القصة القصيرة تراجعت بفعل موضة الرواية التي تحولت إلى بضاعة رائجة
هجر القصة القصيرة إلى الرّواية ليس تأسيسيا بقدر ما هو يخضع لنزوة عابرة
في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والناقد عبد الحفيظ بن جلولي، عن القصة القصيرة وأسباب تراجعها في خارطة المشهد الأدبي الجزائري، ويرى بهذا الخصوص أن من بعض الأسباب ما هو راجع إلى إشكالية البضاعة الرّائجة، أو ما يُطلق عليه «موضة الرّواية».  كما يرى أنّ دُور النّشر لها علاقة بما تعانيه (القصّة القصيرة) من تجاهل، وأنّ إستراتيجية النشر لديها أصبحت منحازة بالكامل للرّواية وخصوصا بعد الهجرة الجماعية إليها، سواء من الشّعر أو القصة القصيرة، لهذا أصبحت تُقبِل على ما تتطلبه السّوق الثقافية، وهو ما أثّر سلبا على حضور القصّة القصيرة. أيضا يعتقد بن جلولي أن غياب المنابر الثّقافية الحقيقية يمكن أن يكون من بين أسباب تقلصها، وأن الإشكال الحقيقي في تراجع حضورها يكمن أيضا في بنية المُفاضلة المكرّسة في الوعي الجمعي للمبدعين، ومنه فاللحظة هي لحظة الرّواية بامتياز.
حاورته/ نوّارة لـحــرش
لماذا برأيك هذا الخفوت للقصة القصيرة رغم بعض العناوين التي صدرت في الآونة الأخيرة؟. ففي سنوات مضت كانت تتسيد مساحة النشر على الصفحات والملاحق الثقافية في الجرائد، وحتى في عدد الإصدارات مقارنة بما كان يصدر من روايات ودواوين شعر. لكن الذي حدث أن القصة تقلصت مساحتها في النشر كما في عدد الإصدارات. كيف تقرأ هذا الخفوت أو هذا التقهقر الذي طال هذا الفن؟
عبد الحفيظ بن جلولي: القصة القصيرة هي لحظة تعثّر عابر على رصيف الحياة، أو تمثل استراقا فنيا لحالة معيّنة بذاتها تنطبع في حينها داخل المخيال وتحرّك السّرد، والقصّة القصيرة على العموم هي تسجيل فنّي لألم ما، إنّها انسجام سردي فريد مع ألم وجودي، ولهذا فهي تختلف عن الرّواية التي تمثل عالما بأكمله من الأحداث المتغيّرة، وقد لا أتّفق مع الرّأي القائل بأنّ القصّة القصيرة في خفوت كبير، لأنّ معاينة ذلك تحتاج إلى بحث ميداني حقيقي، لكن يبدو على الواجهة تراجعا لحضور القصّة القصيرة في الواقع الثّقافي بمنابره المتعدّدة، وهذا راجع طبعا إلى إشكالية البضاعة الرّائجة، وما هو رائج اليوم، هو ما يمكن أن نطلق عليه «موضة الرّواية»، ويبدو لي أنّ دور النّشر أصبحت طبقا لما آثره المبدع من انحياز كامل للرّواية وخصوصا بعد الهجرة الجماعية إليها، سواء من الشّعر أو القصة القصيرة، قلت أصبحت دور النشر تقبل على ما تتطلبه السّوق الثقافية، وهو ما أثّر سلبا على حضور القصّة القصيرة، لأنّ وحسب رأيي كل مشروع روائي هو في بدايته قصصي بالضّرورة، .ولعلني على سبيل المثال أذكر الرّوائيين لحبيب السايح وجيلالي خلاص.
هل القول بموت أو انتهاء (القصة القصيرة)، حقيقة أم فقط ذر كلام هنا وهناك بعيدا عن واقع الحال وواقع القصة؟
عبد الحفيظ بن جلولي: القول دائما وعلى الإطلاق بموت المفاهيم والمصطلحات هو قولٌ منزوع من سياقه يعود فقط على قائله، ولهذا لا يمكن لِما أبدعه الإنسان من خلال مخياله وفي تاريخه العابر للحقب أن يتخلّى عنه بسهولة، وخصوصا في ميادين الخيال والفن والإبداع، لأنّ تلك الأعمال هي نشاطات أبدعها الوعي الإنساني في أعلى درجات توتراته الرّوحية والعقلية، ولهذا لا يمكن لعثراتنا اليومية على رصيف الحياة أن تندثر ولا يعود لها أي أثر، ولو عدنا إلى مكاتب المبدعين لوجدنا مشاريعهم القصصية حبيسة الأدراج، لأنّ المبدع عندنا قد يتأثر بالوضع الثّقافي العام السّائد في المجتمع والذي يفاضل بين الأشكال التّعبيرية، ربّما قد يكون ذلك مردّه إلى خلل في الوعي الثّقافي بأهمية الحقول الإبداعية في فسيفسائها المطلّة على الحياة، ولهذا _ وحسب رأيي _ لم نشهد مثل هذا القول في السّبعينيات مثلا لأنّ درجة من الوعي كانت تتحكم في مسار الحركة الإبداعية، والتي كانت تتحرّك وفق جماليات وإن صُنّفت في خانة إيديولوجيا ما إلا أنّها استطاعت أن تخلق ديناميتها الخاصة ووعيها الجمالي بضرورة تنوّع المشهد الإبداعي.  
ألا ترى أنّ الوفاء للقصة أصبح من قبيل الوهم من قِبل الكُتاب الذين هجروها إلى فن الرواية؟. وهل يمكن القول أن تراجعها مرده أيضا لهيمنة الكتابة الروائية واكتساحها الساحة الأدبية؟
عبد الحفيظ بن جلولي: الإشكال الحقيقي في تراجع حضور القصّة القصيرة يكمن في بنية المفاضلة المكرّسة في الوعي الجمعي للمبدعين، ومنه فالحظة هي لحظة الرّواية بامتياز، أو كما أطلق عليه جابر عصفور منذ فترة «زمن الرّواية»، وحتى الرّواية ما هي إلا مقاطع قصصية يسلّط فيها زوم السّرد على لحظة من لحظات الزّمن الرّوائي المتعدّد، وبالتاّلي يصبح هجر القصة القصيرة إلى الرّواية ليس تأسيسيا بقدر ما هو اعتباطي عفوي يخضع لنزوة عابرة، وحتى الكتابة الرّوائية تجنح اليوم إلى الشّذرة القصصية، ومفهوم الوفاء لشكل سردي، نسبيٌ، في عالم الإبداع لأنّ المبدع قد تَفرض عليه الحالة الإبداعية شكل كتاباتها، فما يمكن أن يكتب شعرا لا يمكن إخراجه قسرا على هيئة القصّة القصيرة.
هل التحولات السّردية مثلا التي جعلت الزّمن تكتسحه الرّواية بقوة وغزارة، من الضروري أن تلغي أو تقلص من فنون أدبية أخرى كالقصة مثلا؟
عبد الحفيظ بن جلولي: إن مثل هذه الطروحات لا يوجد لها حضور في مجتمعات عارفة مناضلة من أجل القيم الجمالية ومنها أشكال السّرد والإبداع عموما، لكن غياب المنابر الثّقافية الحقيقية يمكن أن يكون من بين أسباب تقلص القصّة القصيرة، ولا أكون مجانبا الصّواب إذا قلت أنّ أدنى هذه المنابر هو غياب مفهوم «المقهى الثقافي»، تعثّر هذه الحركة المعرفية بمنجزها الواقعي يؤثر فعلا في الرّؤية للبرامج الثّقافية التي تكرّس من خلال ديمومتها وفعاليتها للمصطلح الثّقافي والإبداعي بتجلياته الواقعية، ولهذا غياب مشروع نقدي يحفر في جذور إشكالية الإنتاجية السّردية، يكون سببا في غياب الوعي بأهمّية اللحظة القصصية كتعرية للحظة «التعثّر على رصيف الحياة» كما أشرت من قبل، لماذا «المقهى الثقافي» على أقل تقدير، لأنّه الفضاء الذي يحرّر اللحظة الإبداعية من سطوة الرّسمي، وفيه تلتقي كل فعاليات الإنتاجية الإبداعية متجاورة ومحاورة للكينونة والعالم والوجود في تناغم وتواصل، وبالتّالي تنفصل فكرة الإلغاء عن جسد الإبداع القائم على التواصل.
هل تجاهل النقد لهذا الفن ساهم في تقهقره وخفوته؟ ولماذا برأيك النقد عندنا لم يعد يهتم بهذا الفن، ودونا عن بقية الفنون الأدبية الأخرى يتجاهله بكثير من الإجحاف؟
عبد الحفيظ بن جلولي: يبدو لي أنّ النّقد الحقيقي ليس انتقائيا، لأنّ علاقة النّاقد بالنص تذوقية في المقام الأوّل، والنّقد كما الإبداع محكوم بالنّزعة الجمالية لأنّه إبداع ثانٍ للنص، أو كما قال الأقدمون «كلام على كلام»، ولهذا لا يمكن للنّقد الحقيقي أن يتجاهل القصّة القصيرة، يحدث ذلك عندما ينحدر النّقد إلى مستوى التحيّز، لكن الإشكال يطرح من زاوية التراكم الذي يخلق الحركة، فليس هناك تراكما نقديا حتى نستطيع الحكم على الظاهرة النّقدية في علاقتها بالمنجز القصصي، وإذا كان المبدع ذاته آثر التحوّل إلى الرّواية فأيّ ذنب للناقد في ذلك؟ لكن هذا لا يخلي مسؤولية النّاقد في ضرورة سعيه لتحريك المشهد الإبداعي عن طريق بعث الحركة النّقدية الشاهدة على إنتاج «الحلقة» بمفهومها الغربي، التي كانت على الدّوام المساهم النّشط في تكريس المفاهيم الجمالية والنّقدية في الواقع الثّقافي وبالتّالي الارتفاع بالذّوق الجمالي للمجتمع.
حتى على مستوى الملتقيات، هناك ملتقيات خاصة تُعنى بالرواية، بالشعر، بالفلسفة، بالنقد، لكن لا وجود لملتقيات خاصة بالقصة القصيرة. هل غياب ملتقيات تعنى بها يؤثر سلبا على حضور وارتقاء هذا النوع من الفنون الأدبية؟
عبد الحفيظ بن جلولي: من الأكيد أنّ عدم تخصيص القصة القصيرة بملتقى يؤثّر سلبا على حضورها وارتقائها، وهو ما أشرت إليه سابقا، وذكرت «المقهى الثقافي»، لكن هل الملتقى بالصّورة التي هو عليها اليوم يستطيع أن يعيد للشّكل الغائب حضوره، إن الملتقى اليوم ما هو إلا نقل للدّرس الأكاديمي من المدرّج إلى فضاء الملتقى، والأكاديمية بطبيعتها تجريدية ومقنّنة وجامدة، والنّص القصصي جمالي متحرّك، ولا يتحرّك سوى بالمؤانسة والمُصاحبة والمُدارسة، لهذا ما يحدث في الملتقى ما هو سوى قراءة ستاتيكية للمنجز النصي، لا تربط النص بالحياة، وهو ذاك مربط الفرس في قدرة مجتمع بعينه على تجاوز لحظة المُفاضلة بين النّصوص والأشكال الإبداعية، ومجتمع ما زال قارا في تبعيته للراّئج والمُفضّل، إذاً القضية ليست محصورة في النّقد أو الملتقى بقدر ما تتعلق بأزمة بنيوية في الرّؤية للمشهد برمّته في إطار ديمومة الحركة والمعالجة الجمالية للنص في إطار الحياة.   
في ظِل هذا التّجاهل الذي يلحق بها من طرف النقاد والناشرين، هل من مستقبل واضح المعالم لفن القصة القصيرة في الجزائر؟
عبد الحفيظ بن جلولي: سبق أن أشرت إلى أنّ مكاتب المبدعين تحبس الكثير من الإبداعات القصصية في أدراجها، وما يعيق الإفراج عنها هو رؤية المجتمعين الثّقافي والسوسيولوجي القائمة على بنية المُفاضلة، وما يمكن أن يعيد للمبدعين ثقتهم بالمنجز الإبداعي في تنوّعه واختلافه هو الانفتاح على الوعي التواصلي مع النّقد ومع الحياة، لأنّ المبدع هو آخر من يقرأ المنجز النّقدي، بينما الأوْلى أنّه هو من يتوجّه إلى مطالعة النّقد، لأنّ ذلك يساهم في ترقية ذوقه النصي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجعله يساهم في حركة مجتمعية من أجل استنبات القيم الجمالية التي لا تحتكم إلى الانفصال بقدر ما تدور حول الاتّصال.
إنّ دور النّشر لها علاقة بما تعانيه القصّة القصيرة من تجاهل، لأنّ المفترض فيها أن تقيم هي الأخرى ندوات تتعلق بالتقييم الميداني للحالة الإبداعية المرتبطة بالنص المختلف، ومنه القصّة القصيرة، وتتقرّب من القارئ من خلال سبر الآراء لمحاولة الوقوف على حصر الشريحة التي تهتم بهذا الفن السّردي سواء من الجانب المعرفي النّقدي والدّراسي، أو في جانبه الإبداعي الجمالي.
أمّا من حيث مستقبل القصّة القصيرة في الجزائر فمن وجهة نظر نقدية أرى بأنّ المادة متوفرة ولكن الوعي بالحالة الثقافية والإبداعية في شكلها المتواصل مع الإنسان والمجتمع ما زال غائبا أو ناقص الوجود، لأنّ ما يحكمنا هو نظرة المُفاضلة بين النّصوص والأشكال الإبداعية.
ن.ل

الرجوع إلى الأعلى