كان يسحرنا بالصمت وبالكلام الملوّن

للكلام طعم آخر حين نتحدث عن الذين نحب لنقول رحيلهم الأبدي. قد نكذب حين نقول أن الفنان لا يرحل لأنه رحل فعلا أما ما عدا ذلك فمجرد هراء، تمارين فكرية يختلقها الإنسان كي يروّح عن نفسه أو حتى تستمر الحياة. رحل محمد الصالح غميرد الإنسان والفنان التشكيلي بالصمت وبالكلام. لماذا نتذكره اليوم وما الذي قدمه للناس حتى يستحق المطالبة بالتذكار؟

عبد السلام يخلف / جامعة قسنطينة

هكذا تتحدث الملائكة

بحوزتي أوراق كثيرة كتبها بخط يده الجميل ونسخة من بعض لوحاته في قرص مضغوط. بحوزتي أيضا الكثير من الصور التي أخذتها له في مناسبات وفي غير المناسبات. رحت أتفرج على آخر فيديو له ونحن نتحدث عن الفن في لقاء حضره الفنان التشكيلي عمار علالوش. قال أنه فقد مؤخرا فردين من العائلة. كان متأثرا بشكل كبير. بلحيته البيضاء وابتسامته التي لا تفارق الجلسة وبوهن جسدي ملفت هو الرجل الذي كان فارع الطول قوي البنية. أخرج كراسة وراح يتلو على مسمعيّ آخر نص كتبه يحمل عنوان «الإبداع والإبداعية». له قدرة كبيرة على تبسيط الأفكار المعقدة جدا وعلى فلسفة الأفكار التي تبدو لا خلفية عميقة لها. ساعدته أسفاره السابقة والكثيرة في التعرف على الأدب والفلسفة والقراءة والتمعن. الغربة أمّ الإبداع. في باريس تعرّف على الشعر: رامبو وفيرلين وبودلير أسماء يعرفها جيدا. يستطيع أن يتلو من الذاكرة نصوصا لا حد لها. محدث ماهر لكن عليك أن تصغي جيدا لأن حديث صالح يحمل خاصيتين أساسيتين: هو حديث مكثف عامر بالرمزية ثم إنه يأتيك بصوت خافت جدا كأنه الهمس. يقال، هكذا تتحدث الملائكة.
في جلسة مع الفنانين التشكيليين عمار علالوش، علي دعاس، حسان شرفي ولطيفة بولفول إضافة إلى المشاكس دائما كمال رحمة داخل قاعة قصر الثقافة مالك حداد كنت في المنصة وقدمت صالح غميرد بالجملة التالية: «هذا القانع المقتنع الهادئ الوفي دوما لذاته، صانع نقاط الاستفهام، عاش شبابه مستمعا إلى دروس الرسم والفن بالعاصمة باريس وفضل أن يسيح في الأرض الواسعة. من حين لآخر تأتيه صور من مدينة القل، من بعيد، كي تدغدغ ذاكرته وتملأ لحظات وحدته بالأغنيات القديمة ونشيد الأرض المقدسة. منذ ذلك الحين، منذ عودته إلى حضن الأرض، إلى سحرها، راح يملأ البياض، بياض اللوحات، باللون الذكي دون أن يسأل: ما الذي يقوله اللون؟ لا يقترح اللون أبدا أن يكون حاملا للحقيقة. حين يكون داكنا فهو يحكي دون تردد الروح والمدى المفتوح على الأبدية والفرح العابر والإنسان بكل بساطة».

الفن كآخر ملجأ

لم يكن محمد الصالح غميرد فنانا تشكيليا مند زمن بعيد. كان يتحدث عن الفن التشكيلي وعن فلسفة الألوان، عن علاقة الناس بالإبداع، عن تطور الأشكال التعبيرية وعن مدى إدراك الإنسان لكنْه العلاقة بين ما يبدعه الإنسان وما خلقه الله منذ الأزل. كان يعرف الفن تمام المعرفة. زار الكثير من المتاحف وارتاد الكثير من قاعات العرض وتحادث مع عشرات الفنانين التشكيليين وتخمر كل ذلك في مخيلته وبلغ الحد الذي أصبحت اللغة عاجزة عن التعبير وأصبحت سجنا يقبع بداخله ولم يعد قادرا على التواصل مع الآخرين الذين تخلوا عنه حين غادر منصب عمله العالي في إحدى المؤسسات الوطنية. بدأ يتعب صحيا ولا يفهم ما يحدث له ولحالته الاجتماعية. جاء الفن كآخر ملجأ. آخر وكر فر إليه صالح كي يقول آخر ما علق بالحلق من نشيد حزين. بدأ يجمع أفكاره ويتحادث كثيرا مع الفنان التشكيلي عمار علالوش الذي يسكن بالقرب منه في حي فيلالي وكذا الفنان محمد البشير بوشريحة الذي كان عونا له في لحظات الولادة العسيرة. تماما مثل الممثل العالمي أنطوني كوين الذي بدأ يرسم في سن متأخرة وأقام معرضا تشكيليا قائلا للجميع «كنت دوما أحب الرسم لكنني لا أجد الوقت لذلك» فعل محمد الصالح غميرد. بحكم عملي في الصحافة الثقافية في بداية التسعينيات وبحكم اهتماماتي الشخصية بالفن التشكيلي تقربت منه وتعرفت على أول اللوحات التي رسمها. كان جد سعيد وأحس بنوع من التحرر، كأنه الآن امتلك أداة يقول بها كل ما لم يقله في السابق. بحكم احتكاكه بالفنانين وخاصة عمار علالوش، راح غميرد يقلد أعمال هذا الأخير وطريقته في تناول المواضيع والإمساك بالريشة لكنه لم يخجل أبدا حين يذكره بخير.

السفر نحو الماضي

صالح يحسن الكلام عن الفن وها هو يقول في مداخلة عن الفنون التشكيلية بقصر الثقافة مالك حداد في جوان 2013: «الفكرة تأتي وتذهب ثم تتمحور حول مفهوم واحد يحمل معناها ويتعرض للترجمة والتأويل بفعل التداخلات اللغوية والمعرفية. في كثير من الأحيان يكون الحيز الفيزيائي محتكرا من طرف الآخرين، مغتربا، أما الحيز الفكري فيبقى ذاك الحقل الذي لا يمكن التقرب منه أو ملؤه إلا بواسطة قوة مبدعة خلاقة تقول جزءا من الكائن البشري، من الإنسان أو الروح. حين نجالس الفن التشكيلي فإننا نتعرض لحالات معرفية تقود إلى التساؤل لأن كل شيء يتشكل من الأحاسيس التي تفضي إلى بناء تلك الحاسة البدائية، إلى التعبير عن رغبتنا في التخلص من الهباء، من واقع همجي يحوّل نفسه إلى ألوان لا يتعرف عليها القارئ العادي.
للدفاع عن موقفنا كفنانين فإننا نتحول إلى كذابين مراوغين نخلق عالما غريبا يشبه السفر نحو الماضي، لأننا نقوم بالمشي نحو الخلف لمحاولة لقاء ما فات، ما تبدد للأبد، ما خفي من الروح وغمرته الظلمة، إلى ما لا يراه الآخرون وحتى إن رأوا جزءا منه فلن يتعرفوا على تفاصيل التراجيديا ومأساة العبور نحو الهاوية.
الحديث عن الرسم لا يكفي لشرح ما يعنيه هذا الفعل لأن الإنسان جزء من ثالوث هو الفنان والكلام والكتابة. عوض أن نكتفي بالنظر إلى ما هو موجود، هيا نتفرج على ما هو غير موجود كي نخرج من دائرة القلق وبؤرة التوتر. أن تكون فنانا يعني أن تتمكن من مشاهدة ما يحدث، من ترجمته إلى ألوان وخطوط وحركات تشكيلية، إلى نقل حياة الناس كأفراد وجماعات وكتمثيل لحضارة بأكملها. يتدخل الفنان في الفجوات كي يقدم مساهمة تملأ الفراغ وتقول الإبداع الآني الذي يتحول بعد هنيهة إلى بصمة خالدة في ذاكرة الأمة.
الفن التشكيلي قطعة مما أسماه كاتب ياسين «غنيمة الحرب» تمكننا من مخاطبة الآخر ومن بناء جسور بين بعضنا البعض، جسور اللون والمحبة». حينما قال محمد الصالح غميرد هذا الكلام لم يكن في القاعة سوى 5 أشخاص. ما أتعسنا. لا نصغي لمن يكتب ومن يرسم ومن يخاطبنا بلغة العقل. إلى أين سنذهب بكل هذه الحمولة؟ لن يجيبنا صالح لأنه مات.

لا أبحث في الحياة عن الأبهى

طريقته في الرسم تعتمد على تنافر الألوان وتكثيف العلاقة بينها. الخطوط تمتد ثم تنكسر تماما مثل أغنية فيها شيء من النشاز. هي الحياة بالنسبة له. الألوان وسخة في بعض الأحيان (الوسخ في عرف الرسامين هو أنك لا تمسح الفرشاة من لون ثم تغمسها في لون آخر مما يؤدي إلى تداخل الألوان) وهذا ما يعيبه عليه الفنان عمار علالوش لكن صالح يقول بصمته المعهود: الوسخ جزء من الحياة يا رجل. أنا لا أبحث عن الغريب في الحياة أو الأبهى بل أنقل ما هو موجود لكن يعجز الآخرون عن رؤيته. عصامي تمكن من السيطرة على سكينة الرسم بعد أن تدرب عليها الشهور الطويلة. جمعتني به ببيته الجلسات الطويلة وكؤوس الشاي التي ترافق حديثه عن الفن وتسكعه في شوارع باريس. كان يحن للكثير من الأشياء الحميمة التي كان يحدثني عنها بكل هدوء.
مواضيع لوحاته متعددة ولا تقف عند حد. قد تكون شجرة أو شارعا وقد تتعدى ذلك إلى أبعاد عميقة من الذات البشرية فيرسم الفرح (نادرا) والحزن (غالبا) والضياع والغربة والاستلاب والقهر والعنف. يبدأ بتنفيذ رسومات بقلم الرصاص (ولا أقل من ذلك) ثم ينقل جزءا منها على اللوحة الكبيرة وقد يتخلى عن الموضوع الأصلي كي يرسم شيئا آخر. الرسم بالنسبة له حرية ولذا يرى أن موضوع اللوحة يبقى معرّضا للتغير في أي لحظة.  
منذ 19 سنة أقيم معرض جماعي للفنون التشكيلية في مسرح قسنطينة شارك فيه محمد الصالح بلوحات تحمل عناوين «أبعد من الذكريات، مَيَلان، البحر والأرض، نظام بيئي، سفر، خصوبة...» وكان يبحث دوما عن المزاوجة بين الرسم والكتابة. في الورقة التي أمامي الآن، كتب محمد الصالح كلمة باسم الفنانين المشاركين، وباعتبار أن المعرض أقيم بمناسبة مرور 18 سنة على رحيل الكاتب الشاعر مالك حداد كانت الكلمة بلغة فرنسية راقية فيها من روحه ما يهديه بكل فخر لمالك حداد: «للذي اختفى مع كل ألوان النهار ثم عاد للظهور من جديد مع كل عذوبة الفارق بينها. كان يحب قسنطينة ولذا فإننا نحبه. واليوم نهديه بكل تواضع أشياءنا البسيطة هته والتي تغطيها جبال كلماته، كلماته التي تركها لنا، صمته الملون الذي رسم خطا على وجوه الملائكة». هل أقول أن ذلك ينطبق تماما على محمد الصالح غميرد الذي عبّر باللون عن الشعر وقال الشعر بالخطوط والقوافي بتناسق الألوان؟ نعم وبكل اعتزاز.
لا أتذكر صالح إلا وتذكرت طريقته في الكلام فهو يقترب جدا من محدثه ويمسك بثيابه كي يقول العلاقة الحميمة. لن أنسى أبدا تلك اللوحة التي كتب بجانبها جملة قاتلة تحكي التغير الذي يحدث في محيطنا الفيزيائي وعدم احترامنا للنباتات والأزهار والتخريب الذي تعرض له ذوقنا عبر الزمن. في اللوحة رجل مع حماره وسط المدينة، الحمار يتغذى على حشيش الحديقة العمومية، الجملة تقول: «كان الشيخ متعبا ولم يستطع الوقوف في وجه الحمار الذي راح يلتهم آخر نتف الحضارة».
كان يبتسم كلما حدثته عن هذه الجملة، وها هو يبتسم الآن.

الرجوع إلى الأعلى