني الذي يعد أساسا صلبا تقوم عليه اليوم الدولة الوطنية المستقلة التي صمدت وانتصرت بمرجعية نوفمبرية أمام الهزات والمحن، حيث نجح في إعادة الثقة بين الجزائريين ودولتهم، وتكريس الدولة الاجتماعية التي تضمنها بيان أول نوفمبر.
كما نجحت الجزائر في استعادة مكانتها دوليا وتواجدها الوازن في مختلف الملفات الإقليمية والدولية، بفضل مواقفها المتوازنة البعيدة عن كل أشكال التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ودورها الريادي في نصرة القضايا العادلة في العالم، وترجيح الحلول السياسية على الخيارات العسكرية التي تكون سببا في دمار الدول على غرار ما عرفته عديد الدول في المنطقة العربية.
وتولي الدولة الجزائرية أهمية بالغة لتعزيز استقلالية القرار السياسي ودعم المواقف السيادية لاسيما ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والقضية الصحراوية في إطار مبادئ الجزائر المساندة لحق الشعوب في تقرير مصيرها، وكذا دعم الحلول السلمية للنزاعات والخلافات وتعزيز التعاون والتنسيق في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف، إضافة إلى مساهمتها الفعالة   كعضو غير دائم بمجلس الأمن الدولي، وفاعل مؤثر في ترقية التعاون والتنسيق في مواجهة التحديات العالمية الراهنة، وذلك انطلاقا من قناعتها الراسخة بأن الإطار متعدد الأطراف البناء والحيوي هو السبيل الوحيد لضمان علاقات دولية متوازنة وعادلة، بعيدا عن كل توجهات أحادية ومهيمنة.
 برامج تنموية ستغير وجه الجزائر
وحرص رئيس الجمهورية على ترسيخ دعائم جزائر قوية ماضية في مسارها التنموي الشامل نحو تعزيز السيادة الوطنية بمفهومها الواسع لتشمل عديد المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية كما تفرعت إلى الأمن المائي والغذائي والمالي للحفاظ على استقلالية القرار وسيادة التوجه وتفادي السقوط في فخ الإملاءات الأجنبية تحت ذريعة الدعم الاقتصادي والمالي، وهي ذريعة عادة ما تستعملها الدول الكبرى لفرض منطقها وهيمنتها دوليا.
وشهدت الجزائر إطلاق ورشات تنموية للقضاء على الفوارق وإخراج مناطق واسعة من البلاد من «الظل إلى النور»، إضافة إلى استحداث الولايات الجنوبية العشر وتدعيمها بالموارد الضرورية للإقلاع التنموي، إلى جانب البرامج التكميلية للتنمية المقررة لفائدة عدد من  الولايات والتي سمحت بدعمها بمشاريع مهيكلة ذات بعد جهوي ووطني من شأنها رفع  جاذبيتها.
واستطاعت البلاد في ظرف سنوات قليلة أن تقطع أشواطا هامة في كافة المجالات، بفضل قانون الاستثمار الجديد الذي يحرر المبادرات ويشجع على خلق الثروة،  كما أطلقت الجزائر مشاريع ضخمة في قطاع المناجم، وهي مشاريع هيكلية حقيقية ستمكن البلاد من تحقيق قفزة تنموية كبيرة، كما ستغير وجه المناطق التي تحتضن هذه المشاريع، من خلال إطلاق العديد من المشاريع الكبرى على غرار مشروع غار جبيلات الذي أصبح حقيقة ولم يعد مجرد حلم، ومشروع السكة الحديدية تندوف – بشار الذي شُرع في إنجازه، ومشروع إنشاء أكبر مزرعة في العالم لإنتاج الحليب مع الأشقاء القطريين، إلى جانب تشجيع وتسهيل الاستثمار، مع إيلاء عناية خاصة بالشباب.
كما شكل الحفاظ على الطابع الاجتماعي للدولة، أحد أبرز الأولويات كونه من المبادئ الثابتة والراسخة للدولة الجزائرية والذي حافظت عليه منذ الاستقلال، وتم التأكيد مرارا على أن «اجتماعية الدولة الجزائرية تعد مبدأ ثابتا متجذرا ببيان أول نوفمبر 1954»، وعملت الجزائر على تكييف مضامينه مع المتطلبات الآنية لاسيما بموجب التعديل الدستوري لنوفمبر 2020. وعلى هذا الأساس تم إدراجه، بالنظر إلى أهميته القصوى، ضمن الأحكام الصماء للدستور، أي النصوص غير القابلة للمراجعة.
كسب معركة الأمن الغذائي والمائي

ويعد ضمان الأمن الغذائي للبلاد ضمن الأهداف الرئيسية التي يتم العمل على تحقيقها لاستكمال أسس السيادة الوطنية وإبعاد البلاد عن كل مخاطر التبعية الغذائية، ولهذا جاءت تحديات الأمن الغذائي في صلب اهتمامات السلطات العمومية من خلال برامج لدعم الإنتاج الفلاحي والمضي قدما في ضمان الأمن الغذائي للبلاد في أقرب الآجال الممكنة ما يجعل الجزائر بمنأى عن تقلبات الأسعار، واضطرابات سلاسل التوريد العالمية.
ويعد الأمن الغذائي والسيادة الوطنية مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، حيث يشكل الأمن الغذائي جزءًا أساسيًا من السيادة الوطنية. فالقدرة على توفير الغذاء الكافي والآمن والمغذي للشعب، دون الاعتماد على الآخرين، تعزز استقلالية الدولة وتزيد من قدرتها على اتخاذ القرارات السيادية بحرية. وبالتالي، فإن تحقيق الأمن الغذائي يساهم في تعزيز السيادة الوطنية، بينما السيادة الوطنية توفر البيئة المناسبة لتحقيق الأمن الغذائي.
وقد وضعت الجزائر تحقيق أمنها الغذائي والمائي وتوفير كافة الظروف لتجسيده في صلب استراتيجياتها لما لذلك من تأثير على مؤشرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، وبشكل أخص على استقلالية القرار السياسي والاقتصادي للدولة. وقد صنف برنامج التغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، الجزائر، الأولى إفريقيا في مجال الأمن الغذائي. حيث تم إيلاء أهمية خاصة للفلاحة، وتم تسطير إستراتيجية لتوسيع المساحات المزروعة خاصة بالجنوب وتشجيع الاستثمار ومساعدة الفلاحين المتضررين من الكوارث الطبيعية، وإطلاق برنامج ضخم لإنشاء صوامع لتخزين الحبوب، وهي كلها عوامل ساهمت في رفع أداء القطاع الفلاحي.
كما تقدمت الجزائر بخطوات ثابتة نحو تحقيق الأمن المائي، من خلال استراتيجية ورؤية استشرافية سمحت باتخاذ مجموعة من الإجراءات من أجل التوصل إلى تحقيق الأمن المائي، وتم بهذا الخصوص إطلاق برامج استعجالية لمواجهة شح التزود بالمياه متمثلة في إنجاز الآبار في عديد الولايات، فضلا عن برنامج إنجاز محطات لتحلية مياه البحر، الذي سطر على المديين المتوسط والقصير.
كما تحرص السلطات العمومية على ضمان الأمن السيبراني واليقظة في اقتناء المعدات والتجهيزات وكذا توظيف الكفاءات الجزائرية ضمن مشروع الرقمنة, على اعتبار أن حماية الأمن القومي تبدأ من ضمان السيادة الرقمية. ولهذا الغرض تحضر الحكومة لمشروع قانون تمهيدي جديد للأمن السيبراني لحماية الأنظمة المعلوماتية في البلاد من أي هجمات سيبرانية مع تعزيز البنى التحتية والتبليغ السريع عن المعنيين وحماية المعطيات الشخصية والتكوين المستمر للموظفين المكلفين بالأنظمة المعلوماتية.
والمؤكد أن الاستقلال السياسي الذي جاء بدماء ملايين من الشهداء على مدى 132 سنة، لن يكتمل دون تحقيق السيادة الاقتصادية واستقلال القرار بعيدا عن الضغوطات والاملاءات التي تحاول فرضها الدوائر الأجنبية والجهات المعادية التي تسعى لضرب وحدة الشعب وزرع الفتنة والتفرقة وضرب مؤسسات الدولة، وعملت بلا هوادة على التشكيك في الأرقام والمنجزات المحققة وروجت الأكاذيب والمغالطات وهو ما يستوجب تقوية الجبهة الداخلية حتى تبقى الجزائر على الدوام قوية مزدهرة باقتصادها ومقدراتها، صلبة موحدة بشعبها ومؤسساتها، آمنة بجيشها الوطني الشعبي صائن وديعة الشهداء.
 ع سمير
 

بفضل الرعاية التي حظي بها قطاعا التربية والجامعات
نوابغ وكفاءات تقود البلاد نحو الثورة الرقمية والتكنولوجية
أحرز قطاعا التربية الوطنية والتعليم العالي على مدار 63 سنة الماضية مكاسب عدة في مجال تكوين الأجيال والإطارات لتقود قاطرة النمو و التقدم، مع حرص شديد على تحقيق مدرسة وجامعة الجودة، بتحيين المناهج وإقحام الرقمنة والوسائل التكنولوجية في التدريس، وتكوين الأساتذة لمواجهة التحديات والاستجابة لمتطلبات المجتمع.
وحظي التعليم بمختلف أطواره ومستوياته منذ الاستقلال باهتمام خاص ضمن البرامج والمخططات التي اعتمدتها الدولة لتحقيق النمو والازدهار في شتى المجالات، كما عكست الميزانية الهامة التي رصدتها الدولة لقطاعي الجامعات والتربية الوطنية ضمن قوانين المالية المكانة التي يتربع عليها العلم والمعرفة ضمن سلم الأولويات والرهانات.
ويشير تزايد عدد المرافق والهياكل التابعة لقطاعي التربية والتعليم العالي إلى تسارع وتيرة النمو في مجال التدريس والتكوين بصورة شاملة، بتسجيل أزيد من 30 ألف مؤسسة تعليمية في السنوات الأخيرة، وشبكة هامة من الجامعات والمدارس العليا، تتوفر على مختلف التخصصات، مع إحصاء حوالي 11 مليون تلميذ في الأطوار الثلاثة، ونحو 2 مليون طالب جامعي.
وتتوزع المرافق البيداغوجية التابعة لقطاعي التربية والتعليم العالي على مجمل أنحاء الوطن، يؤطرها الآلاف من الأساتذة والموظفين، يسهرون من جانبهم على تحسين ظروف التمدرس والتعليم، من خلال التكوين المتواصل للأساتذة، وتحيين المناهج، واعتماد الوسائل التكنولوجية في التعليم.
ويضم قطاع التعليم 54 جامعة و40 مدرسة عليا و13 مدرسة عليا للأساتذة فضلا عن 13 مركزا جامعيا، إلى جانب جامعة التكوين المتواصل، وبفضل الجهود التي يبذلها القطاع لبلوغ جامعة الجودة، تم في بداية الموسم الجامعي الحالي نقل عدة مؤسسات جامعية من التعليم الكلاسيكي إلى جامعة الجيل الرابع التي ترتكز على الابتكار والبحث التطبيقي وريادة الأعمال، وتقدم خدمات رقمية للمنتسبين للقطاع.
ويراهن هذا القطاع الاستراتيجي عبر استحداث عدة مراكز بحثية وحاضنات المشاريع المبتكرة على نقل التكنولوجيا من مراكز البحث العلمي إلى المؤسسات الاقتصادية، عن طريق تثمين نتائج البحث العلمي، وتحويلها إلى منتجات قابلة للتسويق والتطوير على مستوى المؤسسات الاقتصادية.
ويقود قاطرة التطوير العلمي والتكنولوجي نحو 70 ألف أستاذ باحث، من بينهم أزيد من 2200 باحث دائم على مستوى المؤسسات ذات الطابع العلمي والتكنولوجي، فضلا عن المراكز البحثية التي يتجاوز عددها 32 متخصصة في مجال ريادة الأعمال والابتكار.وتعد الثورة الرقمية التي يشهدها قطاع التعليم العالي في مجال الذكاء الاصطناعي من أبرز المكاسب المحققة، من خلال دعم المؤسسات الجامعية بمرافق لتثمين المشاريع البحثية في الذكاء الاصطناعي، وتشجيع الباحثين والطلبة على الاهتمام أكثر بهذا الجانب العلمي، ناهيك عن استحداث المدرسة الوطنية العليا للذكاء الاصطناعي بالقطب التكنولوجي لسيدي عبد الله بالعاصمة، التي تستقطب بدورها المتفوقين في امتحان شهادة البكالوريا.
وترمي السلطات العمومية عبر تطوير البحث العلمي وتطوير البيئة المناسبة للذكاء الاصطناعي لتحقيق السيادة في الميدان التكنولوجي والرقمي، وتقديم حلول جزائرية بحتة لمختلف الإشكالات ذات الطابع العلمي بدل الاعتماد على حلول مستوردة، إلى جانب إقحام الذكاء الاصطناعي في تطوير المجالات الاستراتيجية كالصحة والفلاحة و الصناعة. وأثمرت هذه الجهود إنجاز أبحاث عدة لمواجهة التحديات المرتبطة بالأمن الغذائي والأمن الصحي والأمن الطاقوي، كما مكنت الجزائر من تبؤ مراتب مشرفة دولية في مجال البحث العلمي، وترتيب الجامعة الجزائرية ضمن أفضل مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي دوليا، وعلى الصعيد العربي والإفريقي والمغاربي، بفضل ما تم إحرازه من نتائج في مجال البحث العلمي لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق التنمية المستدامة. ولا تقل مكاسب قطاع الجامعات منذ الاستقلال عن تلك التي سجلها قطاع التربية الوطنية ، ويعكس العدد الهام للمتمدرسين الذي يزداد سنويا، ليعادل حوالي ربع عدد سكان البلاد، مدى الاهتمام بالتربية والتعليم ضمن السياسات العمومية.
وتتجلى أهم المكتسبات في الحفاظ على مجانية التعليم لصالح كافة التلاميذ، إلى جانب ضمان التعليم التحضيري للأطفال ما قبل سن التمدرس، بتوفير المقاعد البيداغوجية الكافية والعدد المناسب من المؤطرين، إذ تعد هذه المرحلة من التعليم ركيزة أساسية ضمن المسار الدراسي للتلاميذ. ويمكن حصر الإنجازات الكبرى التي حققها قطاع التربية الوطنية في تعميم التعليم التحضيري وتوسيع تدريس اللغة الإنجليزية ليشمل جميع مراحل التعليم الابتدائي، إلى جانب تنصيب اللوحات الإلكترونية بالمدارس الابتدائية، وتخفيف مناهج الطور الأول الابتدائي، في انتظار تعميم الإجراء بصفة تدريجية على باقي الأطوار التعليمية بهدف تحقيق مدرسة الجودة، فضلا عن المراجعة المستمرة للأجور والعلاوات لفائدة المستخدمين.
ويعد رقمنة قطاع التربية على غرار التعليم العالي أهم مكسب تم تحقيقه بنجاح وبسواعد جزائرية، بفضل استحداث عديد الأرضيات والمنصات لتحسين جانب التسيير والتكفل الأمثل بالموارد البشرية، وتطوير طرق التدريس عبر تحسين كفاءات ومهارات المعلمين، إلى جانب تسهيل تعلم وتحصيل التلاميذ.
كما تعنى السلطات العمومية بالجانب الاجتماعي لمرافقة الفئات الهشة، بضمان مجانية الكتب والمنح المدرسية على غرار المنحة الجامعية التي يستفيد منها الطلبة، تحقيقا لمبدأ تكافؤ الفرص، وتعد نسب النجاح في امتحانات المدرسة الوطنية مرآة عاكسة لمكانة المدرسة والجامعة ضمن البرامج التنموية.
لطيفة بلحاج


63 سنة من الدفاع عن حقوق الشعوب وحريتها

الجزائر.. صوت الحق في عالم يحكمه الباطل
خرجت الجزائر في الخامس جويلية من سنة 1962 من ليل استعماري سحيق، دولة فتية، تحمل الكثير من الجراح وملايين الشهداء ومئات الآلاف من اليتامى والثكالى وحرائق في كل مكان، ولكن أيضا رصيدا معنويا وثوريا كبيرا ووجهة محددة وخطا لا يحيد.
في الخامس جويلية 1962 عندما نالت الجزائر استقلالها كان العالم منقسما على نفسه ، كتلة غربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها وكتلة شرقية بقيادة الاتحاد السوفياتي سابقا، ولم يكونا على وفاق وود بل كانت بينهما حربا باردة مسعورة في كل مكان وحروبا ساخنة لا تعد ولا تحصى.
في هذا الخضم ولدت جزائر جديدة كان عنوانها الأبرز الوقوف مع الحق وضد الباطل حيثما كان، ودعم حق الشعوب المستعمرة في التحرر وتقرير مصيرها، ومساندة الشعوب المستضعفة والوقوف في وجه الهيمنة و أكل حقوق الضعفاء.
وقد شكلت هذه المبادئ التي ولدت تحت «النار والدم» خلال سبع سنوات من الثورة التحريرية المباركة، إطارا واضحا لسياسة الجزائر الخارجية بعد جويلية 1962، في سياق دولي و إقليمي أقل ما يقال عنه أنه لم يكن أبدا متسقا مع مثل هذا التوجه الذي كان محفوفا بالمخاطر من جوانب عدة.
وإذا كان البعض يقول بأن السياق العالمي الذي جاء بعد الحرب العالمية الثانية بما فيه ميلاد منظمة الأمم المتحدة ونشر ميثاقها المعروف، كان عاملا مساعدا لحركات التحرر في العالم الثالث لأن الوضع الذي أفرزته نتائج الحرب العالمية الثانية كان يقتضي الانتهاء من الاستعمار التقليدي و إضعاف القوى الاستعمارية التقليدية وتعويضها بقوى جديدة، إلا أن سياق الحرب الباردة لم يكن أيضا عاملا مساعدا للدول الجديدة خاصة منها التي نالت استقلالها في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
فالقوتان الجديدتان اللتان أفرزهما وضع ما بعد الحرب العالمية الثانية، أي الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي، كانتا تعملان على استقطاب الدول إلى جانبهما انطلاقا من قاعدة من ليس معي فهو ضدي، وقد تدخلت هاتان القوتان في العديد من البلدان وخاضتا حروبا كبيرة من أجل الفوز بمساحات جديدة،أو حرمان الطرف الآخر منها.
لكن الجزائر التي تعرف جيدا معنى الاستقطاب ومعنى التخندق والتي ذاقت ويلات الاستعمار لأكثر من قرن فضلت سياسة أخرى هي « عدم الانحياز» و هو خيار لم يكن من السهل حتى الإفصاح عنه في ذلك الوقت، وكانت الجزائر من الدول الرائدة والمؤسسة لمنظمة عدم الانحياز التي قالت للدول الكبرى نحن هنا ولنا طريق آخر وحريتنا فوق كل اعتبار. وعلى هذا الدرب سارت الجزائر في ستينيات وسبعينيات وثمانيات القرن العشرين، دولة غير منحازة و ليست عدوا لأحد، تتعامل من منطلق مصلحة شعبها وتدافع عن المبادئ التي ولدت في رحمها، العدالة والتحرر ومساعدة الشعوب المستعمرة على تقرير مصيرها.
وعلى هذا النحو ساهمت الجزائر التي كانت تدعى في العقود الثلاثة التي تلت الاستقلال بـ»مكة الثوار» في دعم الكثير من الشعوب في إفريقيا وآسيا و أمريكا اللاتينية، ورسمت لنفسها خطا لم تحد عنه إلى اليوم انطلاقا من مبادئ سياستها الخارجية، وقد تعرضت في ذلك إلى مؤامرات ومكائد وضغوط كبيرة وحتى إلى محاولات لضرب استقرارها واستقلالها، إلا أنها وقفت في وجه كل تلك المحاولات حفاظا على خطها المستقل.
ولم يكن الوضع بالسهل عليها بداية تسعينات القرن العشرين بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية، وبعد دخولها في دوامة العنف والدم والإرهاب على المستوى الداخلي، بل واصلت على نفس النهج رغم كل ما سبق ذكره في عالم أضحى أحادي القطبية، وأصبحت فيه كل دول العالم تقريبا تركع عند أقدام قادة القطب المتبقي.

ولم يتغير الوضع كثيرا في مطلع الألفية الجديدة حيث تأزمت الأوضاع الدولية من جميع النواحي السياسية والاقتصادية والمالية، وازدادت الضغوط وتدخلات القوى الكبرى في شؤون الدول النامية والضعيفة، وشنت حروبا عدوانية على بعض منها أنهت في بعض الأحيان وجود تلك الدول وأدخلتها في دوامة العنف والاقتتال الداخلي وجعلت منها دولا فاشلة بعدما كانت دولا ناجحة قائمة بذاتها في وقت سابق. ولم يكن من السهل التعامل مع هذا الوضع بنفس المبادئ سالفة الذكر، حيث الانحناء أمام العاصفة صار موضة العصر، إلا أن الجزائر ورغم كل ذلك استطاعت الحفاظ على خطها ولم تحد عن نهجها رغم كل شيء، فمن كان يستطيع احتضان المجلس الوطني الفلسطيني وإعلان قيام دولة فلسطين إلا الجزائر، ولو كان هذا فقط ما قامت به لكفاها فخرا واعتزازا لأنها الدولة الأكثر تمسكا بالحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني منذ انطلاق الثورة الفلسطينية إلى اليوم.
ومن يتمسك بحقوق الشعب الصحراوي منذ خمسين سنة ويدافع عن حقه في تقرير مصيره و إنهاء احتلال أراضيه مثل الجزائر، ومن وقف إلى جانب شعب جنوب إفريقيا ودرب زعيمها الخالد نيلسون مانديلا على أراضيه ودعمه بالسلاح والمال سوى الجزائر حتى تمكن من القضاء على نظام الميز العنصري إلى الأبد.
و لم يكن دعم هذه النماذج من القضايا العادلة في العالم أمرا بسيطا فقد تطلب ذلك من الجزائر خوض معارك سياسية ودبلوماسية و أمنية كبيرة، وتعريض أمنها وحياة مواطنيها للخطر، وكذا تعريض مصالحها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للخطر أيضا،في عالم لم يكن يعترف بالحق ولا يقف بجانبه بل كان قائما على القوة وعلى الباطل في كثير من الأحيان. لقد رسمت جزائر الاستقلال منذ الوهلة الأولى لاسترجاع سيادتها الوطنية نهجها الخاص في التعامل مع العالم، نهج قائم على احترام حقوق الإنسان واحترام حقوق الشعوب في الحرية والاستقلال وتقرير المصير، واحترام حقوقها في التحكم في مواردها الاقتصادية، ونبذ التدخلات العسكرية الأجنبية، ورفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والتدخل في شؤونها الداخلية، ورفض الهيمنة والاستغلال والحروب وقتل الإنسان و الدوس على حريته. ومنذ بداية العدوان الصهيوني الهمجي على الشعب الفلسطيني قبل أكثر من عام ونصف سجلت الجزائر موقفا تاريخيا بوقوفها بقوة إلى جانب الشعب الفلسطيني، فقد أدانت بصوت عال جدا و بأشد العبارات الجرائم البشعة التي يقترفها الكيان في غزة والأراضي الفلسطينية في كل المحافل الدولية التي أتيحت لها، وقامت بمجهود دبلوماسي كبير في الأمم المتحدة ومجلس الأمن من أجل وقف هذه المجزرة المفتوحة، وهي أول من دعا إلى محاكمة قادة الكيان على جرائمهم، وهي التي أكدت من على منبر الأمم المتحدة بأن فلسطين ستنال العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، وهي الدولة العربية الوحيدة التي تقف بشكل علني ضد الكيان ومع قيام دولة فلسطينية، في وقت عبث فيه الكيان وحلفاؤه بأمن العديد من الدول العربية ودول المنطقة، وهي الدولة التي رفضت الهرولة نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني ولا تزال مصرة على ذلك.
وهي الدولة التي طالبت في وقت سابق بنظام اقتصادي عالمي جديد وبإصلاح الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي و إعطاء القارة الإفريقية حقها فيه.
فالجزائر التي نالت استقلالها في الخامس جويلية 1962 بضريبة دم غالية لا يمكنها أن تخون دماء شهدائها وأبطال حريتها، ولا أن تحيد عن النهج الذي رسمه الآباء المؤسسون، ولا يمكنها أن تفرط في رصيدها الثوري والمبدئي، ولا أن تخون الشعوب المسالمة في العالم، ولا يمكنها أن تكون إلا عامل استقرار مشع للسلم في العالم.وإنه لمن الصعب أن تكون صوت الحق لمدة 63 سنة في عالم يسوده قانون الغاب ويحكمه الباطل.
إلياس -ب

أستاذ التاريخ المعاصر البروفيسور مولود قرين للنصر  
 جرائم الاستعمار الفرنسي لا مثيل لها
 أكد أستاذ التاريخ المعاصر البروفيسور مولود قرين، على الأهمية الكبيرة التي توليها  الدولة لملف  الذاكرة و كتابة التاريخ الوطني والتعريف به وإبراز تضحيات الأجداد و الأسلاف لجيل اليوم  ،عبر مختلف الوسائط والقنوات والروافد المختلفة،  لافتا إلى  أن الثورة التحريرية المجيدة، كانت  فريدة من نوعها وتجربة رائدة في جميع المجالات، حيث قدم  الشعب الجزائري، درسا لا مثيل له، مؤكدا  أن  الجرائم التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي، هي جرائم دولة، ضد الإنسانية و لا تسقط بالتقادم و تتحملها الدولة الفرنسية الرسمية وتبقى وصمة عار تلاحق فرنسا إلى يومنا.

حاوره:  مراد - ح

النصر : تحيي الجزائر  يوم السبت 5 جويلية، الذكرى 63 لاسترجاع السيادة الوطنية ، بعد تضحيات جسام  قدمها الشعب الجزائري طيلة 132 سنة، من أجل طرد الاستعمار والوصول إلى الاستقلال، ماذا يمكن أن نستخلصه من دروس وعبر في هذه المحطة  التاريخية الخالدة؟  
مولود قرين: تاريخ 5 جويلية 1962 هو محطة هامة في تاريخ الجزائر المعاصر  والذي تمكن فيه الجزائريون من استعادة السيادة الوطنية بعد مقاومة شرسة ، خاضها الشعب الجزائري من 1830 إلى غاية 1962، وهذا التاريخ يعبر حقيقة عن مدى إصرار الجزائريين للتخلص من الاستعمار الفرنسي وهذا التاريخ يجعلنا نستشف مجموعة من الدروس ونستخلص  الكثير من العبر، لعل العبرة والدرس الأول هو أن إرادة الشعوب لا تقهر مهما كانت قوة العدو وجبروته، فالاستعمار الفرنسي، رغم أنه كان قوة كبيرة، عسكريا ومتحالفا مع الحلف الأطلسي، إلا أن إصرار الجزائريين ورغبتهم في التحرر، جعلت النصر والاستقلال واقعا، كذلك من العبر التي يمكن استخلاصها  في هذا التاريخ هو الوحدة الوطنية والتي بفضلها تمكن الجزائريون من تحقيق النصر،  حيث توحد المجتمع الجزائري بكل شرائحه وأطيافه ومشاربه حول مشروع جبهة التحرير الوطني  وكذلك توحد من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب وما أحوجنا  لشعور الوحدة الوطنية ، فهو السبيل الوحيد من أجل الحفاظ على أمانة الشهداء، كذلك عرف الجزائريون على مر التاريخ بتضحياتهم الجسام من أجل تحقيق الاستقلال ونحن الآن مدعوون للتضحية من جديد  في سبيل الحفاظ على أمانة الشهداء وبناء دولة جزائرية قوية قادرة على تحدي كل الرهانات.
النصر : الاستعمار الفرنسي لم يسبق له مثيل وكان  الأبشع و الأخطر من نوعه في التاريخ الحديث، حيث ارتكب في الجزائر مجازر متعددة  وجرائم  ضد الإنسانية، ماذا تقولون في هذا الشأن؟  
 

جرائم ضد الانسانية تتحملها الدولة الفرنسية
مولود قرين:  الاستعمار الفرنسي لا مثيل له بالنظر إلى الجرائم التي ارتكبها في حق الجزائريين منذ 1830 ، فجرائمه متعددة ومتنوعة و طالت الإبادة الجماعية، قبائل بأكملها مثل ما حدث في العوفية 1832  وفي الفراشيش 1854 وفي الأغواط  في 1852 و مجازر 8 ماي 1945 وكذا الجرائم التي ارتكبت خلال الثورة التحريرية و غيرها من الجرائم التي استهدفت الإنسان الجزائري   وأيضا الجرائم الاقتصادية ، مصادرة أملاك وأراضي الجزائريين  وتجويعهم وتفقيرهم ودفعهم إلى ترك مناطقهم وبلادهم والهجرة سواء داخل الوطن أو خارجه، وهذا ما يسمى بسياسة التهجير و النفي القصري وغيرها من مظاهر التهجير التي تعتبر في القوانين الدولية، جرائم ضد الإنسانية وكذلك جريمة إلغاء السيادة الوطنية والقضاء على الهوية الوطنية ومحاولة تغريب المجتمع  الجزائري وفرنسته، والجرائم التي ارتكبت في حق الجزائريين هي جرائم دولة تتحملها الدولة الفرنسية الرسمية بصفة خاصة ، لأن أوامر القمع والإبادة كانت تصدر من طرف قيادات رسمية تابعة للدولة الفرنسية، بداية  بجرائم القرن ال19 ، فالضباط الفرنسيون مثل بيجو وبيليسي و غيرهم كانوا يتلقون أوامر القمع  والإبادة من حكومتهم ، الأرض المحروقة ليست عملا معزولا قام به بيجو وإنما كانت أوامر رسمية تتحملها الدولة الفرنسية وكذلك مجازر 8 ماي 1945، يتحملها الجنرال ديغول الذي كان رئيسا لحكومة فرنسا في تلك الفترة ، فهو الذي أعطى الأوامر بضرورة قمع كل تظاهرة ولو كانت سلمية وكذلك الجرائم المرتكبة خلال الثورة التحريرية و الاغتيالات دون محاكمة و الإبادات وغيرها من  المظاهر الأخرى،  كانت بإيعاز من القيادات، سواء  السياسية أو العسكرية في الحكومة الفرنسية ، ولازالت هذه الجرائم وصمة عار تلاحق فرنسا إلى  غاية  يومنا هذا وبلغة القانون ، هذه الجرائم لا يمكن ان تسقط بالتقادم.
الاستعمار الفرنسي الأخطر من نوعه و  لا مثيل له
فالاستعمار الفرنسي  أخطر استعمار من نوعه ، حيث ألغى الدولة الجزائرية و ألغى وجود الجزائر وحاول أن يقضي على الشعب  الجزائري ويحل محله شعب أوروبي ولكن أمام إصرار الجزائريين ومقاومتهم الشرسة سقط هذا المشروع في الماء  ولم تستطع فرنسا أن تحقق خرافة الجزائر فرنسية التي ظلت تدافع  عنها و متشبثة بها طيلة 132 سنة  ، فبعد قانون 1834 و بعد دستور 1848 ، حاولت فرنسا أن تبقى  في الجزائر وقالت أن الجزائر، جزء لا يتجزأ من التراب الفرنسي والذي أجهض هذا المشروع هي المقاومة الشرسة التي استمرت  132 سنة .
وعلى الشباب اليوم أن يحافظ على  أمانة الشهداء وأن يقتضي بأسلافه  وبالدروس التي قدمها الشهداء والمجاهدون وأهم ما  أوصي به الشباب اليوم هو الوحدة الوطنية ، الوحدة الوطنية خط أحمر ، فلابد أن  يتوحد صفنا من أجل أن تكون في مستوى تطلعات الشهداء.
النصر:  رغم الجرائم  المروعة والمجازر الوحشية ، استبسل الشعب الجزائري واستمات في الدفاع عن أرضه ومقاومة المحتل  وشكلت الثورة التحريرية المجيدة، تجربة رائدة ، ماذا بخصوص فلسفة وقيم الثورة الجزائرية وانعكاساتها وتداعياتها المتواصلة؟
الثورة الجزائرية كانت فريدة من نوعها وتجربة رائدة
مولود قرين:  الجزائريون قدموا درسا لا مثيل له ،  درس يمكن أن يستفاد منه في كل حركات التحرر التي لا زالت قائمة إلى غاية يومنا هذا ، يمكن للفلسطينيين والصحراويين   الاستفادة  من ذلك ، فإرادة الشعوب لا تقهر  و نتيجة للتضحيات التي قدمها  أجدادنا  وأسلافنا نحن اليوم ننعم بالاستقلال والحرية  والأمن.
 والثورة الجزائرية كانت فريدة من نوعها في العالم وتجربة رائدة في جميع المجالات،  سواء على مستوى التكتيك العسكري وكذلك  في العمل الدبلوماسي و كذلك في قيمها وفلسفتها ومبادئها و التي كانت مبادئ إنسانية  بالدرجة الأولى فالثورة الجزائرية لم تكن مجرد حرب كما وصفتها الأدبيات  التاريخية الفرنسية ، بل هي مشروع حضاري شامل ومتكامل حيث حررت الثورة،  الإنسان من العبودية ومن مظاهر الاستغلال  بكل أشكاله وما زالت هذه الفلسفة  وهذه القيم هي التي تؤطر المجتمع الجزائري وهي التي تؤطر فلسفة  الدولة الجزائرية المتعلقة بالسياسة الخارجية ولعل في مقدمتها مساندة الشعوب في تقرير مصيرها .
النصر :  انخرط الشعب الجزائري في مقاومة الاستعمار الفرنسي ، بجميع فئاته وشرائحه ولعبت من جانبها النخب الجزائرية،  دورا مهما  في مسيرة التحرير و استعادة السيادة الوطنية، كيف ترون ذلك ؟ 
 دور بارز للنخب  في القيادة والتخطيط والتأطير
مولود قرين:  النخب الجزائرية، كان لها دور كبير جدا في قيادة المقاومة والحركة الوطنية الجزائرية، فالذين قادوا المقاومات الشعبية هم نخب  وصفوة القوم   و أغلب المقاومين في القرن ال 19،  كانوا ينتمون إلى الطرق الصوفية وشيوخ للزوايا، مثل الأمير عبد القادر و الشيخ الحداد  الذي تحالف مع الشيخ المقراني وكذلك الحركة الوطنية الجزائرية، قادها  نخب سياسية، متفوقة كانت قادرة بوعيها السياسي وثقافتها أن تؤطر الجزائريين وتقودهم وتخطط لبرامج الحركة الوطنية الجزائرية ، أما بعد 1947 ، برزت نخبة أحرى وهي النخبة الثورية التي آمنت أنه لا يمكن أن نستقل إلا إذا  انتقلنا إلى الخيار العسكري و  تفجير الثورة،  فتم إنشاء المنظمة  الخاصة  وما تلا  ذلك من اجتماعات تحضيرية، خاصة اجتماع  مجموعة ال22 و مجموعة ال6  و تشكيل القيادة النخبوية الثورية بالدرجة الأولى و بعد سنة 1956 ، تساهم النخبة ، خلال الثورة التحريرية بفعالية في العمل الدبلوماسي، خاصة أن مرحلة 56 تقتضي وجود نخبة قوية قادرة على نقل صوت الجزائر  إلى  المحافل الدولية والدفاع عليها بكل الطرق السياسية والدبلوماسية .
النصر : تولي الدولة أهمية كبيرة لملف الذاكرة والتاريخ الوطني، كيف يمكن  ترسيخ قيم الذاكرة بشكل أكـثـر  وإيصال بطولات وتضحيات الأجداد إلى جيل اليوم؟
 اهتمام كبير بملف الذاكرة و التاريخ الوطني
مولود قرين:   السيد رئيس الجمهورية أولى عناية كبيرة جدا لموضوع الذاكرة ، لأنه يدرك تمام الإدراك لما للذاكرة من أهمية في تحقيق التماسك الاجتماعي  والبناء الوطني،  فقد انتعشت الكتابة التاريخية و الأفلام الوثائقية والسينما التاريخية  بكل أشكالها باعتبارها من ضمن الروافد الهامة التي ترسخ قيم الذاكرة لدى جيل اليوم ، هناك مجموعة  الوسائط والقنوات يمكن من خلالها أن نوصل تضحيات الأسلاف إلى جيل اليوم ، لعل في مقدمة هذه  الوسائط، الدرس التاريخي ووسائل الإعلام المختلفة، سواء السمعية أو البصرية أو المقروءة وكذلك من الضروري أن ننخرط مع وسائل العصر ، خاصة الذكاء الاصطناعي، مع استحداث منصات تحاكي الذاكرة الوطنية والتاريخ الوطني وكذلك رسومات متحركة للأطفال نجسد من خلالها تاريخ الجزائر حتى تبقى راسخة في أذهان أطفالنا وتساهم في تنشئتهم تنشئة وطنية سليمة، حتى يكونون في المستقبل مواطنون متشبثون بتاريخهم وهويتهم وبجميع مقوماتهم  .

البروفيسور محفوظ عاشور أستاذ التاريخ بجامعة البليدة 2
الاستعمار الفرنسي كان يهدف لإبادة شعب بأكمله
يؤكد أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر والباحث في التاريخ الإنساني بجامعة البليدة 2، البروفيسور محفوظ عاشور، أن جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر هي جرائم ضد الإنسانية، كان هدفها إبادة شعب بأكمله، مضيفا في هذا الحوار الذي خص به "النصر" أن هذه الجرائم التي ارتكبتها فرنسا لم تحترم فيها أي قانون شرعي ولا وضعي ولا دولي ولن تسقط بالتقادم، لأنها جرائم تبقى راسخة في ذهن الجزائريين وذهن الإنسانية جمعاء، فيما لم تحرك فرنسا ساكنًا للاعتراف بها على الأقل وتعويض المتضررين منها.

حاوره: نورالدين عراب

النصر: فرنسا استعملت أبشع أساليب التعذيب ضد الشعب الجزائري طيلة فترة استعمارها للجزائر، كيف تصف هذه الجرائم؟
- الأستاذ عاشور: جرائم الاستعمار الفرنسي هي جرائم ضد الإنسانية لأن هدفها كان إبادة شعب بأكمله، وبدأت هذه الجرائم منذ أن وطأت أقدام الاستعمار الفرنسي أرض الجزائر، وما حدث في هذا البلد لم يحدث في أي قطر من العالم، من جرائم إبادة تفنّن فيها الاستعمار الفرنسي.
ففرنسا ارتكبت المجازر حتى في فترة المفاوضات بين 1960 و1962، وأنشئت المنظمة السرية من طرف جنرالات الجيش الفرنسي الراغبين في إبقاء الجزائر فرنسية، والذين أنشأوا عدة مراكز للتعذيب، كما فجروا أحياء بكاملها، ونفذوا اغتيالات في حق النخبة الجزائرية، وذلك قبل الاستقلال وفي فترة المفاوضات، حيث ارتكب جنرالات فرنسا والجمهورية الفرنسية الخامسة مجازر بشعة في حق الشعب الجزائري.
النصر: هل يمكن تصنيف هذه الجرائم على أنها جرائم حرب وفق القانون الدولي، ولا يمكن أن تسقط بالتقادم؟
- الأستاذ عاشور: أكيد أن هذه الجرائم جرائم حرب، لأن القانون الإنساني الدولي الذي يضم اتفاقيات جنيف والتي صادقت عليها وانضمت إليها فرنسا في سنة 1951 يدل على أن كل هذه الجرائم في الجزائر هي جرائم حرب، ولا يكفي هذا، وحتى قبل إنشاء اللجنة الدولية للصليب الأحمر في سنة 1863، أي قبل هذا التاريخ، كانت حقوق الإنسان قائمة، وفرنسا كانت ترى نفسها على أنها رائدة حقوق الإنسان، في حين أنها هي الأولى التي داست على حقوق الإنسان، وهذه الجرائم التي ارتكبتها فرنسا لا تسقط بالتقادم لأنها تمادت في الإجرام، حيث وصل بها الأمر إلى قطع رؤوس المقاومين والاحتفاظ بها في متحف الإنسان، الذي يسمى "الإنسان" في حين أنه هو ضد الإنسان، كما أن هذه الجرائم التي ارتكبتها فرنسا لم تحترم فيها أي قانون شرعي ولا وضعي ولا دولي، فالقوانين التي تسير الإنسانية هي قوانين المنطق، وفرنسا تجاوزت هذا المنطق وأصبحت دولة ينطبق عليها وصف الدولة الإجرامية، خاصة في عهد الجمهورية الفرنسية الخامسة، وحتى الجمهوريات التي سبقتها، فلما نتكلم عن المقاومة فهي في عهد الإمبراطورية والعهود الملكية وغير ذلك، كانت لهم نفس الطريقة في التعامل مع الشعوب والمقاومين، وهي القتل والتفنن في التعذيب، وهذا ما ميز الدولة الفرنسية الاستعمارية التي طبقت كل هذه الطرق في المناطق التي احتلتها، وخاصة في الجزائر التي عانت لمدة 132 سنة.
جرائم فرنسا في الجزائر لم تحدث في أي بلد آخر
النصر : ما هي آثار هذه الجرائم على الشعب الجزائري بعد الاستقلال، خصوصًا وأن بعض هذه الجرائم بقيت آثارها إلى يومنا هذا؟
- الأستاذ عاشور: أكيد أن آثار جرائم الاستعمار الفرنسي على الشعب الجزائري واضحة وضوحًا تامًا وجليًا في تاريخ الشعب وثقافته، وفي كل المجالات، وإذا تحدثنا حتى عن الغناء والقصائد نجدها تتطرق إلى هذه المجازر والمعاناة التي مر بها الشعب الجزائري، فالذاكرة الوطنية والذاكرة الشعبية ما زالت مجروحة وتحتفظ بهذه الجرائم، وتثبت أن الشعب الجزائري لا ينسى جرائم المستعمر، مهما تعاقبت الأجيال، ولا يزال الشعب الجزائري يعاني من مخلفات الفترة الاستعمارية، وبقيت مناطق ملغّمة، ولولا الجيش الوطني الشعبي الذي قام بإزالة هذه الألغام بالتعاون مع بعض الدول، لكانت كوارث المستعمر أكبر، وعلى الرغم من ذلك، لا تزال فرنسا تقتل في الجزائر، لأنه لا تزال بعض القنابل التي استعملتها والمتفجرات ضد الشعب الجزائري لم تنفجر، كما لا تزال مراكز التعذيب التي تذكر الشعب الجزائري بمعاناته، ولا تزال بعض الفيلات التي حوّلت إلى المستوطنين ومراكز للتعذيب، ولا زالت منطقة رقان ومناطق في تمنراست، ومناطق في الصحراء التي استُعملت للتجارب النووية، تقتل الجزائريين ومحرّمة عليهم، وهذه الجرائم لا يمكن أن تسقط بالتقادم، لأنها جرائم تبقى راسخة في ذهن الجزائريين وذهن الإنسانية جمعاء، ولم تحرك فرنسا ساكنًا للاعتراف بها على الأقل وتعويض المتضررين منها، خاصة الذين تضرروا من القنابل والتفجيرات النووية في رقان وغيرها.
النصر: في رأيك، لماذا ترفض فرنسا تعويض الجزائريين عن جرائمها في الجزائر، خاصة ضحايا التفجيرات النووية ؟
- الأستاذ عاشور: لا أعتقد أن الجمهورية الفرنسية الخامسة الحالية تعترف بجرائمها وتعوض ما خلفته من خسائر، على الأقل تنظيف المناطق التي حولتها إلى مزابل للنفايات النووية، لأن الجمهورية الخامسة لا زالت قائمة أولًا، وثانيًا هذا اللوبي الذي كان يحلم بالجزائر فرنسية، ولا يزال يحلم بها، لا يزال يدير دواليب الدولة الفرنسية، فلا أعتقد أن تتراجع الدولة الفرنسية عن ذلك، إلا إذا كان هناك تغيير شامل في السلطة الفرنسية، وسقوط الجمهورية الخامسة، أظن أن المعركة حاليًا موجودة داخل فرنسا بين الفرنسيين، والاعتراف ليس من شيم الفرنسي الذي يرتكب الجرائم ويفتخر بها، والدليل البارز متحف الإنسان.
النصر: إلى أي مدى يمكن لاعترافات جنرالات وجنود فرنسيين بارتكاب جرائم في الجزائر خلال الفترة الاستعمارية أن تُساهم في إدانة المستعمر ومطاردته أمام القانون الدولي؟
- الأستاذ عاشور: بالنسبة للاعترافات الفرنسية بالمجازر التي ارتُكبت في الجزائر إبان الاحتلال، فإنها لا تعدو أن تكون شهادات أدلى بها بعض الجنود، أو مذكرات كتبها جنرالات فرنسيون، وثّقوا فيها الجرائم التي اقترفوها بحق الجزائريين، كما نجد طبقة مثقفة من المؤرخين الفرنسيين كتبوا عن هذه المجازر، لكن كل هذا لا يكفي، لأن القانون الدولي الإنساني، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، ليست لديهما سلطة لإجبار الدول على الالتزام بها، بل إن التزام الدول بمبادئ الإنسانية يبقى مسألة طوعية، فمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، هو الآخر لا يملك صلاحية فرض عقوبات على الدول التي تنتهك حقوق الإنسان، ونحن نرى ذلك جليًا اليوم في تعامل المجتمع الدولي مع الكيان الصهيوني، الذي يمارس الإبادة بحق الشعب الفلسطيني دون أي رد فعل يُذكر، لا من مجلس حقوق الإنسان ولا من أية جهة دولية أخرى، وهذا راجع إلى طبيعة النظام الدولي الحالي، الذي تُهيمن عليه الدول الغربية الكبرى، ولا يطبق القانون الدولي إلا حسب مصالحها.

ذاكرة الجزائريين تحتفظ بجرائم فرنسا التي بقيت أثارها قائمة إلى اليوم
النصر: كيف يمكن لجرائم المستعمر البشعة طيلة فترة احتلال الجزائر أن تُمثل ردًا على ممجدي الاستعمار وأتباعه ؟
- الأستاذ عاشور: هذا صحيح، الرد على هؤلاء يجب أن يكون بالحُجّة والبرهان،
لكن من المهم أن نفهم أن مروّجي محاسن الاستعمار ينتمون لتيار لم يهضم استقلال الجزائر، وهو تيار يحمل حقدًا دفينًا تجاه الشعب والدولة الجزائرية، ويُشكّك في كل تطور يحصل داخل الجزائر، فهم لا يصفون الجزائر بالدولة، بل بـالنظام، ولا يعترفون بأي إنجاز، بل يُرجعون كل شيء إلى ما تركته فرنسا، رغم أن هذه الأخيرة لم تترك سوى الدمار والخراب والمجازر، والشعب الجزائري بعد الاستقلال عانى كثيرًا، والدولة الجزائرية رفعت تحديات كبرى لإعادة بناء نفسها سياسيًا، اقتصاديًا، ثقافيًا وحتّى رياضيًا.
لقد تحولت الجزائر بعد الاستقلال إلى ورشة عمل مفتوحة لإصلاح ما دمره الاستعمار، خاصة في مجال الهوية والتعليم، حيث بلغت نسبة الأمية مستويات خطيرة آنذاك، ناهيك عن خرق فرنسا لبنود "اتفاقيات إيفيان" التي كانت تنص على بقاء بعض الإطارات لتسيير المرحلة الانتقالية بعد الاستقلال، لكنهم انسحبوا جميعًا، وتركوا الجزائر تواجه مصيرها وحدها، واعتمدت الدولة الجزائرية على نخبة صغيرة من الإطارات الوطنية، وعلى التعاون الدولي من الدول الشقيقة والصديقة، للخروج من الوضع الصعب الذي تركه الاستعمار.
النصر: الكيان الصهيوني يرتكب جرائم بشعة في غزة منذ أكثـر من عام ونصف، ما القاسم المشترك والتشابه بين جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر وجرائم الكيان الصهيوني في غزة؟
- الأستاذ عاشور: التشابه واضح جدًا، لأن نفس الطريقة التي استعملها الاستعمار الفرنسي في الجزائر، يستعملها الكيان الصهيوني في أرض فلسطين ضد الشعب الفلسطيني، والكيان الصهيوني صناعة غربية ومدعوم من الغرب، ففرنسا و الكيان الصهيوني بمثابة التلميذ الذي يتعلم من أستاذه، وفرنسا هي أستاذة الكيان الصهيوني، علمته كيف يُبيد الشعوب، وكيف يراوغ في الإعلام ويوظف هذا الإعلام لصالحه، وهو ما حدث مع الشعب الجزائري، وفرنسا لا تزال تفكر تفكيرًا استعماريًا، وهذا التفكير نقلته للصهاينة، كما لا يزال لوبي صهيوني قوي في فرنسا هو الذي يسير هذه الأفكار والمواقف، والدعم يكون دائمًا في الشر وليس في الخير، في القتل والجرائم والإبادة من جهة، ومن جهة أخرى التظاهر بأنها دولة ترعى حقوق الإنسان، وهذه الحقوق لا تطبقها فرنسا سوى على الظالم وليس على المظلوم، كما فعلت مع الثورة التحريرية، حيث كانت تجرم جبهة التحرير الوطني.
فرنسا كانت تعتبر نفسها رائدة لحقوق الإنسان في وقت كانت ترتكب الجرائم بالجزائر
ولهذا كل ما يفعله الكيان الصهيوني على أرض فلسطين فعلته فرنسا في الجزائر، لكن في النهاية انتصر الشعب الجزائري بعد 132 سنة من المعاناة والكفاح، وهذا ما سيحدث بإذن الله مع الفلسطينيين.
ن ع

حقائق ووثائق تنفرد النصر بكشفها لأول مرة
حمدة تشاشي.. شهيد يعود من صمت التراب
في عمق تراب هذا الوطن، تظلّ الأرض تحفظ أسرارها، وتروي قصص من سقطوا دفاعا عنها بصمت وكرامة، فبعد عقود من البحث بين أساطير مغلوطة ظلّ يرويها ما بقي من تاريخ الاستعمار وقبر لا أثر له، حلّ تحقيق للنصر لغز الشّهيد البطل ابن مدينة عزّابة «حمدة تشاشي» الّذي ظلّ مفقود الأثر، بينما بقي اسمه منقوشا في ذاكرة التّاريخ وفي ذاكرة رفاق السّلاح الّذين احتضنوه تحت كنية «خميس الصّغيّر» بعيدا هناك في جبال تيارت أين كتب التّاريخ بدمه وأركع مستعمرا غاشما صنّفه واحدا من أخطر المجاهدين في المنطقة السّابعة.

 تحقيق : إيمان زياري

هي تفاصيل جديدة في قصّة قديمة، يرويها اليوم القدر وتنسج خيوطها وثائق من الأرشيف الفرنسي وشهادة رفاق السلاح جمعتها المهتمة بالتاريخ والكاتبة ليلى عامر، التي تعد أول من باشر التحري في قصة «خميس الصغير»، ومكن من الوصول لها المهتم بالتاريخ شوقي سعدي، وأكدها تحقيق النصر في سجلات الحالة المدنية والسجل الوطني لوزارة المجاهدين، الذي كان فاصلا في الكشف عن هوية البطل « حمدة تشاشي» لأول مرة.
تكشف عنها النصر لأول مرة، وبصدفة تجعلها تبدو كواحدة من تلك القصص الّتي نسجها الخيال، فبعد مرور أكثر من 65 عاما عن استشهاد الشّهيد البطل «حمدة تشاشي» ابن مدينة عزّابة بولاية سكيكدة، والّذي طالما تحدّث المقرّبون عن خبر مقتله من طرف المستعمر إثر مداهمة لمسكنه، ورميه في إحدى الوديان دون وجود أثر له، فلا الجثة ظهرت ولا القبر موجود، ولم يتبقّ سوى تلك الابنة الوحيدة «جميلة تشاشي» الّتي قبلت بما روي عن والدها واقتنعت أنّ عمله في نقل الرسائل بين المجاهدين وتقديم الإعانة المادية لأجل تحرير الجزائر قد كلّفه حياته.
جائزة المجلس الأعلى للّغة العربيّة تكشف حقيقة بطل ظلّ مجهولا لأزيد من 65 عاما
جاءت الصّدفة لتعيد كتابة قصّة هذا البطل كما لم يروها أهله بمنطقة السّبت بعزّابة، هذا البطل الشّهيد «حمدة تشاشي» الّذي ولد في الثّامن فيفري سنة 1935 بغجاتة بلدية عزّابة بسكيكدة، والّذي تحمل شهادة ميلاده تاريخ 21 سبتمبر 1961 بعزابة كتاريخ استشهاده، فمن حوار النّصر مع الكاتبة «ليلى عامر» المتوّجة بجائزة المجلس الأعلى للّغة العربية لسنة 2023عن روايتها «حواف مينا» وعن مسيرتها، تحوّل الحديث عن بطولات أولئك المجاهدين والشّهداء غير المعروفين بمنطقة تيارت وبالغرب الجزائري والّذين يشكّلون جزءا مهمّا في بحوث الكاتبة وأعمالها، عندما تحدّثت عن ذلك الشّهيد البطل الّذي لا يعرفون عنه سوى كنية «خميس الصّغير».
ومن مجرد سرد لبطولات هذا الشّهيد الّذي تقول الكاتبة أنّه مات غريبا في تيارت ولم يتمّ التّوصّل إلى أهله بالرّغم من سعي عدد من رفاقه بتيارت لذلك بعد الاستقلال، انقلب الحوار، وتحوّل النّقاش عن شخص مقرّب من العائلة تنطبق عليه ذات الصّفات، تلك الصّفات الّتي تقول أنّه من مواليد بلدية عزّابة بسكيكدة، ويمتلك شعرا أشقر وعينين خضراوتين، كما أنّه ترك ابنة واحدة بعد خروجه من بيته.. ظلّ طوال كفاحه بالغرب الجزائري يتحسّر ألما وشوقا لمعانقتها مجدّدا.
انطلق البحث من جديد في حقيقة استشهاد البطل الّذي لم تكن عائلته تمتلك ولا صورة له، ولم تتمكّن ابنته الوحيدة «جميلة» من رؤية ملامح وجهه يوما من الأيام، وكان تقبل الخبر بالنّسبة لها ضربا من الخيال، ورفضت تصديق أنّ صدفة في عمل صحفي قد تكشف ما عجز الزّمن والمقرّبون عن كشفه، غير أنّ إصرار الكاتبة ليلى عامر قادها للبحث والتّعمّق أكثر، خاصّة بعد أن قال بعض المجاهدين من رفاق البطل بتيارت إنّه كان أوسم من تلك الصّورة العملاقة الّتي علّقت ببلدية السّوقر تكريما لما قدّمه للمنطقة تحت اسم «خميس الصّغير».
وثائق رسمية تكشفها النصر تنهي الجدل
شكلت وثائق رسمية من الأرشيف الفرنسي لأكثر من 300 شهيد من تيارت، ساهم في نشرها كل من الكاتبة ليلى عامر وسعدي شوقي الذي تحصل عليها من صديق سربها بشكل سري، للتعريف بشهداء الكثير منهم لا توجد له صور، وبعضهم صنف «كخونة» بينما سقطوا في ميدان الشرف.
من هنا عادت النصر لإتمام التحقيق في ملف المدعو «خميس الصغير»، الذي كانت إحدى الوثائق تحمل اسمه، بدءا بالتواصل مع مديرية المجاهدين لولاية قسنطينة، التي ساعدتنا في الاطلاع على السجل الوطني للشهداء والمجاهدين، لنتأكد من حقيقة المعلومات المسربة من الأرشيف الفرنسي، والّتي جاءت نتائجه مواتية مع ما تمنّيناه.
فذلك الاسم التّعريفي الّذي وضعه درك فرنسا على الوثيقة غير موجود كلّيا في السّجل الوطني لوزارة المجاهدين وذوي الحقوق، فـ»ديدوش محمد» كما سمّته فرنسا في وثيقتها الرّسمية، لم يكن شهيدا ولا مجاهدا بحسب ما أكّدته لنا السّجلات الرّسمية، لينتقل بنا البحث إلى آخر محطّة، كانت الفاصل النّهائي في حقيقة هذه الشّخصية، وبطريقة ما، تمكّنت النصر من التّسلل للسّجل الوطني للحالة المدنية، هذا السّجل الّذي قطع كلّ الشّكوك، وأكّد أنّ هذه الصّورة بمعلوماتها للشّهيد «حمدة تشاشي» بعد أن تأكّدنا من أنّ لا أحد يحمل اسم «ديدوش محمد» مسجّل بذلك التّاريخ أو في تلك المنطقة كما ادّعت فرنسا، وإنّما يوجد شخص واحد بهذا الاسم من منطقة تيزي وزو كما أنّه من مواليد سنوات السّبعينيات.
شهادات حية من وسط العائلة
انتقلنا بعدها للتحقيق مع أفراد عائلة الشهيد حمدة تشاشي، من أولئك الذين عايشوا فترة شبابه، فابنة عمّه المدعوّة «تشاشي حليمة» الّتي نفت أن تكون الصّورة الأولى والموضوعة في بلدية السّوقر تحت اسمه هي لابن عمّها، مؤكّدة أنّه كان وسيما أكثر ممّا يبدو عليه في هذه الصّورة، فقد عادت وبمجرّد رؤيتها للصّورة الثّانية المسرّبة من الأرشيف الفرنسي وأكّدت أنّها لابن عمّها الّذي لطالما كانت تقول للعائلة أنّ حمدة لم يقتل ويرمى في الوادي مثلما أشيع، وآمنت بأنّه تمكّن من الفرار والجهاد في أماكن أخرى من الوطن، مؤكّدة أنّها تعرفه جيّدا وكانت تعيش معه في بيت واحد، وهو نفس الكلام الّذي أكّدته قريبته الأخرى المسمّاة «رزاقي حدة» والّتي قالت هي الأخرى أنّ الصّورة لحمدة، وأنّه غادر عزّابة وهو على هذه الحال، مما قطع الشّك لدى ابنته إلى حدّ كبير، وأعاد بعث الأمل فيها مجدّدا وأحيا فيها شعورا لم تعشه مسبقا وهي تعانق صورة والدها وتتعرّف على ملامحه لأوّل مرّة، وتتعرّف على نضاله الكبير بعد أن ظنّت أنّ جهاده اقتصر في نقل الرّسائل بين المجاهدين.

المجاهد الطاهر رابحي
بطولة «خميس الصّغير» في تيارت لا تنسى
طيلة سنتين كاملتين من رحلة البحث في حقيقة وتفاصيل قصّة الشّهيد البطل «خميس الصّغير»، صنعت الصّورة الأولى الّتي تعلّق إلى اليوم ببلدية السّوقر حاملة اسمه نقطة استفهام، خاصّة بعد أن أكّد عدد من المجاهدين والمجاهدات بالمنطقة أنّه كان وسيما أكثر ممّا يبدو عليه في الصّورة، إلّا أّن الحصول على الصّورة من الأرشيف الفرنسي، شكّل نقطة فاصلة في الملف، أين زارت الكاتبة ليلى عامر ذات يوم المجاهد «الطاهر رابحي» لتكون المفاجأة.

شهادة.. غيّرت كلّ شيء
رحلة البحث الّتي عرقلتها الصّورة الأولى خاصّة بعد أن قالت ابنة عم الشّهيد «حمدة تشاشي» أنّها ليست له، رغم تطابق المعلومات الّتي قدّمها رفاقه في تيارت مع ما قاله من بقي من أهله وما تذكره ابنته «جميلة» بحسب ما أخبرتها به أمّها المجاهدة وعمّها الّذي توفّى قبل سنتين...
قامت الكاتبة بعرض الصّورة على المجاهد رابحي دون أن تخبره باسمه، ليردّ فورا وبكلّ ثقة «هذا خميس الصّغير، إنّه هو، أذكره جيدا».
شهادة غيّرت كلّ شيء، شكّلت نقطة فاصلة، بفضل مجاهد أكّد لنا أنّه هو، البطل القويّ الّذي أقلق العدوّ بجبال تيارت، وساهم بشكل كبير في تنظيم النضال العسكريّ هناك دون أن يركع لعدوّ حاول تجنيده في صفوفه، وقال لابنته «إنّه أبوك، عليك أن تكوني فخورة جدّا أنّك من صلب ذلك البطل..» قبل أن تسكته الدّموع وثغره باسم وهو ينتظر أن تحل ابنته ضيفة في مكان استشهاد والدها، وفي المكان الّذي أحدث فيه الفارق ببطولاته الّتي لا يزال كلّ المجاهدين والمجاهدات بالمنطقة يستذكرونها إلى اليوم.

المجاهد الرّاحل حنّيش بن عيسى المدعو « رابح النّار »
معركة المرازيق أوّل خيوط قصّة «خميس الصّغير» في النّضال بتيارت
قدّم المجاهد الرّاحل «حنّيش بن عيسى» المدعو «رابح النار» شهادة مهمّة قبل رحيله، وشكّل الحلقة الأولى في سلسلة الكشف عن حقيقة ذلك الشّاب الّذي كان يشبه الفرنسيين إلى حدّ كبير في ملامحه، وتقول الكاتبة ليلى عامر في كتابها « السّابعة بحدود النّار» والّذي يعدّ مذكّرات المجاهد «حنّيش بن عيسى» عضو بالمنطقة السّابعة للولاية التّاريخية الخامسة، على لسان «عمي رابح النار» :» الظّريف هنا في معركة المرازيق أوت 1958 أن أحد المجنّدين الجزائريّين مع العدوّ، لمح حامل الرّشّاش وقد أصيب بجروح بليغة، فأطلق عليه النّار، وحمل الرّشّاش ليتّجه نحو قائد الكتيبة دمّوش محمّد، أراد أن يسلّمه السّلاح وكان فرحا بنصر إخوانه، لكنّ عبد الله خاف أن يطلق علينا، فرماه بطلقات أسقطته أرضا...»
يقول المجاهد «رابح النار» أن القائد دموش أمر بعلاج محمّد وهو «خميس الصّغير» بمركز خاصّ مع تكثيف العلاج، ليلتحق بالجيش بعد امتثاله للشّفاء، ويرتقي في رتبته بعد سنوات من الجهاد ويستشهد في نواحي السّوقر رحمه الله....
حمدة تشاشي مدفون في مقبرة عين الذهب بتيارت
وعلى الرغم من أن الشهيد حمدة تشاشي قد ثبت استشهاده بتيارت، إلا أن رفاقه في الكفاح لم يتمكنوا من تحديد مكان دفنه، قبل أن تتوصل إليه الكاتبة ليلى عامر التي عثرت على اسم خميس الصغير في سجل مقابر الشهداء الخاص بمديرية المجاهدين لولاية تيارت وتأكد دفنه بمقبرة عين الذهب التي يتواجد بها مقام الشهيد الخاص بها الظاهر في الصورة.

الكاتبة والمهتمّة بالتّاريخ ليلى عامر
«خميس الصّغير» واحد من أبطال الجزائر المجهولين
قالت صاحبة الكتاب التّاريخي «السّابعة بحدود النّار» و»إلى شهيد لم يدفن»، ورواية «حواف مينا» المتوّجة بجائزة المجلس الأعلى للّغة العربية 2023، والمهتمّة بالتّاريخ ليلى عامر، أنّ التّاريخ الجزائري لا يزال يحمل الكثير من القصص المجهولة أو غير المعلنة وغير مكتملة التّفاصيل، لأولئك الأبطال الّذين صنعوا أمجاد الجزائر ونجحوا في فكّ شيفرة العدو، دون أن يذكر لهم اسم أو دون أن يقدّم الوجه الحقيقي لأبطال ظلّوا منسيين منذ الاستقلال، أو صنّفوا في خانة «العملاء» بينما صنعوا الأمجاد في صمت يحتاج للإفصاح عنه من خلال البحث وجمع شهادات المجاهدين الّذين مازالوا على قيد الحياة، وحتّى لدى العدو بين صفحات أرشيف محاط بأشواك يكسرها اليوم أبناء الجزائر الأوفياء في الغربة رغم التّضييق.

تتحدّث الكاتبة عن قصّة الشّهيد «خميس الصّغير» وهي أوّل من بدأ البحث بشكل رسمي من أجل كشف هويته الحقيقيّة، وأثمر بحثها بعد سنوات الوصول إلى الحقيقة، وعلى الرّغم من أنّه كان للصّدفة والقدر نصيب كبير في الوصول إلى أهله، إلا أنّها آمنت بذلك منذ البداية وهي الّتي طالما اعتبرته واحدا من الأبطال والمجاهدين الّذين جاؤوا إلى تيارت عن طريق التّجنيد الإجباري، الّذي كانت تعاقب به فرنسا كثيرا من الشّباب الّذين ثبت انتسابهم ومشاركتهم في تحرير الجزائر...
بقي الشّهيد فترة ثمّ اختار الجهاد إلى جانب الخاوة، وكما يعرفه ناس تيارت والرّفاق الذين مازالوا على قيد الحياة وكلّ سكّان تيارت، هو ذلك الشّهيد الّذي منح حياته لأجل أن تكون الجزائر حرّة مستقلّة.
وتضيف الكاتبة أنّ هذا الشّهيد وفي صيف سنة 1958 وتحديدا في 02 أوت، وفي معركة بمنطقة تعرف بالمرازيق، كان مجندا في جيش العدو، وتمكن من صناعة تفاصيل مثيرة في تاريخ الجزائر، وبقيادة سي دمّوش محمد قائد الكتيبة وبحضور رفيقه «سي رابح» المجاهد المرحوم حنّيش بن عيسى، الذي رأى بأمّ عينه هروب الشّهيد البطل الشّاب الأشقر «خميس الصّغير» وهو يجري هاربا من العدوّ حاملا رشّاشا بيديه ليسلّمه لقائد الكتيبة ثم يقع أرضا، لأنّه أصيب بطلقات ناريّة من أحد المجاهدين وقد ظنّ أنّه فرنسي بالنّظر لكونه أشقر وكان ضمن جنود المستعمر.
«الخاوة» ينقذون «الشاب الأشقر»
«خميس الصّغير» الّذي سقط بين «الخاوة» طالبا المساعدة وقبوله بينهم، كان قد قتل « التيرار» الفرنسي وأخذ رشّاشه وسلّمه للرّفاق قبل أن يسقط متأثّرا بالإصابة، ومن هنا بدأت حكايته مع الجهاد بعد أن عولج في أحد المراكز بمنطقة جيلالي بن عمّار وولاد بن فاطمة بالنّاحية الثّالثة بالمنطقة السّابعة...
وتضيف الكاتبة أنّه وبعد علاجه حوّل للنّاحية الثّانية بمنطقة السّوقر ومدريسة وعين كرمس وفرندة وتوسنينةّ، وهناك ترّقى في الرّتب إلى أن أصبح رئيس قسم وكان مسؤولا عن كلّ الجوانب المالية للمجاهدين في تلك النّاحية.
وبعد قصّة سنوات مع الكفاح، استشهد الشهيد البطل كما تقول الكاتبة وروايات رفاقه بتيارت، في يوم 05 أفريل 1961 استشهد «خميس الصّغير» وهو الشّهيد الّذي لم يكن أحد يعرف اسمه الحقيقي، إلّا ذلك الاسم الّذي اختاره هو «كبّوش محمّد»، والّذي تبيّن فيما بعد أنّه لا يوجد شخص بهذا الاسم خاصّة في الجهاد، ولم تتوفّر عنه بتيارت سوى معلومات خاصّة بالجهاد والمعلومات الحقيقيّة لم تكن صحيحة.
تصف ليلى عامر البحث التّاريخي بالخيوط المترابطة مع بعض، والبداية كانت مع كتابها «السّابعة بحدود النّار»، وهي القصّة الّتي كتبتها بناء على رغبة صديق الشّهيد المجاهد المتوفّى «حنّيش بن عيسى المدعو رابح» الّذي كان أوّل من أثار قصّة هذا البطل المجهول، ونشط معه بالنّاحية الثّالثة قبل أن يحوّل للنّاحية الثّانية، بذلك ترسّخت في ذهنها قصّته وبدأت الحكايات عنه بتيارت في كلّ مرة تزور فيها مجاهدا للبحث في تاريخ المنطقة، متحدثة عن زوجة أحد المجاهدين الّتي حدّثتها عنه بكنيته «الشّاوي الأشقر»، وكذلك مركز مستور لخضر ومستور ميلود وأخبروها أنّه كان يتردّد على هذا المركز كثيرا، كما أهداها أحد المجاهدين إبريق شاي كان يشرب منه الشّهداء ومنهم البطل «خميس الصّغير».
الأرشيف المسرّب ساهم في الكشف عن وجوه وحقائق العديد من الشّهداء
ومن رواية «حواف مينا» الّتي توقّفت ليلى عامر عن كتابتها لفترة، حيث توجّهت إلى كتابها التّاريخي «السّابعة بحدود النّار» الذي يحكي مذكّرات المجاهد البطل عضو المنطقة السّابعة وضابط جيش التّحرير قائد النّاحية الثّانية «حنّيش بن عيسى»، لينتقل بحثها من تدوين المذكّرات وتحويلها إلى مرجع رسميّ يثري المكتبة التّاريخية الجزائرية، إلى البحث عبر الصّفحات النّاشطة على مواقع التّواصل الاجتماعي، تمكّنت المهتمّة بالتّاريخ من نشر أولى المعلومات الّتي تحصّلت عليها حوله، ومتابعة ما ينشره شباب جزائري مهتمّ بالتّاريخ يقدّمون أوراق بحث من الأرشيف الفرنسيّ، ويعملون جاهدين على نشر المعلومات والصّور والفيديوهات الخاصّة بالمجاهدين وكلّ ما يتعلّق بالثّورة التّحريرية، ليساهم الأخ «سعدي شوقي» الّذي كان واحدا منهم، في تقديم وثائق عن الشّهداء التي تحتفظ بها فرنسا لنفسها، والّذي ساهم في تقديم وثيقة رسميّة للشّهيد «حمدة تشاشي» الّذي كانت حكايته مثيرة ومؤلمة جدّا، لتكون أوّل صورة وأوّل شمعة مضيئة في مسار البحث عن هذا الشّهيد.
تقول الكاتبة أنّ هذا الأرشيف المسرّب ساهم في الكشف عن قصص عديد الشّهداء منهم شهيد من بني سرور من المسيلة، الشهيد «دهيمي عمر» الّذي استشهد في تيارت والّذي تشبه قصّته كثيرا قصّة الشّهيد حمدة، بحيث كان في إطار التّجنيد الفرنسيّ الإجباري ثم انتقل للعمل في ثكنة عسكريّة بتيارت، ثمّ هرب والتحق بالمجاهدين، واستشهد رفقة 34 شهيدا استشهدوا بهذه المنطقة، ضربوا بالنابالم والعائلة لم تكن تعرف أنّه شهيد، بل ظلّ منذ الثّورة يُعتقد أنّه كان عميلا فرنسيّا بينما كان بطلا استشهد في 22 أفريل 1961 رحمه الله.

المهتم بالتّاريخ سعدي شوقي
مهمّة البحث في التّاريخ ليست سهلة
قال المهتمّ بالتّاريخ، سعدي شوقي، أنّ البحث في التّاريخ الجزائري يشكّل مسؤولية كبيرة على كلّ جزائري يملك نخوة الخوض فيها بلا تردّد، وأوضح أنّ انتماءه لعائلة ثورية بولاية خنشلة حمّله مسؤولية أكبر، ودفعه للبحث مع رفيقه الّذي أبى ذكر اسمهما عدا كنيته «إبراهيم الأوراسي» المقيم بفرنسا، عن صور ووثائق توثّق لما قدّمه هؤلاء الأبطال ضمن الأرشيف الفرنسي الّذي يرفض المستعمر تسليمه بالرّغم من أنّه حقّ مشروع.

قصّة السّيد شوقي مع البحث في الأرشيف، وفي النّبش في صور الماضي، تلك الصّور الّتي يتعذّر الوصول إليها، بل قد يشكّل ذلك مهمّة شبه مستحيلة في ظلّ تضييق كبير، يقول المتحدّث أنّ العمل بدأ منذ سنوات مع رفيقه إبراهيم الأوراسي بفرنسا للوصول إلى صورة عمّه البطل، والّتي لم يتحصّل عليها إلى غاية اليوم، وفي رحلة البحث تلك، فتح أمامه ملف حوالي 300 شهيد من ولاية تيارت وضواحيها.
ولأنّ الصّديق المغترب كان من الصّعب عليه نشر هذه الوثائق التي تعتبرها فرنسا سرّية للغاية ممّا قد يعرضّه للعقوبة، أعطى هذا الملفّ للسّيد سعدي شوقي، الّذي وبحكم علاقة الاهتمام بالتّاريخ التي تربطه بالكاتبة والباحثة ليلى عامر المنحدرة من ولاية تيارت، تواصل معها وسعيا جاهدين لإيصال المعلومات والصّور الّتي أعادت بعث التّاريخ في الحاضر، وساهمت في إحياء أمجاد من دفعوا حياتهم فداء للوطن، وتمكّن الكثير من عائلات الشّهداء من رؤية ذويهم لأوّل مرّة.
يقول السّيد شوقي» الكثير من الأشخاص في ولايات عدّة تمكّنوا بفضل هذا الملف من التّعرّف على ملامح والديهم لأوّل مرّة، كلّمني العديد منهم، بينهم من بلغ من العمر الثّمانين والآخر 76 سنة، حيث سعدت لأجلهم ربّما أكثر منهم بكثير..... أتمنّى من كلّ شخص يملك وثائق مهمّة أن يقوم بنشرها مثلما فعل صديقي إبراهيم الأوراسي الّذي كان له الفضل في إثراء الذّاكرة الوطنية وفي إبراز الكثير من الوثائق».
وانتقد السّيد شوقي استغلال بعض الأشخاص لمثل هذه الملفّات بحيث عرض أحد ممتلكيها من فرنسا بيع الصّورة الواحدة مقابل مبلغ 20 مليون سنتيم، وهو ما أثار حفيظة الجزائريين، داعيا للمساهمة في مساعدة الأشخاص وتسهيل مهمّة الوصول للصّور والوثائق دون احتكار صور الشّهداء الّتي تمثّل مرجعا مهمّا للتّاريخ ولأسرهم.
أغلق الملفّ، وتمكّنت «تشاشي جميلة» من معانقة صورة والدها لأوّل مرّة، وبكى المجاهدون رفاق «خميس الصّغير» أو بالأحرى «حمدة تشاشي» فرحا بمعرفة هويّته الأصلّية، وإيصال الأمانة لابنته الوحيدة الّتي غادر الدّنيا وهو يحلم برؤيتها مجدّدا، أغلق ملف هذا الشّهيد البطل الّذي كان مجهولا وتمّ التّعريف به، في انتظار أن تفتح ملفّات شهداء آخرين وغرباء آخرين، لا يزال التّاريخ ينتظر إنصافهم لكشف تفاصيل كفاحهم واسترجاع ملفّاتهم من مستعمر غاشم يسعى حتّى بعد الاستقلال لإخفاء الوثائق بعد أن فشل في البقاء في الجزائر. إ ز

المجاهد شحبي لخضر المدعو «شنينة»
«خميس الصّغير» كان بطلا تهابه فرنسا
يروي لنا المجاهد شحبي لخضر المدعو «شنينة» قصّة تعارفه مع الصّديق الغريب «خميس الصّغير» بنبرة صوت ترتجف حزنا لفقدانه رغم مرور كلّ هذه السّنوات، ولأنّه لم يتمكّن من تحقيق حلمه برؤية ابنته الوحيدة، يقول «عمّي شنينة» أنّ رفيقه كان جنديا لدى الجيش الفرنسي بتيارت ثمّ هرب والتحق بالخاوة، إلاّ أنّه ظلّ حذرا جدّا فيما يقوله مع أيّ منهم، ما عدا معه هو، فقد كان الوحيد الّذي قال له بأنّه ولد بعزابة بسكيكدة وترك خلفه طفلة رضيعة كان الشّوق لرؤيتها ومعانقتها كثيرا ما يحرمه حتّى من النّوم، وهو الّذي كان كلّ حديثه معه عنها وعن شوقه لها.

«عمي شنينة» الّذي كان يبكي في كلّ مرّة نذكر اسم الشهيد، قائلا « كان حبيبي بزّاف، كان خويا، لم يفارقني ولو ليلة واحدة»، أكّد أنّ رفيقه لم يقدم اسمه الحقيقي لأنّه لم يكن يثق فيمن حوله، إلّا أّنه ينحدر من ولاية سكيكدة وذو عينين خضراوتين وشعر أشقر، وترك خلفه طفلة صغيرة، متحدّثا عن بطولاته وقوّة شخصيته وأمجاده الّتي صنعها دفاعا عن الوطن، ولأنّ صداقة السّلاح كانت أقوى من أي صداقة عند «عمي شنينة»، فقد دفعته بعد الاستقلال للبحث سعيا لتحقيق حلم صديقه الشّهيد، فزار بلدية عزّابة حاملا معه اسم «كبوش محمد» كما قال للغالبية إنّه اسمه وكنية «خميس الصّغير»، أملا في الوصول إلى خيط قد يربطه بالابنة المفقودة الّتي رحل والدها وفي قلبه حرقة لعدم رؤيتها، إلا أنّه لم يتمكّن من الوصول لشيء ولم يجد ولا أثر لـ»كبوش محمد» أو لعائلته، هذا الاسم الّذي تأكّدنا فيما بعد بأن لا وجود له هناك.
ليعود حاملا معه ثقلا وأمانة ظلّت تؤّرق مضجعه حتّى في عمر الـ90، دون أن يفقد الأمل في أنّه سيتمكّن من الوصول إليها يوما ما ليخبرها بشهامة وشجاعة والدها الّذي قال أنّه كان يبيد المستعمر إبادة ويقتل بدل الفرنسي الواحد مجموعة فرنسيين ببسالة، ذلك الشّهيد البطل الّذي كان في تيارت مثالا للقوّة ولا يزال رمزا لا ينسى إلى اليوم.

 

النصر على درب قوافل السلاح و الأسلاك الشائكة
وادى الشحــم.. هـنا يرقـدُ فتيـةٌ واجهـوا فرنـسا بأيـدٍ عاريـة
بين شعاب و أودية موغلة وسط الجبال، جنوبي قالمة، يرقد 280 شهيدا، في مقبرة ببلدية وادي الشحم، على الحدود مع ولاية سوق اهراس و على بعد مسافة قصيرة من خطي شال و موريس المكهربين، بعضهم دفن هناك، و البعض جرفته الأودية و نهشته الذئاب الجوعى، كانوا نحو 320 من الفتية الذين آمنوا بربهم و وطنهم، فخرجوا من منطقة القبائل، معقل الولاية الثالثة، قاطعين مسافات طويلة وسط جغرافيا صعبة، متوجهين إلى القاعدة الشرقية، و منها إلى تونس، لجلب السلاح و المؤن، شباب في مقتبل العمر ودعوا الأهل و الأرض التي ولدوا فيها، و اتجهوا شرقا عبر الولاية التاريخية الثانية، يطوون المسافات البعيدة يمشون على الأقدام ليلا و يختفون نهارا، من دوار الى دوار، و من مشته إلى أخرى، و من جبل الى آخر، حتى بلغوا جبال قالمة بين شهري جانفي و فيفري 1958، و هناك بإحدى الشعاب المتخفية انتهت مسيرتهم، بحمام دم أراقه الجنرال بيجار و العقيد جون بيار، في واحدة من جرائم الحرب التي ستظل تلاحق الاستعمار الفرنسي بالجزائر على مر الزمن.

فما قصة جيش الشبان هذا، و ما قصة الفتية الذين ودعوا متاع الدنيا، و خرجوا للجهاد في سبيل الله و الدين و الوطن، في سبيل الحرية و العدالة و الشرف، في سبيل امة أنهكها الاستعمار الطويل، و طمس هويتها و تاريخها، أبشع استعمار عرفه القرن العشرين، تنكشف مآسيه و مجازره، و فضاعته كل يوم، هنا بقالمة و على أرض الجزائر، التي لم تلتئم جراحها بعد، و مازالت تنزف، إلى اليوم.
النصر سارت على درب قوافل السلاح المتجهة الى تونس، تقتفي أثر، جيش الأحرار الحفاة، عبر مسالك وعرة، موغلة وسط الجبال تارة، و أخرى تنحدر بشدة نحو شعاب سحيقة متخفية عن الأنظار و ضوء الشمس.
كان دليلنا العارف بجغرافيا المنطقة و تاريخها، الباحث ناصر حمايدية، لأنه بدون دليل متمرس لن تبلغ موقع تلك المقبرة البعيدة المتخفية.
المسيرة الطويلة إلى النهاية المأساوية

من جبال تيزي وزو و بجاية، و جيجل و سكيكدة، إلى جبال قالمة و سوق أهراس و الطارف، كانت قوافل السلاح في حركة دؤوبة ذهابا و إيابا، نظام محكم وضعته الثورة لفك الحصار المضروب عليها، و الوصول إلى مخازن السلاح المكدس بتونس، قادما من الدول الشقيقة و الصديقة، التي وقفت الى جانب الشعب الجزائري، عندما قرر العمل المسلح في واحدة من أعظم الثورات في القرن العشرين.
نظام تموين محكم أثار قادة العدو، و دفع بهم الى بناء الخطوط المكهربة، و زرع الألغام فيها، لقطع طرق الإمداد بالسلاح و المؤن، و خنق الثورة المتأججة.
و قد واجهت الثورة تحديات كبيرة على خطي شال و موريس شرقا و غربا، و كان «السيلان» كما كان يسميه الثوار، و من بعدهم سكان المنطقة الى اليوم، من اكبر المخاطر التي كانت تهدد قوافل السلاح المتجهة الى تونس، أو العائدة منها، و دارت معارك طاحنة على طول هذا الجدار العازل، على مدى سنوات الثورة المقدسة، بينها معارك وادي الشوك بسوق اهراس، و بئر لعناني و قلعة فيالة، و عيون القصب، و دباغ و مرمورة و مليلة و مجزرة البسباسة و موقعة الجيش العريان بجبال القلالة و أودية المقرون، بقالمة.
حسب المصادر التاريخية فإنه عندما اشتدت المراقبة على الطريقين الرئيسيين للقوافل، عبر جبال هوارة بنشماية و وادي فراغة و بوشقوف شمالا، و الجبل لعكس بحمام النبائل جنوبا، اتخذت القوافل طريقا ثالثا عبر حمام النبائل و الدهوارة و وادي الشحم، نحو معبر رزقون السري، الموجود اليوم على الحدود الفاصلة بين ولايتي قالمة و سوق أهراس، غير بعيد عن موقعة الجيش القادم من الولاية التاريخية الثالثة.
وصل هذا الجيش المتجه الى تونس، منطقة المقرون، قاطعا مسافة تتجاوز 350 كلم، و انتشر بمشاتي المنطقة للاستراحة و التزود بالمؤن الغذائية، حيث كان سكان المناطق الجبلية الملاذ الآمن لجيش التحرير، كلما اشتد عليه الحصار و وقع في كمائن قاتلة، و خاض معارك طاحنة.
معركة غير متكافئة.. حمام دم و جريمة حرب
حسب سكان المنطقة الذين تحدثوا للنصر، فإن هذا الجيش الأعزل بقي هناك يومين متخفيا داخل المنازل و في الجبال و الشعاب، قبل أن يكتشف أمره، و يتعرض لحصار من كل الجهات، حيث سدت عليه كل المنافذ، و تعرض لما وصفه الباحث ناصر حمايدية، لحمام دم و مجزرة مروعة، حيث كان الجيش الفرنسي قادرا على أسره، لكنه قرر إعدام 320 مجاهدا اعزلا من السلاح، منهك القوة من الجوع و البرد و المسير الطويل.
و نقل سكان المنطقة، عن الأجداد الذين عايشوا الواقعة المأساوية قولهم، بأنه من بين 40 مجاهدا كان واحدا فقط يحمل بندقية تقليدية للحماية الذاتية، و ليس للحرب و مواجهة قوة عاتية، و كان قادة العدو يعرفون هذا، لكنهم اختاروا القتل الجماعي لهذا الجيش البطولي، الذي ذهب ضحية جريمة حرب مروعة لن تسقط بالتقادم.
الزين روابحية حارس المقبرة الطاهرة...ما حدث جريمة مروعة

يقول الزين روابحية أحد سكان المنطقة، البالغ من العمر 61 عاما، بان هذا الجيش القادم من منطقة القبائل كان يرتدي ملابس و أحذية بالية، كان اغلبه من الشباب المقبل على الحياة، كاد البرد و الجوع يفتك بهم، قبل أن يصلوا الى جبال و مشاتي المقرون، ربما يوم 18 فيفري 1958، و كان الفصل شتاء باردا مثلجا، و هدير الأودية الجارفة لا يتوقف، و هنا تعرض هذا الجيش للإبادة، على مدى يوم كامل، و نجا خمسة، و عندما أشرقت شمس الثاني و العشرين من شهر فيفري سنة 1958، خرجوا يبحثون عن الدفء، فتعرضوا للقتل، و ليس للأسر كما تنص عليه قوانين الحرب.
عندما تتحول الجغرافيا من ملاذ آمن إلى طوق خانق
و بقدر ما كانت الجغرافيا ملاذا آمنا لجيش القبائل، كما يسميه بعض السكان هنا، بقدر ما كانت عائقا كبيرا، حال دون تمكنهم من الاختباء و الخروج من الحصار، المفروض من طيران العدو و مدفعيته و دباباته، التي اعتلت رؤوس الجبال، تمطر الجيش المنكشف، كما يقول ناصر حمايدية، مضيفا بان كبار القادة الفرنسيين كانوا على علم بان هذا الجيش اعزل، ذاهب للتسلح و بالإمكان أسره كله، لكنهم قرروا إعدامه بوحشية، رميا بالرص و بالحرق.

و حسب المتحدث فقد شارك في الحصار و المجزرة المروعة، كل من الفوج الأول للمظليين بقالمة، و الفوج التاسع للمظليين بسوق اهراس، بقيادة العقيد بيشو، و الفوج الأول للمغاوير بقالمة، بقيادة العقيد جون بيار، و دارت هنا معركة غير متكافئة، ببنادق صيد ضد اعتي قوة عسكرية، و وقعت مذبحة باتم معنى الكلمة، و لعبت الجغرافيا دورا كبيرا في الحد من تحركات الجيش المنهك، و حالت دون خروجه من الحصار المفروض عليه من كل الجهات، وسط طبيعة مكشوفة تماما، حيث تم سد منافذ الفرار عبر الأودية و السيطرة على قمم الجبال المطلة على المشاتي التي لجأ إليها هذا الجيش الغريب عن المنطقة، عندما كان في طريقه الى تونس لجبل السلاح و المؤن، حيث وقع 320 مجاهدا بين فكي كماشة، و كان مصيرهم القتل بوحشية.
و قال المؤرخ عبد الله بن الشيخ، متحدثا للنصر بأن كل ما يعرفه عن قصة هذا الجيش انه جيش التحرير القادم من المنطقة الثالثة، القبائل الكبرى، التي تحولت سنة 1956 الى الولاية التاريخية الثالثة، و نظرا للظروف القاسية التي كان يعيشها هذا الجيش أطلق عليه السكان هذا الاسم.
المرأة الجزائرية...الدرع الحامي للثورة
و عندما وصل المجاهدون الى المنطقة، بدأت المواقد في الاشتغال بقوة و سرعة، لإطعام هؤلاء الجوعى، و تزويدهم بالمؤن الكافية لبلوغ التراب التونسي المجاور، و لعبت نساء المنطقة دورا كبيرا في إعداد المؤن الغذائية، لهؤلاء الضيوف الأبطال، الذين توقفت مسيرتهم هنا بين هذه الجبال، و الشعاب السحيقة، التي تؤرخ لحقبة دامية من تاريخ الجزائر المليء بالأحداث و المآسي و البطولات.
و مازالت نساء المنطقة ينظرن الى هؤلاء الأبطال، الذين يرقدون اليوم في مقبرة تتوسط هذه المشاتي النائية، بفخر و يصفن هؤلاء الضحايا بالأبطال الشجعان، الذين اختاروا بين النصر أو الشهادة، فكتبت لهم الشهادة بين هذه الجبال و الشعاب، البعيدة عن موطنهم و ارض أجدادهم القدامى.
أرض الخيرات التي احتضنت الثورة و قوافل السلاح على تخوم الأسلاك الشائكة
و تمتاز منطقة وادي الشحم، التي دارت فيها المعركة، في شهر فيفري 1958 بالتنوع الطبيعي، و بها مراعي خصبة، و أودية دائمة الجريان إلى اليوم، و بساتين للعنب و التين، و الرمان، و منابع مائية عذبة، لم تتأثر بالتغيرات المناخية، موجات الجفاف المتعاقبة على المنطقة، و لذا كانت مقصدا لقوافل السلاح، قبل تخطيها الأسلاك الشائكة، التي تبعد مسافة قليلة من هذه الموقعة الخالدة، التي تعد من أكبر المعارك التي خاضها جيش التحرير، على تخوم القاعدة الشرقية و خطي شال و موريس، و حقول الألغام، التي بقيت تحصد أرواح الجزائريين تنكأ جراحهم سنوات طويلة بعد استقلال البلاد.
و يتطلع سكان المنطقة اليوم، إلى مشروع كبير لإعادة الإعمار، و تشجيع النازحين على العودة من خلال فك العزلة الخانقة، و التغطية الصحية و الهاتفية، و توصيل مياه الشرب انطلاقا من المنابع الطبيعية الدائمة الجريان، و صيانة المقبرة، و دعم التنمية الزراعية و تربية المواشي، التي تعد المصدر الرئيسي لمعيشة بقايا السكان، الذين كانوا يعمرون هذا الوادي الخصيب.
فريد.غ

الباحث في التاريخ الاجتماعي توفيق بن زردة
هكذا فكك الاستعمــــار « القبيلة» لاستهــــداف النســـــق الأنثروبـــولوجــــي الجزائـــــــري
يعتبر الباحث في التاريخ الاجتماعي بجامعة أم البواقي، الدكتور توفيق بن زردة، أن نظام القبيلة لعب دوار بارزا في رسم معالم المجتمع الجزائري و تحديد مختلف تمظهراته قبل و إبان الاستعمار الفرنسي، و يصف من خلال عمل بحثي جديد له البنى و الممارسة و الفواعل التي تشرح طبيعة وأداء هذا النظام ما قبل الكولونيالية، وكيف استهدفه الاحتلال لإعادة تشكيل المجتمع عبر تفكيكه أولا ومن ثم إرساء نموذج قابل للاختراق و التحكم.

ويشرح الباحث في كتابه الجديد “ القبيلة في الجزائر وسؤال ما قبل الكولونيالية؟»، العديد من الجوانب المتعلقة بالنظام المجتمعي الذي سبق « الدولة».
يتناول عملك البحثي موضوع القبيلة في الجزائر- البنى والممارسات والفواعل، كيف حكم هذا النظام الجزائر في الفترة ما قبل الكولونيالية، وأي الأسس قام عليها تحديدا ؟
توفيق بن زردة: تبدو القبيلة في الجزائر والعالم العربي ظاهرة سوسيولوجية يطبعها المُطول والايقاع المكرر، ومحكومة بالاستمرار والتواتر، بفعل خلود الإلحاح الذي مارسته بديناميات مُتصاغة وسلط مستدام، لذلك قد تتراءى القبيلة اليوم كظاهرة مألوفة غير مسائلة وجزء لا يتجزأ من الكل الاجتماعي والسياسي، فتجرد من سؤال الماهية والتمرين في التفكير، بل ولا تستدعي حتى المجالسة واستجلاء المطموس كونها « بديهية عربية»، مرت بهزات وتعنيفات وتجربة اللحظة، لكنها سرعان ما تعود لليوم العادي.
إن أكثر ما يثير في هذه الظاهرة المتقدة، هو مدى تقاطعها مع الحداثي والوطني والهوياتي، وحجم خضوعها لمفاعيل الدولة والعقل الاستراتيجي المنافي للعقل الراتب المسكون بلحظة الانتظار وزمانية التكرار ؟ عندها ستتكشف القبيلة كجيوب من القلق الابستيمولوجي، ونتوءات راتبة قد تنذر بعجز البراديغمات السائدة عن استيعابها معرفيا، وهو ما دفع بالمجموعات العلمية في العالم العربي إلى إشهار دراسات «يقظة» و علائقية بالقبيلة، حيث تنبش في تكلساتها وتمظهراتها وتكيفاتها، تفاديا للصدفة ومباغتة العرضي، فتحولت أسئلة القبيلة والهوية، القبيلة والمواطنة، القبيلة والتنمية، القبيلة والأفق السياسي، القبيلة وإعادة المتشكل الاجتماعي ، القبيلة والبراغماتية الوطنية ؟ وغيرها من الأسئلة إلى مواضيع مُؤشكلة ضمن حقول بحثية وحوافز علمية انتقائية استوجبت الحفر والتدبر في واقع اجتماعي يرخي بحباله القديمة.
لذلك وأنا أحاضر بالجامعة الجزائرية تملكني ويتملكني سؤال كيف تكتب القبيلة في الجزائر أكاديميا؟
إن هذا السؤال هو نوع من التمرين في التفكير حول القبيلة في الجزائر -ما قبل الكولونيالية-، من خلال محاولة تجميع بقاياها كلها أو جزئها، فنقرأ ونعيد القراءة، و نتحسس هذه الظاهرة بشكل نقطي، مع استجلاب تمثلاتها ورمزياتها، و تموضعاتها الجوهرية والشكلانية خلال العهد العثماني، مع فرز شحنات الدفع التي أتت من طبيعتها الطوعية والتشاركية، إلى جانب حضورها كفاعل في شبكة المصالح السياسية والاقتصادية، لذلك جاءت البنية الابستيمولوجية لهذا الكتاب بفحوى إشكالييتضمن: القبيلة بين تمظهرات السلطة وممارسات المدينة، القبيلة والماء، القبيلة والمشيخة، القبيلة والتعمير الوظيفي، القبيلة ودورها في رسم ملمح المجتمع المحلي، القبيلة والممارسة الاجتماعية للتدين، القبيلة والانتجاع.
ما هي تمظهرات القبيلة بوصفها النواة التي شكلت النسق المجتمعي الجزائري قبل الاستعمار ؟
هيمن على معظم الدراسات الأوروبية تصورا مفاده أن معظم القبائل في الجزائر «سائبة ومتمردة»، لذلك طرحت الكولونيالية نفسها كقوة بديلة لإعادة النظام إلى هذا الحقل الاجتماعي، عبر محو علامات «الفوضى والاختلال»، بعد اعتبار القبيلة مثخنة بالصدع، وعائقا يحول دون تكون مجتمع دوْلتي، وبالتالي جرى تمطيط هذا النسيج حتى يتلاءم مع نظرياتهم الاستعمارية التي عمدت إلى دَوْلنة القبيلة، واخضاعها للشطط المدني ، غير أن هذا التصور كان مفعما باللبس الذي لم يراعي اللحظة العشائرية وتفسير التاريخ القبلي في البلاد الجزائرية الذي كان مؤطرا بوعي ومدبرا بتنسيق ، ضمن دينامية اجتماعية، شيدت بالتناسل الانشطاري والمُنجز السياسي، المسنود إلى عصبية تمرست في التموضع لبلوغ مراد السلطة، لذلك لا يمكن الحديث عن دولة دون قبيلة في البلاد الجزائرية قبل القرن التاسع عشر.
لذلك وبغية الانغماس الكلي للأتراك في حكم البوادي والأرياف، عمدت هذه القوة المفكرة إلى «قَبْلنَة الدولة» من خلال تفعيل دور المدونة القبلية، وجعلها مصوغا للتمدد السياسي و الضبط الاجتماعي، لذلك كانت أحد أوجه هذه الشمولية، هو النفخ في الفئوية كنبض عريق في علم الأنساب عند العرب، الذي كان يضم عندهم: الجذم، الجمهور، الشُعب، القبيلة، العمارة، البطن، الفخذ، العشيرة، الفصيلة، وأخيرا الرهط، حيث كانت تمثل هذه التراتبية ايقاعا نفسيا وعقليا ناتجا عن ذلك الانتماء، وما يصاحبه من شحنة اعتزاز بالذات والخصوصية، لذلك حافظ الأتراك على هذه التركة السوسيو- ثقافية، بل وجعلوا منها رأسمال مثمر، وبارقة سلطوية تستند إلى الزعامات المحلية والمشيخات.
ومن المطارحات الملفتة في موضوع القبيلة في الجزائر هو بروز سلطة الأتراك كحجم وقوة ونفوذ ، رسخت نفسها كبراغماتية واقعية ضبطت -إلى حد ما- إيقاع الريفي الجزائري، من خلال إشهار المجالية (نظام البايلك) كلملمة ترابية ، غرضها التأسيس لأجهزة الضبط الاجتماعي والأمني، وتركيب بطاقة سياسية للقبائل،لذلك تؤشر الخرائط القبلية عن وقوع تكيفات سلطوية أتت على الكتل الريفية في الجزائر، بفعل تشحيم مسلك التغيير لديها، فتمظهرت القبائل في شكل قصاصات اجتماعية تتخفى وراء الأصول الجينيالوجية، المسكونة بميثولوجيا الجد الواحد والسرديات البطولية، مع تجلي المجالية – الترابية كوعاء منفعي بأقدام راسخة، حيث يسود التجند الزراعي- الرعوي الموائم للأطر التفسيرية لقوالب التكامل الجماعوي.
تؤشر تحويرات سلطة الأتراك عن استهدفها للصلة العضوية المباشرة القائمة بين البويولوجي و السوسيولوجي، الذي فرخ عوارض المشاركة و الانتماء إلى إطار ثقافي واحد، بعدما فُعلت الزبونية، كأطر سلطوية استحدثت جراءها بطاقة قبلية ضبطت ايقاع عوالم الريف المسكون بشعور الذات والخصوصية العشائرية التي وجهت رؤى الأتراك نحو القطع بضرورة التمشي الذي يحفظ هامشا من ممارسة « القبائلية»، وما يلزمها من أرض ووجهاء وقيم.
ماذا عن السلطة والممارسات المدنية لهذا النظام وكيف ساهم في الحفاظ على التماسك الاجتماعي خصوصا في المرحلة الاستعمارية ؟
خلصت فلسفة منتصف القرن العشرين إلى إنكار الصبغة السياسية لمفهوم السلطة، حيث عارض الفيلسوف ميشال فوكو (1926- 1984) توظيف المذاهب الإنسانية الحديثة في دراسة التاريخ والسلطة، اللذين قاما على التقابل الرئيس بين المجتمع والحقوق من جهة، والدولة والقانون من جهة أخرى، معلنا بذلك بداية لأنموذج إدراكي جديد لجينولوجيا السلطة، هو وليد منهج « حفري» خلص فيه إلى أن السلطة لا تعني أجهزة السيطرة الحاكمة فحسب، بل هي تتخطى هذه المركزة الفوقية لتنبت في مختلف فاعليات الأجهزة الاجتماعية، بل هي موجودة في كل مكان، وهو ما أطلق عليه فوكو التصور الميكروفيزيائي للسلطة ( Microphisical Conception of Power)، وبالتالي الدولة عنده لم تعد اللحظة الحاسمة، ولا الدالة في السلطة، التي هي في حقيقتها – حسبه- ملازمة للوجود الإنساني منذ الولادة وحتى الموت، يمارسها الفرد متحكما أو محكوما بمختلف ميادين الحياة، ومنه خلص ميشال فوكو إلى صيغة “ انبثاث الخطاب السلطوي في مختلف أرجاء الشبكة الاجتماعية”.
انطلاقا من هذه المضامين السلطوية التي تتدفق داخل الجسد الاجتماعي والثقافي، يتكشف أن ابستيمولوجية القبيلة في الجزائر هي ليست وليدة الصدفة و اللامتوقع، بل هي ديناميات – تاريخية-سوسيولوجية قامت على الإستراتيجية التشاركية وعلى الإرث الاثنوغرافي، وبنت تصوراتها الانتاجية على عمل القبيلة بما هو فضائية وعمل القبيلة بما هو زمانية، لذلك تتملكها مفاهيم “ الدورة الزراعية “ بالنسبة لقبائل الحبوب، و “ الموسمية” بالنسبة لقبائل الخروف والماعز، وبالتالي أنت أمام كيانات انتاجية تكفر بالعطالة والبطالة، و تتسق جهودها وتمظهراتها مع الكل السلطوي الذي شهد تكيفات مع سوسيولوجيا القبيلة، وما يطبعها من تكثيف بنيوي- منفعي- قرابي، جعل منهام صدرا لرسم الملمح الجيوبوليتيكي الذي تقاطعت فيه ممارسات الحاكم مع التوازنات المحلية، ومنه بات الفعل السياسوي عجينة تتشكل وفق القالب القبلي الذي تسنى له أن يتحول إلى جبهة ممانعة ضد الفعل الكولونيالي.
لنتحدث عن القبيلة والمشيخة بين التكيف السياسي والتموضع الاجتماعي ؟ ما الدور الذي لعبته في رسم ملامح المجتمع الجزائري ؟
إن التجربة القبلية في الجزائر -وحتى في الوطن العربي- هي مُبيأة ، لذلك يعد تفكيك الزماني عن الفضائي في ديناميتها هو عمل مستحيل، كما تبدو الحوافز الرمزية ذات الطبيعة المعنوية والنفسية كمُتع التشارك، والرضا الناجم عن الدفاع عن القيم والمكتسبات، والإحساس بالقدرة على الفعل، وتأكيد الذات وتثمينها، من تفصيلية القبيلة، التي حملت على أكتافها عبئ الكولونيالية، عندما جعل منها الأمير عبد القادر الجزائري حاضنة اجتماعية تدفقت سيولها ضد الاحتلال الفرنسي . إن الاختلاط والولاء والالتجاء والتزاوج والاحتماء عقيدة قبلية تجاسر ت عليها الجماعة الواحدة، لضبط الإيقاع المحيطي والتكيف مع العوارض الخارجية إما بالمجابهة أو المعايشة، لذلك تتبادر أكثر الأسئلة عن مدى تكيف الفعل القبلي مع الفعل السلطوي، وحجم تكيف القبيلة مع المدونة المؤسساتية، والنظام التحديثي الذي أشهر خلال مرحلة حكم الأتراك للجزائر؟
في الواقع تناطحت المشيخات الكبرى مع السلط التركي على غرار الذواودة وآل المقراني والحنانشة في الشرق الجزائري، فإذا أخذنا الحنانشة كمشيخة كبرى تناولتها بالدراسة في رسالة الماجستير، حيث يحيل هذا النموذج المشيخي على تاريخية اتسقت والنموذج القبلي في البلاد المغاربية، فعلى امتداد الفضاء الطرفي – الجزائري- التونسي - انصهرت الكتل الاجتماعية السليمية- الهوارية معلنة عن ميلاد كتلة قبلية كبرى عرفت بالحنانشة، التي تحولت إلى ظاهرة سوسيو- ثقافية» عنترية» تستهلك السياسة على أبواب القصور وهو ما راكم من المعرفة حول تمظهراتها خلال القرن السادس عشر، فوصفهم مارمول كاربخال « بأسياد الريف»، أما خير الدين بربروس الذي دخل تونس(1534)، فبعث لشيخهم ببرنوس، والتزم بإعفائهم من الضرائب استجلابا لجبروتهم وعنفوانهم الظاهرة الحناشية التي نشأت بثنائية المشيخة والبارود تدفقت إليها الطموحات الكنفدرالية، التي تحولت إلى نواة لمشروع أسري- قبلي موسع على أرض نوميدية- قرطاجية، عززت من الثراء الجيو- اقتصادي لهذه القبيلة التي جمعت بين عالمي السمكة والجمل، متجاوزة بذلك حدود المتخيل القبلي، بعدما تدافعت إليها كتل اجتماعية وظيفية تحذوها ثلاثية الجهد والمكابرة والمحاربة، مشكلة لسوسيولوجيا مثخنة بكاريزما التفوق عبر المجال الطرفي الواقع بين الجزائر وتونس
لماذا استهدف الاستعمار هذا النظام و كيف أدى تفكيكه إلى اختراق التركيبة الأنثروبولوجية المحلية ؟
تصويب الأسهم ضد القبيلة في الجزائر كانت من مخرجات الفهم الابستيمولوجي الاستعماري للمجتمعات المحلية في شمال إفريقيا، حيث أدرك مؤطرو الفعل الكولونيالي قيمة الأرض في أنطولوجيا الإنسان الزراعي ، لذلك عمدوا إلى اجتثاث الساكنة من مواطنها الأصلية، وتوزيعها عبر محاور جفاء تاريخي،أدت إلى فصم روابطها المنفعية، وأدخلت الإنسان والأرض في علاقة تماهي، وكثيرا ما لازم هذا الغصب الكلولونيالي الثورات الشعبية في الجزائر، التي أيقن الاصطفاف المعرفي الأنثروبولوجي أن وراء هذه الثورات كتل اجتماعية صلبة بانسجام تاريخي وتداخل منفعي- قرابي، لذلك تحويل القبيلة إلى مُجمع فقراء و فلاحون بدون أرض كان من صميم الفعل الكولونيالي ، الذي أشهر أيضا حربا ناعمة تمثلت في القوانين العقارية التي عمدت إلى إبطال الفعل القبلي المحلي وإقحامه في مدنية غرائبية لا تنسجم مع تطور القبيلة العضوي ومواءماتها التاريخية.
إن القبيلة كموزاييك سوسيولوجي، يمكن أن تتحول إلى مبعث كربوني ، لذلك هي تحتاج من المجموعات العلمية إلى بناء خطاب تاريخي- أنثروبولوجي بوعي وطني يتكيف مع هذه « الثيمات الاجتماعية»، بحيث يمعن في تأهيلها من الداخل، ويحولها إلى وسيلة للقوة والمنعة، كما ينقلها من خطاب المناطقية والسرديات القبلية، إلى تحقيق متطلبات الاستدامة الوطنية، وراهن مَأْسسة الدولة المدنية الحديثة، تكون فيه القبيلة رصيف اجتماعي تصل من خلاله ارتدادات الرؤى الوطنية.
نور الهدى طابي

 

 

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com