الجمعة 2 ماي 2025 الموافق لـ 4 ذو القعدة 1446
Accueil Top Pub

«أسود غراب»

لم يكن الأمر هيّنا ولم تكن “المسيرة” بالسهولة التي يلقي بها المقلّلون من شأنه على موائد الكلام. لم تكن مجرد قصة بل مكابدة وملحمة اقتضت مواجهة الذات والجسد، بل والقفز من شجرة السلالة إلى شجرة أخرى، أحيانا.
بدأ الأمر بممارسة رياضة يسمونها في “قاعة الألعاب”: النسيان، تقوم على محو ما سبق من معارف ومعتقدات، والانطلاق من جديد، أي التدرّب على الصرخة الأولى والحبو والوقوف والمشي والعمل على تجنب الموت المفاجئ  أو الوقوع في الفخاخ والكمائن أو وضع القدم في الأماكن غير المناسبة، وفق مدوّنة غير مكتوبة وجب على الصاعد هضمها دون استظهار. و في الطريق تلقى ضربات صغيرة أيقظته، كأن يقول له أحدهم: تبدو أكبر من سنّك أو هذه البذلة لا تلائمك! فيعود  مباشرة إلى المرحلة السابقة ليختفي فيها حتى تمر مقاصد الكلام.
لم يكن الأمر سهلا، ففي الطريق تخلى عن أشياء كثيرة، بما فيها الأشياء “العزيزة” التي يصعب على رجل التخلي عنها، لأنه يعرف أنه و ككل منذور عليه التخلي عن الأثقال في المسالك الوعرة ليمضي خفيفا. أشياء لا يرغب في تذكرها، أليس هو القائل كلّ ما يثقل يسقط، هكذا دون الدخول في مسائل الفيزياء و  مطباتها، وبلغ من الجسارة أن أسقط وجهه حين تطلّب الأمر إسقاط الوجه وأوشك أن يسقط اسمه لأنه لم يعد في حاجة إلى عنوان قديم، قبل أن يقال له: “نحن الذين نحتاج العناوين القديمة وليس أنت”. غيّر لسانه. غيّر الزوجة المتمسكة بشال أمها. محا شنباته بالتدريج. غيّر عاداته السيئة في الأكل وتوعد السلالة أمام المرآة بإيقاف جيناتها غير المناسبة عند حدها. غيّر إيقاع الكلمات بعدما خبر دسائس الميكروفونات وضعف الصحفيين في الإملاء، فصار يلقي جمله حرفا حرفا ويعيد. غيّر جسده. غيّر عادات روحه. غيّر الليل والنهار. غيّر الأسنان الطويلة التي أملاها  الجد الفلاح على الأحفاد. غيّر طريقته في الأكل والحديث. لاحق الشيب الوراثي اللعين شعرة شعرة حتى أن الجلساء والمشاهدين والمريدين لم يشعروا بمرور منشار الزمن في عظامه وظلوا يشيدون بشبابه الدائم الذي يرجعونه إلى بياض اليد وصفاء السريرة. خلطة سهلة تجعل شعره باللون “الأسود الغراب”، صحيح أن بعض الخلطات المغشوشة جعلت شعره يبدو بنفسجيا في بعض الأحيان لكنه كان يتدارك الأمر بسرعة. ما عكر صفوه أنه كان يسمع صوتا أحيانا ويشم رائحة، لذلك كان يلتفت "منخطفا"بطريقة ملفتة للانتباه: كان يشمّ رائحة مقزّزة ويسمع  أحدهم يهمس في أذنه بكلمات لم تفلح ممحاته العظيمة في محوها، فيسرف في الالتفات لمحو القائل الذي لم يسقط في الطريق.
سليم بوفنداسة

 

المزيد من الأعمدة

حقدٌ مُزمن

تُظهر فئة من الكتّاب الفرنسيين حقدًا أسودَ على الجزائر، لخّصه الكاتب جون بول انتوفان بالقول إنّه...

  • 28 أفريل 2025
حرجُُ المُنافح

حاولت فرنسا في حملتها المتواصلة على الجزائر تجنيد كتّاب جزائريين تحت عناوين حريّة الإبداع والدفاع...

  • 21 أفريل 2025
ظُلمات

تعرفُ العلاقات الدوليّة مقدّمات أزمة أشبه ما تكون بحربٍ كونيّة جديدة تعيدُ توزيع الأدوار بين سكّان غابتنا،...

  • 14 أفريل 2025
اسمي حمزة

اسمي حمزة، كان لي رأسٌ. كانت لي عينان و أحلامٌ صغيرة لا أعلنها. ربما أشبه أحمد الذي لم يعثـروا على رأسه،...

  • 07 أفريل 2025
هوس فرنسي

تحوّلت الجزائر، هذه الأيام، إلى «لازمة» على ألسنة السّاسة والنّخب في فرنسا، وإلى موضوع أثيرٍ على...

  • 24 فبراير 2025
«واقعيّة قذرة»

لن تهنأ الإنسانيّة بعائدات التطوّر العلمي الذي يفترض أن يساعد في حلّ المشكلات ويجعل الحياة أيسر...

  • 17 فبراير 2025
العالمُ برواية «ماسك»!

تحوّل الملياردير الأمريكي إيلون ماسك إلى كابوسٍ حقيقيٍّ يُؤرّق ساسةً وصنّاعَ قرارٍ في أوروبا، وفق...

  • 20 جانفي 2025
سوارٌ إلكتروني

ظلّت الثقافة على الدوام من أدوات الهيمنة التي تستخدمها قوى استعمارية، في آلية فكّكها إدوارد سعيد...

  • 13 جانفي 2025
حياة في الثقافة

غادر بوداود عميّر فجأة، بعد أن لمّح إلى غيّابٍ مُؤقّت اتقاء شرّ مُنتحلٍ سرق هويّته، قبل أن ينجح...

  • 23 ديسمبر 2024
أبوابٌ ونوافذٌ

بيّنت الأحداث الأخيرة، التي استخدم فيها طرفٌ أجنبيٌّ، كاتبين جزائريين ضدّ بلدهم الأم، في حرب...

  • 09 ديسمبر 2024
صوتُ الحياة

شاخ الوقتُ حولها لكنّها ظلّت في مقتبل الصّبا تسقي الدهشة وتشيعها، لأنّ المنادي الذي نادى النّاس...

  • 25 نوفمبر 2024
المُنمركون !

يصعبُ توقّع ما ستكون عليه الحياة بعد سنوات قليلة، نتيجة التدخّل المفرط للتكنولوجيا فيها، الذي لا...

  • 18 نوفمبر 2024
لا تلوموا أسامة!

يطرحُ الإقبال "غير المتوقّع" على الكاتب السعودي أسامة المسلم في صالون الجزائر الدولي للكتاب،...

  • 11 نوفمبر 2024
«لأسبابٍ سياسيّة» !

قبل سويعات من الكشف عن الفائز بجائزة الغونكور، أمس، نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن ناشرٍ قوله، إن...

  • 04 نوفمبر 2024
الصّورة و النّص

عاش كاتب ياسين حياةً قليلة وبسيطة، عانى فيها من "سوء الفهم" و الأسطرة، فضلا عن الجدل الذي لم يفتر...

  • 28 أكتوير 2024
المُستريحون

تُخفي الفرحةُ بموت أحدٍ، حالة قهرٍ عاشها الفَرِحُ في وجود الرّاحل الذي حقّقت ميتتُه زوال غمٍّ،...

  • 21 أكتوير 2024
طفولــة

سليم بوفنداسة ينشغلُ عددٌ غير قليل من الجزائريين بنظرة الآخر التي تتحوّل إلى مصدر فخرٍ أو سبب...

  • 15 أكتوير 2024
ضرورة الفرز

سليم بوفنداسة لا يواجه الأدب الجزائري مشاكل في التلقي فحسب بل يواجه أيضًا مشاكل في الكتابة...

  • 01 أكتوير 2024
سُقــــوط

سليم بوفنداسة فرضت ثقافة السّوق التي تهيمن على عالمنا المعاصر نمطًا جديدًا من النّخب، تنتجه...

  • 24 سبتمبر 2024
حارةُ المُؤثرين

هل تستطيعُ وسائطُ التّواصل الاجتماعيّ حمل الخِطاب الثقافيّ، وهل يسلمُ، في حال استخدامها من الخِفّة التي تفرضها...

  • 17 سبتمبر 2024
Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com