فيصل الأحمر
يـوميـــات وتـأمـــلات
اليوم الأول
تبدأ أسابيعي الهامة بيوم الخميس، يوم جميل ومشع ومليء بكل شيء مشرق في حياتي، ورغم أني ولدت يوم الاثنين – وكذلك ولدت بنتاي مايا وأريام يوم الاثنين؛ وهي مصادفة جميلة تدعمها صدفة أخرى هي أن تاريخي ميلادهما هو 25 من شهري أكتوبر وفيفري على التوالي، ولن أدفع الصدفة أبعد فأقول إن بينهما أربع سنوات وبينهما أربعة أشهر، ولكنني سأذكر بأن رقم الخميس في نظام التعداد الدولي isoهو رقم: 4 ، ولن أخيف القراء بتذكيرهم بأن لمايا ولأندلس ابنتي الثالثة يوم الميلاد نفسه: 25 أكتوبر...
بداية هذا الأسبوع كانت الخميس السابق لنهاية المعرض الدولي للكتاب، إذ ذهبت إلى المعرض لأمسية واحدة بهدف حضور حفل توقيع روايتي «أمين العلواني» الصادرة في طبعة جديدة عن دار العين المصرية، وكانت المفاجأة هي نفاد كل النسخ التي جيء بها إلى المعرض؛ الشيء الذي دفع إلى إلغاء الحفل وسط بهجة النفاد الذي معناه الإقبال على العمل، وتعاسة الأمر بسبب خيبة الإلغاءات عموما.
وقد تحول الأمر فيما بعد إلى مشكل إذ علق كثيرون على كون حكاية الكتب النافدة استراتيجية إعلامية أو حيلة تجارية ترويجية لا أكثر، وهو لغط لم أهتم به كثيرا لكثرة اللغط في هذا الوجود ، ولإيماني بأن متابعة كل الحماقات التي يتفوه بها البشر ستحولك بالضرورة إلى إنسان سخيف لا يجيد التفكير ولا التفاعل مع الحياة ويفقدك سلامة الحواس، فتصبح تجتهد كي لا تقع في السخافة فتجيد الوقوع في قلبها وأنت تعتقد بأنك تتجنبها.
اليوم الثاني
الجمعة يوم معقد جدا حينما تكون منتميا إلى عوالم الحافات؛ لك أصدقاء يصلون – مثلك- وآخرون لا يهمهم مشروع الصلاة، وكثيرا ما تجد نفسك في مجلس نصفه يسير يمينا والنصف الآخر يقصد اليسار وكل فريق يريدك أن تدعم مسيرته بوجودك...
أنت في المعرض الدولي للكتاب وترى انتشار  الناس إقبالا على الحياة – لا على الكتب بالضرورة – وعلى كل الأشكال المعاصرة للاستهلاك؛ خضوعا لماسبق لي في بعض مقالاتي أن وصفته بالكوجيتو الجديد: أنا أستهلك إذن أنا موجود!
جمعتي كانت وسط الكتب والأصدقاء والصور والكلام اللطيف الخفيف المتبادل على عجل في أروقة المعرض. التقيت بصديقة شاعرة كان لها حضور غريب مبالغ فيه منذ عشر سنوات وكانت تجتذب العيون المحبة لسماع الشعر كلها، بدت لي شاحبة وحزينة، كانت قد تحولت من السن الرائع للنساء (25) إلى سن خطير بعض الشيء بالنسبة أليهن (35)...لم نتبادل كثيرا من الكلام كانت صامتة ذلك الصمت الذي يميز ذلك النمط من الناس الذي يحاول أن يوحي بالعمق ولكنه ينتهي إلى يترك فيك انطباعا بأن العمق العميق المعمّق فيه هو جزء قوي ومقاوم من السطح السطحي المسطّح!...
وأنا أفكر في صديقتي الشاعرة «الكبيرة» سابقا و»الصغيرة» إلى يوم الدين، والتي ربما كانت كبيرة بسبب صغر سنها سابقا ولكنها ستتحول إلى صغيرة بسبب كبر سنها لاحقا، تذكرت شخصية «مدام هورتونس» في رواية «أليكسيس زوربا» بائعة الهوى العجوز التي تعيش على ذكريات تلتهمها كلية.
استوقفتني كثيرا الملاحظة المتكررة حول الروايات الجديدة التي صدرت بالعشرات والتي من ضمن ما يجمع أغلبها من الصفات أن بداياتها خير من نهاياتها. ملاحظة كررها كثيرون فسألت سؤالا بسيطا وآخر فلسفيا:
1/ هل أننا نقطف رواياتنا في الجزائر قبل موعد نضجها بسبب ضرورة أن نكون حاضرين للابتسام و التباهي والتظاهر بالتواضع والعفوية واللامبالاة أمام الكاميرات في المعرض الدولي للكتاب؟
2/ ماذا يمكن ان نستخرج من مسرح ثقافي كهذا ليكون روح عصرنا، أو ( zeitgeist) – بتعبير هيغل- خاص بهذه الرقعة المضطربة من العالم.
انتهى بي اليوم في خنشلة للمشاركة في الإشراف على مسابقة دكتوراه هنالك.
اليوم الثالث
كما هي الحال في مسابقات مابعد التدرج في الجامعة يبدأ اليوم باكرا ولا ينتهي إلا بعد طول مبالغ فيه حيث تظهر النتائج بعد يوم طويل عريض من العمل.
كان يوما جميلا جدا؛ جو منشرح يسّر العمل المضني للتصحيح وإعادات التصحيح والتداول...و...و...
طوال اليوم كان مضيفنا السيد عميد كلية الآداب الأديب والأستاذ المتميز فيصل حصيد يعمل كأنه خمسة رجال لا رجل واحد، حاضر في أكثر من مكان وبمعزل عن الضغط العصبي الذي عادة ما يصاحب تلك المهمة وذلك السياق.
التقيت بأساتذتي وبزملائي وقضيت يوما جميلا من أيام الجامعة التي لا تزال تحافظ  -كفضاء حيوي وعملي وثقافي- على صفات جميلة كثيرا ما نغفل عنها: العلاقات اللبقة والنبيلة، ثقافة المجاملة، آداب المعاملة، صرامة العمل، جدية النقاش، الحرص على درجات نادرة من الموضوعية والتجرد من الذات...الخ الخ...أقول هذا الكلام لأن ثقافة سيئة جدا ومخططا لها تتفشى في البلاد بمعزل عن العيون والعقول اليقظة هدفها كسر كل ما هو نبيل او متعال في البلاد، وكل ذلك لصالح أوساط سياسية وصولية يزعجها الخطاب الثقافي فتتقوى بالشعبوية والبازارية وبالدعاية للبساطة التي هي الاسم الآخر للإسفاف وللانحطاط.
اليوم الرابع
سافرت عائدا إلى بيتي وظل رأسي يقلب الأفكار التي يحملها كصخرة سيزيف، كنت أفكر في انطباعات الجمهور المحاوَر حول موضوع الانتخابات الأميريكية، كان هنالك اجماع على تمني الفوز لهيلاري كلينتون؛ وكنت أتساءل عن السر العجيب الكامن خلف سرعة النسيان لدينا في هذه الزاوية الشرقية العربية الاسلامية من العالم:أليست هذه المرأة هي مهندسة التعاسة العربية الشرقية الإسلامية في ليبيا وسوريا والعراق وكردستان؟
تذكرت الدعم الغريب للانتلجنتسيا الجزائرية في 1981 لفرانسوا ميتيران حينما ترشح لرئاسة الجمهورية الفرنسية، ميتيران الذي كان على راس وزارة الداخلية حينما اندلعت الثورة (1954) والذي انتقل إلى وزارة العدل حتى 1959...أي أنه كان في قلب الحدث الذي ملأ القبور بالجزائريين، وملأ الذكريات بالتعاسة...ولكننا ننسى بسرعة مذهلة.
أجابني صوت داخلي: نحن ننسى بأننا نعيش في عالم فيه تلفزيونات للكلاب ( ها هي ذي الكلاب تتفرج على التلفزيون!) وننسى الذين يامرون أوامر من داخل علب مغلقة...ويختفي في الظل رجال هامون يقررون مصائرنا في لعبة خطيرة تتم في الظل ( لعبة الظلال...عنوان جميل ولكنه مستعمل للأسف الشديد). ها هي ذي الحكومات مع بدايات القرن الحادي والعشرين تتحول إلى «حكومات واجهة» و»حكومات عميقة» تعمل بقوة ونجاعة في الظل.
اليوم الخامس
جزء كبير من اليوم قضيته بين طبيب العظام للاطمئنان على ركبتي المسكينة وطبيبة القلب للاطمئنان على قلبي المجهد.
الأخبار ليست جميلة للأسف الشديد ولكن ابتسامة خبيثة ظلت ملتصقة بي وسط التحليل والفحوص والاشعة. ابتسامة تقول للحياة: لحسن حظك أو لسوئه يا حياة لا زالت هنالك جولات أخرى على ما يبدو.
اليوم السادس
 على هامش متابعتي لجديد الانتخابات الأميريكية شدني الشبه الكبير بين الوهابية والبروتستانتية من حيث طريقة التعاطي مع الحياة عديمة الخصوصية، وكذلك من حيث تمثل الإنسان كجندي في معسكر ما، لخدمة هدف غير معلن عنه، يتم تعتيمه بالخطاب الديني السطحي أكثر مما تحتمله العبادة والإنسانية و المعاني الكثيرة التي تأهل العالم: الحب، التحدي، المصير، التعالي الأخلاقي، التفكير، التأمل في جمال الخلق، الموت، المصير، الدنيا، الآخرة...يجتمع الاتجاه السلفي حسب التصور الوهابي مع الاتجاه البروتستانتي في النسخة الجمهورية الأميركية في منطلق أن العودة إلى النص تحررنا من المسؤولية على الحاضر...وهكذا يصبح كل ما يحدث في حاضرنا غير هام في المطلق، ولا بأس آنذاك من القتل والنهب والعدوان والتفاوت وكل الشرور التي يمكن لأفعالنا غير المسؤولة أن تنتجها، فالأهم ليس كامنا بيننا بل هو متمترس بين الماضي السحيق وبين المستقبل الماورائي في إحدى الجنتين: جنة السيد المسيح البروتستانتية أو الجنة الإسلامية بكاميرا محمد بن عبدالوهاب!
اليوم السابع
بدأ اليوم بظهور نتائج الانتخابات، وفوز المرشح الجمهوري دونالد ترمب، في حوار مع طلبتي بالجامعة اتضح لي ان شباب اليوم الذين هم إطارات الغد لا يهتمون بالسياسة أبدا، بعضهم له محركات دينية ويرى السياسة نجاسة وإفسادا للأخلاق، بعضهم يرى أننا لا نغير شيئا سواء انخرطنا في رحى السياسة ام لم نفعل، طائفة أنثوية كبيرة تمنت فوز هيلاري كلنتون لأنها امرأة...
قلت في دخيلتي : هم شباب لم يتلق أي تكوين في مدارس ورثت ذكريات العنف عن جزائر التسعينيات وتعودت على عد السياسة بابا من أبواب التعاسة لا طريقة للتدخل في العالم بهدف تحسين الظرف البشري، هم شباب خاضع لتصور الجيل السابق لطريقة تكوين الأجيال السابقة: في الشرق يعتمد من هم في دوائر الحكم والتخطيط السياسي (ودوائر الأمن خاصة) على تجهيل الجماهير وتعليمهم تعليما ماورائيا مشبعا بالغيبيات، بالخوف من الموت، بالانشغال بإحداثيات عن معطيات الحال، تعليم هدفه منع العقل عن الحركة وكبح كل إمكانية للتفكير أو الثورة، تحت راية الدين وعد كل الشرور والتعاسة المحيطة بواقعهم جزءا من القدر والدعوة إلى الصبر كعلاج للحياة التي هي حدث عابر يمهد للسعادة في الآخرة.
أما في الغرب فالمخطط الهادف إلى تنويم الجموع للحصول على ما يسميه ميشال فوكو « الأجسام الطيّعة» يمر بالتربية المدنية تحت عناوين مثل «الثقة في السلطة» و»صنمية الديمقراطية كأفضل إمكانيات التفكير في الشأن السياسي» وترفع لأجل ذلك لافتات تلبس الحق بالباطل: «نزاهة الدولة وطهارة الإدارة»و «الثقة المطلقة في الجهاز الحاكم بحكم كونه شرعيا بالضرورة» و» الاستقامة الاجتماعية» و»الاعتدال السياسي»و» الحرية الدينية»...وكلها عناوين جميلة وقيم مطلقة تمثل مواد فكرية مطاطية تفعل بها الأجهزة الحاكمة ما تشاء في الحدود التي تريدها، وتنتهي إلى أن تكون سياطا عديمة الرحمة في وجه كل فرد يحمل قيمة مضافة إلى هذا البناء الفكري/ العقيدي/ السياسي...وتصبح قيم الائتلاف التي خلقت لجمع الشمل آلية قوية طرح كل فكرة مختلفة، وينام الغربي سنوات ليستيقظ بلا أدنى إمكانية للتفكير في تغيير أي شيء كان بحكم القوة الفاشية للديمقراطية، وضيق صدر الفكر التحرري من كل فكرة حول الحرية...
........
في انتظار اسبوع جديد


الرجوع إلى الأعلى