الفن ضد النمط الاستهلاكي
 • ياسين سليماني 
يُنبّه ليبوفتسكي في بعض كتاباته إلى أنّ المرأة في ظل الثقافة المادية التي وسّعت من وجودها المدنية الغربية تُقدَّمُ كديكور لتزيين فضاءات الرجل بحيث يتشيّأُ ليكون كمادة أولية تًستعمل لما يرغب فيه الإنسان الاستهلاكي من أحجام وأشكال، وإذا كان الأمر كذلك في الكثير مما تقدمه الميديا منذ سنوات فإنّ الأمر مع هذا العمل المصوّر المعنون : "أغنية الطائر المحبوس" أو "Song of the caged bird" لـ ليدسي ستيرلينغ  Lindsey Stirling ينقلب على الفكرة تماما ويعيد التأكيد (مع بعض النماذج هنا وهناك) على أنّ العمل الفني يتأسس على جماليات الفكرة، والرؤية المبتكرة للأشياء والتفاصيل الصغيرة وتحويها إلى مُتَع بصرية وسمعية ذات قيمة: 
   تنفتح العين على فتاة منبطحة، تستفيق لتجد نفسها في غرفة ضيقة مظلمة، متفاجئة تراها تتعرّف على مكان يبدو أنها وضعت فيه عن غير رغبة، تقلّب البصرَ يمنة ويسرة لتتحسّس مفردات الفضاء، مجموعة كراتين، وصناديق تملأ المحيط، تنتبه إلى النوافذ فتجدها موصدة، تسرع إلى الأولى لتفتحها، ليدخل الضوء...النافذة مغلقة بالحديد، وقوتها الجسدية لا تسعفها في هذا. تسارع للنافذة الثانية، تتحسسها، تجدها مثل الأولى. تهرع إلى الثالثة...تستطيع رفع الحديد، تفرح وهو يرتفع إلى الأعلى لكن ظنها يخيب عندما تجد أن وراء الحديد إسمنتا صلبا يمنع أي بصيص من نور الأمل- أمل النور، أن يدخل إلى الغرفة /الحياة المظلمة.
    خوفها، ما يشبه اليأس لحظتها، يجعلها تتراجع إلى الوراء. ربما تفكر في حل ثانٍ، ربما تنكفئ على نفسها، كما ربما تحكم على حياتها بالنهاية في هذا الوضع. التقهقر إلى الخلف يجعلها تصطدم بصندوق، يسقط. ويظهر من تحته قِش أصفر، وبعض المصابيح. تكتشف أن الصناديق المحيطة بها تخزّن داخلها مصابيح مختلفة الأنواع والأشكال. غير أنها مصابيح مطفأة، لم ترتبط بسلك يجعلها تضيء. بحثها في كل الصناديق لا يوصلها إلا إلى المصابيح المطفأة التي لا يمكن أن تفيدها في إنارة الغرفة. ما دام كهرباء الحياة، لم يسر فيها.
   ربما ثانية يتسلل الخوف. يتسلل اليأس. إنها بشر، والبشر خلال المصاعب والسقطات، والظلام كثيرا ما ييأسون. وإنها فتاة، والفتاة في طبعها مرهفة، تتموقفُ على تجسيد ممكنات النفس البشرية التي مهما امتلكت من إرادة، فإنّ عوادي الزمن غالبة على أمرها. تتأمل مصباحا بيدها. تتأمل فضاء يشتدّ سواده. ووحده يزداد الشعور القاسي بها. صندوق في الأرض قريب منها، تنتبه إليه. تمسح عنه غبارا، أو ربما تربت عليه كأنه إنسان. تفتحه وتخرج منه كمانا. وتبدأ بالعزف. الموسيقى هنا سبيل تهرب إليه روحها الفارغة. العطشى إلى الحرية. الواقعة بين الاستلاب والإرادة الواعية. وبعد أن كانت تسير ببطء، مرتبكة وخائفة، يمنحها العزف قوة ونشاطا. تستعيد الروح عافيتها، تغمض العينَ عن مأساتها الوجودية التي تغيّب جسدها وقلبها في فضاء معتم.
  ضوء من هناك يلمع، مصباح يشتعل، أو مصباحان. تترك العزف وتهرع إلى واحد منهما. تأخذه بيدها فيخفت الضوء وينطفئ. في الأمر سر هي قريبة من اكتشافه. تسرع من جديد إلى الكمان وتعزف كما لم تعزف من قبل. وتنظر حولها، فإذا مصابيح ومصابيح تشتعل. وتنقلب العتمة إلى أضواء تتلألأ في المكان. يفترّ ثغرها على ابتسامة تشبهها الملائكة. تقف. تعزف، وترقص البالي. ويحوّل فراغ الروح إلى امتلاك للحظة. للزمان والمكان.
     إن الفن هو نور الحياة المجلي لظلمتها. هكذا تريد ليدسي ستيرلينغ  أن تعيد ترميم علاقتنا غير السوية مع الفن والتي ترى فيه ترفا زائدا، لذلك فإنّ الحياة تنقطع قيمتها والرغبة في الوجود فيها إذا انقطع سبيل الفن. وإذا كان قعر الإنسان كما يرى التحليل النفسي أشبه بمحيط هائل مجهول لا يمثّل القسم الواعي منه إلاّ الشيء القليل منه، فإنّ الفن واحد من أهم المعينات على صفاء الروح، والتدرج به نحو الصحة العقلية والروحية. لذلك استبدلت في هذا العمل مفردات اليأس بالأمل، والحزن بالفرح، والعبوس بالرضا، والتزمت الروح الفنية بقيم الجمال فيتسارع نبض العزف ويتسع الفن ليكون موسيقى ورقصا في آن.
    في هذا الفيديو للقطعة الموسيقية الجميلة يكون الفن في خدمة الإنسان إثراءً وإضافة، تظهر فيه الفتاة بجسد منحوت مرسوم بريشة فنان عبقري. غير أنه بعيد عن اللحوم الأنثوية التي يشيع تسويقها باسم الفن. إنه نوع من الاحتجاج الهادئ على النمط الاستهلاكي المباشر الذي تصدّره لنا الميديا بنحو مسعور. لتعيد القول بوجود أعمال بالغة الجمالية، صُنعت بمهارة عالية ودقة، تساهم في توطيد الرابط الإنساني بقيمة الفن الأساسية لكل بناء إنساني سليم. تتحرر الذات الفنية هنا من العالم المادي من خلال الاستغلال الواعي للمادة، وهي في الفيديو كليب "الكمان" الذي أضاء الغرفةَ بفضل العزف. إنه ليس محاكاة للواقع، وللطبيعة، ولكنه باختصار يشبه "السحر". وهذا هو الفن.

الرجوع إلى الأعلى