كثيرا ما يتم الحُكم على الإبداع من وجهة نظر أخلاقية، وكثيرا ما يتم تصنيف بعض الأعمال الأدبية من روايات ومجموعات قصصية وشعرية في خانة الأعمال الخارجة عن الأخلاق والمألوف الأخلاقي. فهل هذه النظرة التي تُصوّب نحو الإبداع وتقوم بإطلاق أحكام عليه بخلفية دينية أخلاقية، نظرة صائبة وفي سياق المألوف والمعتاد؟، وهل يمكن القبول بإخضاع الأدب أو الإبداع عموما لأحكام يطلقها بعض دعاة الأخلاق الذين لا يستندون إلى رؤية فنية تفرق بين الفن واللافن، وبين الأدب والدين، وبين الإبداع والأخلاق. وهل يمكن أن يقبل الأدباء والكُتاب بمثل هذه الدعاوى التي أصبحت منتشرة أكثر في الآونة الأخيرة والتي تنادي بـــ»أخلقة» الأدب والإبداع والفن. وهل يمكن القول أن العائق الكبير الذي يعترض طريق الإبداع في عالمنا العربي هو المِشرط الأخلاقي الذي يُظهِره في كل مرة شيوخ الدين ودعاة أخلقة الأدب والفن والإبداع عموما وهل القهر الأخلاقي يتسبب في التقهقر الأدبي والإبداعي؟.
حول «الإبداع ودعاة أخلقة الأدب»، والحكم عليه من وجهة نظر/ وخلفية أخلاقية، كان هذا الملف في عدد اليوم من «كراس الثقافة» مع بعض الكُتاب والأدباء، الذين تحدثوا عن الظاهرة وتناولوها من جوانب مختلفة، في محاولة لتسليط الضوء عليها وعلى أكثر ما يمكن أن يسيء للإبداع ويساهم في تقهقره الفني.

عبد القادر رابحي/ شاعر وناقد


ثمّة خلط بين الأخلاق وإيديولوجيا الكاتب في مقاربة إشكالية أخلقة النصوص الأدبية
ربما كان من الواجب تحديد معنى «أخلقة الأدب» تحديدا دقيقا حتى تتضح صورة الأدب متخلّقا أو صورة الأخلاق متأدبةً، أو ما يمكن أن يكون بينهما من لُبس ظاهر يشوّش على الفهم الصحيح أو لُبس باطن يتخفى في ثنايا الفهم الخاطئ.
ذلك أنه إذا نظرنا إلى الأدب بما هو عليه من إبداع خلاق وتجدّد متواصل، فإننا سنتوقف بالضرورة عند مستلزمات ما يكوّن هذا الأدب من قيّم هي أساس وجوده وغاية كتابته ومنتهى ما يصبو إليه كاتبه وقارئه في الوقت نفسه.
ما هو الأدب إن لم يكن أخلاقا في سريان مفعول أفكاره الدائمة عبر الأزمنة وعبر الأمكنة على الرغم من اختلاف تحققها الفني والجمالي والأسلوبي؟ لقد تحدث الإغريق وقبلهم أممٌ أخرى طويلا في هذه المسألة. وحاولوا أن يتوغلوا في مفهوم الأخلاق التي يسعى الكاتب إلى تمريرها عن طريق الأدب بوصفه إبداعًا يتفاعل مع واقع معاصريه. وقد تحدث أرسطو عمّا يجب أن يحمله البطل النبيل في المأساة في قيّم أخلاقية لا يصح الأدب بغيابها. وقد استطاع أرسطو أن يرصد شرط توفر الأخلاق بوصفها قيمة فلسفية حياتية تعكس السعي النهائي لأمة من الأمم وهي تعبر عن طريق أدبائها عن مصائرها. فهل كان أرسطو وغيره من الفلاسفة اليونانيون، يسعى إلى أخلقة الأدب أم إلى البحث عن القيمة الأخلاقية الكامنة في النصوص الأدبية برغم اختلاف توجهاتها وأشكالها وأساليبها؟ وهل كان هؤلاء يسعون إلى الحدّ من حرية الكاتب في تناول موضوعاته كما يفهم ذلك في عصرنا؟ثمّة خلط يبدو واضحا بين الأخلاق وإيديولوجيا المؤلف أو الكاتب في مقاربتنا إشكالية أخلقة النصوص الأدبية. ويبدو هذا الخلط من خلال دمج القيم الأخلاقية المحضة بما يمكن تسميته في المصطلح المعاصر بإيديولوجية النص أو القيم الإيديولوجية الكامنة في النص والتي قد تتخذ لها طرقا وأساليب تنعكس على البنيات الباطنة والظاهرة للنص وتشكّله تشكيلا موافقا لإيديولوجية الكاتب التي يدافع عنها فتحدّد بذلك مساحات الكتابة ومواضيعها ومن ثمّة أساليبها. وهي بذلك تحدّ من حرية الكاتب في تحقيق نص أدبيّ يعتمد على حرية الكتابة من دون تسقيف للرؤى.ولعل الدافع لهذا التحديد إيديولوجي مصلحي بحت يتخذ له صفة النظريات الفلسفية ثم يتطور إلى مذاهب جمالية تطغى لمدد طويلة على المشهد الإبداعي فيشكّل أدبا وفق المنظورات المسبقة. كل المذاهب الأدبية حاولت تمرير القيمة الأخلاقية باختلاف رؤاها في النصوص. وكل النصوص الكبرى، العظيمة منها خاصة، لها هذا البعد الأخلاقي المنطوي تحت راية الإيديولوجيا المبثوثة في التوجه الفني وفي المذهب الأدبي المُصاغ وفق النظرة الفلسفية السائدة. وهذا أمر مفروغ منه في نظري.
يبقى أننا، نحن الجزائريين والعرب عموما، عندما نناقش مسألة أخلقة الأدب، فإننا نقصد منها صراحة ما يمكن أن تدعو إليه وصاية ما، وبالتحديد الوصاية الدينية أو السياسية، من رؤى قد تُفرض على الكاتب فتحدّ من حريته في تناول ما يراه جديرا بالتناول من الزاوية التي يراها قادرة على تحقيق أكبر قدر من الصدق في إبداعه.
هنا، تصبح المسألة مسألة صراع بين ما ينتجه التصور المطالب بأخلقة الأدب من تمركز يتخذ شكل خطابات نقدية مفعمة بالأطروحات البريئة في مقاربتها لإشكالية معقدة جدا وبين ما ينتجه المبدع من تصوّر مضاد يزيد من تمركزه ومن محاولته تلقف المسألة من وجهة نظر قيمية فيسعى إلى استغلالها لتحقيق مكاسب غير أدبية على حساب الأدب وعلى حساب الأخلاق. ربما كان نقاش كهذا يعكس مدى الفراغ الفلسفي الذي يعيشه المبدع والناقد والقارئ جميعا في الاختباء وراء إشكاليات غير مؤسسة فكريا ومعرفياً. ذلك أنه لا يمكن فرض طريقة كتابة تحمل أخلاقا معينة بقرار متعال أو بوجهة نظر مهيمنة، كما لا يمكن كتابة كل شيء بدعوى الحرية واعتبار ذلك أدبا وإبداعا. إن النصوص الخالدة التي عكست فعلا تاريخ الإنسان في خصوصية انتمائه لمنطقة ما، أو لشعب ما، أو لديانة ما، لم تكن بهذه الصورة من التوتر والتأزم في مقاربة ما يختلج داخل الذات الإنسانية من كوامن وأسرار لا يدركها إلاّ المبدعون الكبار. ولعله في أدب بهذا المستوى وفي كتابة بهذا العمق ستختفي بالضرورة كل الأطروحات الضيقة التي تحاول تحجيم الأخلاق في مشهد جريء في رواية، أو تحاول تحجيم الأدب في وثيقة تتحول إلى درس بارد جاف.

خالد ساحلي/ روائي وكاتب


الإبداع متجاوزا للواقع في احترام
إن كان الإبداع هو الجهد العقلي الذي يمتزج به الإلهام الروحي، ويرقى الشعور من خلاله ويتطور ليعرّج من الذات إلى الجماعة، ومن الانطواء والاختزال إلى الرحابة والعمومية فإنه بلا شك هو مجموع تجارب يتشارك بعضها ويختلف باختلاف المنطلقات الفكرية والعقدية والتراثية، وبخاصة الواقعية حيث المكان والزمان هو المتحكم في صيرورة الأحداث سلبا وإيجابا، فالإبداع لا يمكنه أن يكون كذلك إلا إذا بسط «مواضيع كثيرة» قد تكون من المحظور واللامفكر فيه بتعبير محمد أركون حتى يمكن استثمار الموضوع والظاهرة وأخذها بالدراسة بغرض التخلص أو الحد منها.ولكن كثيرا من المجتمعات العربية الإسلامية محافظة تفعل الدناسة سرا وتظهر القداسة علنا وترفض كل محور يتحدث عن الفعل القبيح مصدر الشر وكان من الوجوب معرفته حتى نتجنب الوقوع فيه، وقد تتفنن هذه المجتمعات في ذلك، فإن موضوع أخلاقها يبقى من الادعاءات التي تتحكم فيها الأعراف لا الدين والقانون، ولأن المنطق يبيح كل ما يخدم الإنسان حتى ولو كان قاسيا، كان على المبدعين الامتثال للقواعد التي تحددها الأديان والأخلاق والقيم حتى تحافظ أكثر على عذرية الإبداع والواقع معا. إن رواية «مادام بوفاري» لفلوبير تمت محاكمتها أخلاقيًا لأنها خرقت المتداول رغم نقدها اللاذع الذي يعبر بحق عن الذات الإنسانية في كثير من جوانبها الحياتية، إلا أنها قد تجاوزت ذلك في غير عصرها، لأن القيمة الفنية والأدبية كانت كفيلة بأن تجعلها تحفة من تُحف الأدب الخالد.يجب التفريق بين الأدب المنحط الإيروتيكي الذي يجد له مناصرين وكتـّابا أيضا، وما دمنا نؤمن بالحرية في المعتقد والتفكير فالناس أحرار فيما يختارونه لكن يبقى علينا أن نقف على ضفاف الجهة الأخرى كمقاومين له حتى لا يصل الذوق إلى مرحلة الانحطاط والوضاعة والسفافة فيتحلل القارئ ويفقد فيه كل ما هو جميل. فرقٌ أن تقرأ إبداعا كأنك تستمع إلى سنفونية رائعة تتمثل أمامك ترتقي بالروح وتعرج بها إلى حيث السكينة والهدوء أو تقرأ إبداعا كله إيحاء جنسي يجعلك مع الوقت تكره الشخصيات وتلعن كاتبه الذي لن يكون إلا أحد مدفوعي الأجر من جهة تعمل على إفساد الذوق العام، أو ذات تبحث عن الربح لا عن الخلود وشتان بين أدب عالمي يقاوم لأجل الخلود والصمود في حل معضلات المجتمع والبحث عن الحلول لها أو إظهارها للناس حتى تتهذب أخلاقهم وتتأثر عقولهم فيقومون من السبات إلى الفعل المحرك الذي يتوغل ليصلح لا الذي يهدم. وأنا وإن كنت ضد الرقابة والمقص والتخوين والتكفير واستعمال الدين في طمس كل ما أنتجه الفكر من جميل الفن والأدب حجرا على العقل والروح التي تزرع الجمال وتنميه وتحارب الشر وتخفيه، أنا أقول: الإبداع الجيد يحترم ضوابط الشرع والعرف والقانون لكنه يظهر الفساد في كل شيء حتى ولو كان المخجل منها في المجتمع.

بوداود عميّر/ قاص ومترجم

كيف يكون الأدب أخلاقيا إذا كان الواقع عكس ذلك؟
من نافلة القول التأكيد أن الأدب يأخذ قيمته ومعناه، بقياس حجم ارتباطه بهموم الناس واهتماماتهم، وسيصبح العمل الأدبي صادقا، أمينا، عندما يحاكي تفاصيل الواقع المعيش، كما هو، بخيره وشرّه، بايجابياته وسلبياته، وليس كما يرغب الكاتب أو يريده للناس، أو كما قد يُوحى له، بإيعاز من طرف أو آخر. فالعقل «لا يمكنه أن يحكم الواقع، ما لم يكن الواقع في حد ذاته معقولا»، على رأي الفيلسوف الألماني هيجل. ولعل الأخلاق كما هو جاري الاتفاق في تحديد معناها، هي منظومة قيّم أو مبادئ، متفق عليها بين مجموعة معيّنة من الناس، تتحوّل إلى واجبات ملزمة لهم، يسندها الدين في الغالب، وهي في الأعمّ، قيّم غير ثابتة، كما قد يتوهم المنافحون عنها، تصبح معرّضة كأي شيء في هذا الوجود للتغيير، تبعا للظروف والسياق والزمن. فما يتّفق أنه أخلاق ملزمة لمجتمع ما، قد لا يعني مجتمعا آخر في شيء، والعكس صحيح، وما أُتفق عليه كأخلاق، عبر تاريخ قريب أو غابر، حتى لدى المجتمع الواحد، قد يختلف فيه اليوم وفي المستقبل.
ولعل من شأن قيّم تبدو من الثوابت، واليقينيات، أن تعيق مسار مجتمع، وتحول بينه وبين تحقيق أسباب النماء والتطوّر، فكيف السبيل إذًا، إلى اكتشاف مكامن الخلل، ما لم يقم الأدب بتفكيك الثابت والمتغيّر.
فما تعارف عليه كقيّم ثابتة، تحوّلت بتقادم الزمن، ومرور الوقت، إلى مسلّمات، تبناها مجتمع معيّن، تحت ظرف ما، بصرف النظر، إن كان مخطئا أو مصيبا. وهكذا يسعى الأدب جاهدا، وتلك فيما أعتقد، من صلب أهدافه، نحو تفكيك تلك القيّم المثالية، التي تبلغ حد التقديس أحيانا، وتحويلها إلى قيّم متغيرة، وبالتالي إلى مادة قابلة للسؤال والبحث، يمكن أن يطالها النقد، كفيلة بأن تتعرّض إلى المراجعة وإعادة النظر. أضف إلى أن الأدب وهو يطرح الواقع بحيثياته، بما في ذلك تفاصيل الأحداث التي قد تبدو للبعض تافهة ولا أخلاقية، يتولى دورًا محوريا، يعتبر من صميم اهتمامه، حتى وإن اصطدم في الأغلب، مع الدور الذي تلعبه المؤسسات التعليمية أو الدينية، ومؤسسات أخرى عمومية، وهو دور ذو أهمية بمكان، في تفكيكه السائد، والتفتح على آفاق أخرى.
يحضرني كِتاب «ألف ليلة وليلة»، المنجز العربي، الذي طارت شهرته في الآفاق، والذي تعرّض بتهمة «أخلاقية»، إلى هجوم شديد، بما في ذلك الدعوة إلى إحراقه، علما أن ما حققه الكِتاب من نجاح عالمي، على جميع المستويات، لم يتسنّ لكِتاب آخر تحقيقه، عبر كامل التاريخ العربي، الإسلامي. وعندما كتب محمد شكري الكاتب المغربي الراحل، روايته السيرية «الخبز الحافي»، والتي استعرض من خلالها مسار حياته البائسة، ومعاناته، وتفاصيل الأوضاع المعيشية السائدة سنوات الأربعينيات، تم حظر الرواية، بداعي انتهاكها للدين والأخلاق، غير أنه ومع مرور الوقت، أُعيد لها الاعتبار، واشتهرت عربيا وعالميا، بل أنها تحوّلت إلى وثيقة أنثروبولوجية، لا مناص منها، لمن يروم التعرف عن قرب على المجتمع المغربي خصوصا، والشمال أفريقي عموما، خلال سنوات الأربعينيات من القرن الماضي.

اليامين بن تومي/ روائي وباحث أكاديمي


بعض الدعاة عمموا المشكل الأخلاقي على الأدب  بشكل كرنفالي
سأحاول أن أطرح العديد من الأسئلة الجذرية لأفهم هذا الرّهاب العميق الذي يسكن المخيلة العربية في ما يخص مسألة الإبداع، لماذا يخافُ العربيُّ من الإبداع؟ ولماذا تُسارع النُّخب الفقهية أو الدينية إلى تعوير الإبداع بدعوى الأخلاق أو عداءه للدين؟ إذا كان الدين ينطلق من نصوص معصومة فلماذا نضعه في مقابل نصوص اللاعصمة/نصوص الهشاشة العاطفية التي ينتجها البشر؟ أليس من الإجحاف أن نقع في هذه المغالطة؟ هل الأمر يتعلق بتعاليم نصوص السيادة العليا أم يتعلق بمفُهوم الأشخاص الدينيين؟ أسئلة كثيرة حقيقة أنتجتها مخاضات قضايا كبيرة وكثيرة أثارت وتثير كثيرا من الحبر، ومن الأحاديث الجانبية حول قضايا تتعلق بالأدب والأخلاق.ها هنا يفتح الموضوع أمامنا مسألة مهمة تقودنا إلى شكل معين من تشريح تلك الإساءات التي يتعرض لها المثقف أو المبدع العربي، إن في حالة الهجوم عليه بالتكفير أو القتل أو المصادرة، وغالبا ما لا يكون لفعل الإساءة ما بعده، فيتعطل الإبداع، ويخفت صوت المثقف، ويصبح في عطالة تامة تشبه الموت السَّريري، مثلا محاكمة ابن رشد، ونصر حامد وغيرهما كثير، بينما تاريخ الإساءات في الثقافة الغربية لها دائما ما بعدها، مثلا سقراط وما بعده، واندفاع الأسئلة الكبرى التي كان لها ما بعدها بشكل تراكمي، تُرى لماذا ثقافتنا العربية والوطنية لا تملك هذا المفصل الجوهري «ما بعد» لتحقيق تراكم جوهري، لنَقْلِ البلاد والعباد إلى مستوى الإبداع وابتكار الحياة الكريمة، لأن سؤال «المابعد» يحمل مشروعا عمليا نحو التأسيس لقطيعة جذرية مع ما سبق، الذي ساهم بشكل ما في الإخفاق، فالقطيعة مهمة لأنها تساعدنا على التخفيف من حدة الإحساس المريع بالمسؤولية التاريخية اتجاه الأشكال والمضامين، التي تلزمنا اتجاه الأوائل بشكل عام، قد تكون هذه القطيعة داعشية في شكل آخر، لكنها بريئة وطاهرة، لأنها تحاول أن تمضي بنا إلى مرحلة أخرى، مرحلة بناء الدولة لأن سؤال الإبداع في محصلته هو سؤال سياسي.هذه الإدانة التاريخية للإبداع أجهضت كل المشاريع التي كان في مقدورها أن تكون حلقة عبور إلى ما بعد، الذي يؤسس للاحترام والاعتراف، لكن التكلس على مرحلة معينة وفهم معين حال دون تمام المشروع الإبداعي العربي، وجعل العربي ذاته ككائن نوستالجي يَحِنُ لكلّ الأشكال الماقبلية ويري فيها النجاعة والصلاح ويري في غيرها الفساد.في ضوء هذا المسار نفهم تلك المصادرات لروايات بعينها تريد أن تتحرر من أشكال الرقابة الأخلاقية والتاريخية، وتعمل على إعادة تأمل الحياة والطبيعة والإنسان، تعيد رسم علاقة بين الكائن والثقافة، لكن الأمر لا يكون دوما بهذه السهولة، هذا الأمر الخطير داخل أسوار اللغة يجعل كاتبا كأمين الزاوي يعلن بكل مسؤولية أن الرواية «كذا» لو كتبها باللغة العربية لأثارت ضده مشاكل لا تحصى. فهذا الرقابة الكامنة في الضَّمير تمتد إلى تلك المنابر التي من المفروض أن تكون وسائلا لإشاعة الحرية، لا أن تكون مساندا لفكر داعش الذي أخذ يقوى ويشتد، فتلك الرؤية التي تحاول أن تقدم المثقف على أنه خارج على القانون كما في فيلم رشيد بوشارب «الخارجون على القانون»، وبالتالي يستوجب عقابه بأن نجعله وجها لوجه أمام الجمهور العريض، وبالتالي تتخلص السلطة من أشكال التبعية لفعل العامة، ولكنها تستعين على عملها بممثلين يقومون بالدور كاملا بدلا عنها، من اللحظة التي يلبس فيها هذا الممثل ذلك القناع الساتيري الذي يحيل إلى حامي الدين والذَّاب عن حوزة العرف العام، وهو في الحقيقة يقوم بعمل ينسف الوعي ويزيف التاريخ ويُعطِّل سُنَّة الحركة التي يكون دورها في الحركة أهم من ضبط جريمة لا يتفق اثنان حول وزرها، وإنما يتم تقديرها عاطفيا. وهنا توجه التهم للمثقف ليتم تحويل الموقف الأنطولوجي، بدل تحويل الانتباه إلى صناعة الدولة، يتم تحويل الأنظار نحو إثارة سيناريوهات خداعة، يتهم فيها المثقف العضوي أنه عدو الأمة والدين والبلد.لعل هذه الأزمة التي يتم تصديرها كل مرة من قبل بعض الدعاة حيث يتم تعميم المشكل الأخلاقي بشكل مسف وكرنفالي، ومنه تقسيم المثقفين إلى كفار وملاحدة وعلمانيين، فهذا التقسيم سيحرمنا من قوة الدفع التي تحصل بين النخب، لأن الاتهام يلغي الإرادة في بناء مجتمع الحوار والتواصل.

محمد رابحي/ كاتب وناقد


نحاكم الفكرة والنية ونُدين الفن/الأدب لكن لا نستطيع محاكمته
حينما تهتكت الممثلة «هند رستم» في فيلم «باب الحديد» تهتكت فعلا، لأنها قامت بالدور وفعلت ما فعلت. لكنها لم تكن إذاك «هند رستم» وإنّما كانت «هنومة».. و»هنومة» لو بحثنا عنها لن نعثر عليها، إذ لا وجود لها في الواقع.. أرأيتم كم أن الأمر معقد، ويدفعنا لنسأل مَنْ المُدان إذا ما رفعت في هذا الشأن قضية أخلاقية؟. ثم كيف للقضاء في مثل هذه الحال أن يعالج هذه «اللعبة الفنية»؟. بالنسبة إلى الدين فقد تحاشى مراوغات الفن وعاد إلى الأصل فحرم التمثيل من أساسه.
في قضية الكاتب المصري أحمد ناجي لا يُتهم الكاتب بالانحراف ولكن حتى يتم تكييف الأمر، يُتهم بكونه يخدش الحياء العام. عجيب، هل يجوز لشخص واحد قرأ الرواية على انفراد أن يتحدث عن حياء «عــام»؟. معنى ذلك أننا بصدد محاكمة الفكرة والنية لا أكثر. ومعنى هذا أننا نُدين الفن/الأدب لكن لا نستطيع محاكمته.
أي حياء يُخدش ونظرية كل «ممنوع مرغوب» تقول العكس؟ إننا نستنكر ونشجب وندين ونمنع الأعمال الفنية «المسيئة» بعد أن نكون «تلذذنا» بها. ما الذي يثبت أن أشخاصا تضرروا من فن متطاول؟. التحليل النفسي أم الطب الشرعي أم ماذا؟. ندرك تمام الإدراك أن القابعين في السجون من لصوص ومجرمين أضف إليهم الإرهابيين، أغلبهم لا يقرأ ولا يشاهد الأفلام. بل إنّ كثيرا من حفظة القرآن وهواة الكُتب الدينية و»النظيفة» منحرفون.
إن الأثر الفني يستقل عن صاحبه عدا ضرورة ما يربطهما آليا. فلا تحكمه إلا مزايا من داخله. وعلى فعل التلقي إلا أن يستجيب لذلك. أنا لا أحب «إحسان عبد القدوس» لأنه طيب ومثالي، ولا أحب «نجيب محفوظ» لأنه متسامح.. ولا يمكننا أن نحب «مولود فرعون» لأنه شهيد. ولا «تولستوي» لأنه نصير الفقراء. فذلك شأنهم لا علاقة له بما يكتبون. وهم كأدباء لا يثمنهم لدينا إلا أعمالهم وكتبهم. نحن نحبهم من خلال مؤلفاتهم الجميلة. 

استطلاع/ نوّارة لحـرش

الرجوع إلى الأعلى