تتواصل ردود الأفعال داخل الطبقة السياسية الفرنسية المنتقدة لانخراط الرئيس ماكرون في سياسة التصعيد ، والذي رفع مستوى تأزم العلاقات بين البلدين من حين لآخر.
فبعد الوزيرة السابقة، و المرشحة السابقة للرئاسيات، سيغولان روايال، التي انتقدت سياسة الحكومة الفرنسية اتجاه الجزائر وقالت إنها تتعمد ذلك لتوجيه الأنظار عن المشاكل الحقيقية الداخلية لفرنسا، جاء الدور على زعيم اليسار، جون لوك ميلونشون الذي انتقد بشدة في مقال له على موقعه الخاص سياسة الحكومة الفرنسية اتجاه الجزائر، متهما الرئيس ماكرون بارتكاب ما اسماه «ارث الأوهام المدمرة» في علاقاته مع الجزائر. زعيم «فرنسا الأبية» الذي انتقد «السياسة العدوانية» للحكومة الفرنسية اتجاه الجزائر، قال إنه و على العكس كان على الحكومة الفرنسية أمام خسارة فرنسا لنفوذها في القارة الإفريقية أن تعمل في اتجاه «التهدئة» والحوار مع الجزائر عوضا عن الاستفزازات التي يقوم بها وزير الداخلية برونو روتايو الذي يقوم بشطحات تحن للماضي الاستعماري، ورافع ميلونشون في هذا الصدد من أجل إقامة شراكة مبنية على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة بين فرنسا ومنطقة المغرب.
وبالمقابل حذر، جون لوك ميلونشون، من الانعكاسات السلبية لمنطق التصعيد، معتبرا أن الجزائر تعكس تطور الوعي السياسي الإفريقي، وأنه يجب تجاوز التوترات الموروثة عن الماضي الاستعماري، مشددا على أن عصر الاستعمارات والتفوق الأوروبي قد انتهى إلى غير رجعة لحسن الحظ. ميلونشون الذي أشار إلى أن سياسة التصعيد هذه تخدم مصالح ضيقة لبعض الشخصيات و المسؤولين السياسيين الحاليين فقط، اعتبر أن الخط الذي تسير عليه الحكومة الحالية يقوم على «إستراتيجية المواجهة»، وهو ما يغذي التوتر ويحيي جراح الماضي بشكل غير مفيد، مذكرا في السياق بما قاله في مدينة مارسيليا سنة 2016 من أن مستقبل فرنسا لا يمكن أن يكون إلا عبر بناء شراكة متينة مع منطقة المغرب العربي، وأن قطع العلاقة بالمنطقة يعتبر «خطأ استراتيجيا جسيما»، مضيفا بأن الجزائر هي المعجزة القاتلة لأحلام الساسة الفرنسيين منذ سنة 1830.وليست هي المرة الأولى التي يوجه فيها زعيم «فرنسا الأبية» انتقادات لاذعة لوزير الداخلية الفرنسي ومن ورائه تيارات أخرى في الحكومة و البرلمان الفرنسي والإعلام بسبب تصرفاتها مع الجزائر منذ عدة شهور، والتصعيد الذي ينتهجونه اتجاهها، واعتبر أن ذلك يضر بالمصالح الفرنسية أكثر مما يضر بالمصالح الجزائرية، وحذر من العواقب الوخيمة لمثل هذه السياسات. وانطلاقا مما صدر عن روايال وميلونشون، فقد باتت حملة التصعيد والقرارات الاستفزازية التي اتخذتها الحكومة الفرنسية في الأيام الأخيرة، مادة دسمة للنقاشات والحوارات داخل الطبقة السياسية الفرنسية، وهو ما يؤشر على المستوى الذي بلغته السياسات العدوانية التي يخطط لها تيار من اليمين المتطرف وتنفذها أذرعه في الحكومة. و تعكس تصريحات روايال وميلونشون وقبلهم رئيس الحكومة الأسبق دومينيك دو فيلبان، الخوف الذي أصبح ينتاب قطاعا مهما من الطبقة السياسية الفرنسية على المصالح الفرنسية ليس فقط في الجزائر بل في منطقة المغرب والقارة الإفريقية على وجه العموم، لذلك تراهم يدعون إلى التهدئة والحوار والابتعاد عن الاستفزازات والتصعيد غير المبرر الذي يقوم به وزراء في الحكومة الفرنسية، والذي وصل إلى أعلى مستوياته في الأيام الأخيرة. ولقد نبهت دوائر سياسية وإعلامية فرنسية إلى أن حملة التصعيد هذه لن تؤثر على الجزائر التي لن تخسر شيئا منها بل على العكس ستقابلها بتصعيد أكبر، بل أن الخاسر الأكبر منها هي فرنسا بالدرجة الأولى والمواطن الفرنسي قبل كل شيء، وذلك بالنظر إلى الوضع الاقتصادي والاجتماعي العام السائد في فرنسا حاليا، وهو ما أشارت إليه بوضوح الوزيرة السابقة، سيغولان روايال قبل أيام قليلة، التي اعتبرت أن الوضع الداخلي الفرنسي صعب وأن الدخول الاجتماعي المقبل قد يحمل معه الكثير من المخاطر.
كما نبهت هذه الدوائر أيضا إلى أن حملة التصعيد والاستفزازات ضد الجزائر لن تجدي نفعا لا في الوقت الحاضر ولا في المستقبل، لأن الوضع ببساطة تغير ولم يبق كما كان في سنوات سابقة، فوضع الجزائر اليوم ليس كما كان قبل سنوات اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ودبلوماسيا، وبالتالي لا يمكن ممارسة أي ضغط عليها من أي نوع وشكل كان كما قد يعتقد روتايو ومن على شاكلته.
فالجزائر التي تشهد نهضة على عدة مستويات تجاوزت مرحلة الحاجة الملحة والضرورة القصوى التي كانت تطبع بعض علاقاتها في السابق وبخاصة مع فرنسا و التي قد تجعلها في موقع ضعف، فهي اليوم قادرة على توفير ما يحتاجه مواطنوها إما بالاعتماد على ما تنتجه داخليا أو بالشراكات المتنوعة التي تقوم بربطها مع قوى اقتصادية وسياسية عديدة في العالم.ومن هذا المنطق فإن سياسة الإملاء والضغط صارت عملة غير قابلة للتداول في الجزائر اليوم في علاقاتها مع كل دول العالم في تماه واضح مع المبادئ التي تحكم الدبلوماسية الجزائرية منذ الاستقلال إلى اليوم. وما يؤكد ذلك في الميدان القرارات التي اتخذتها الجزائر انطلاقا من مبدأ المعاملة بالمثل، ردا على القرارات التي تتخذها الحكومة الفرنسية في كل مرة، حيث تعمد الجزائر إلى الرفع من منسوب المعاملة بالمثل، وهو ما يجعل الطرف الفرنسي هو الخاسر في نهاية المطاف، حتى و إن حققت بعض الشخصيات السياسية الفرنسية مصالح أنية شخصية على حساب مصالح مواطنيها.
إلياس -ب