حكايات قرية للبيع و الزينة  وعبد الحميد بن باديس
ما كان هدفها يوما سوى تدريس القرآن الكريم. لا مكان لأي كلام هنا عن الشعوذة أو الطقوس العجيبة والغرائبية ولحس السكاكين المحمرّة الساخنة أو المشي على الجمر. القرآن يملأ زوايا المكان وقلوب المرتادين.
عبد السلام يخلف / جامعة قسنطينة
تأسست الزاوية عام 1730. هي حيّز للعائلة التي راحت تعتني بهذا المعلم جيلا بعد جيل. عمّار الجدّ الأول، الأكبر، بنى هذه البناية المتواضعة والتي كان قلبها دوما عامرا بالإيمان، لكنها رغم ذلك لم تصمد أمام بطش الطبيعة ولذا تم ترميمها من طرف الأسرة مرات عديدة. المكان يروي حكاياته على لسان الحاضرين الذين تداولوا القصص وحافظوا على الذاكرة. الزاوية موجودة بالقرب من قرية الركنية التي لها حكاية.
الركنية التي تنعم اليوم بالحرية دخلت التاريخ جراء اهتمام مجلة باري ماتش بما حدث فيها. كانت قرية في يد المستعمرين الذين تعرضوا لهجمات قاتلة من أسود المقاومة. قرر الأقدام السوداء بقيادة «كابو» نائب «المير» بيعها فوضعوا في فيفري 1956 في جريدة «لاديبيش» بقسنطينة لافتة إشهارية تقول «قرية للبيع». أنهكتهم ضربات المجاهدين الجزائريين الذين لم تمنحهم فرنسا سوى الجبال والأحراش كسكن. جلب الكولون اهتمام الإدارة الفرنسية التي باشرت بالاهتمام بالقرية وبسكانها. انتهى الحلم الكاذب في 1962 حين استرجعها أهلها.  لن تكون للبيع أبدا بعد أن رحل منها الغزاة.
اليوم نعبر الطريق في التقاطع بين قسنطينة وقالمة وسكيكدة هناك في الأعالي على ارتفاع ألف متر، نعبر قرية الركنية كي نتوجه نحو الجبال التي خلدت تاريخ أبطالها لكن كي نحط في مكان جميل يحمل في جنباته الإيمان والكثير من الحكايا التي تعمّر شقوق الأرض الحنون. الجد الأكبر هو الذي بناها واختار لها هذا المكان كي تكون أقرب إلى السماء. تخصصت الزاوية الرحمانية في تدريس القرآن وتحفيظه وكان يرتادها الأطفال من كل مكان، من سكيكدة وقالمة وعزابة وغيرها من المدن المجاورة. حكمتها أنها كانت مجانية للجميع بحيث يدرسون ويسكنون فيها أي في الغرف التي كانت محاذية لها. في نهاية السنة كانت تنظم حفلة كبيرة في الزاوية، يأمر الجد بذبح الخرفان ويقيم حفلة «الختم» والتي تنتهي بفرح كبير ومكافأة النجباء ومغادرة الأطفال إلى منازلهم. واظب الجد على منواله ذاك واستمرت العائلة في القيام بنفس العمل النبيل.
حين مرت الجزائر بسنوات العشرية السوداء غادر المرتادون الزاوية وتوقفت عن تدريس القرآن لكن الأسرة لم تتوقف أبدا عن تنظيم «الوعدة» بحيث كانت تتم بتسريح من مصالح البلدية وبحراسة من طرف الدرك الوطني. ما بقي من عادات زال ما عدا تمسك العائلة بإقامة «الزردة» في كل صيف. تيمّنا وتبرّكا بما كان من مجهود لتحفيظ القرآن للأجيال الذين توافدوا على هذا المكان الذي أصبح محجة للمريدين ومرتعا للعابرين.
يقول معطى الله عبد الرزاق معلم متقاعد، أن عدد الطلبة قبل التسعينيات بلغ ستين طالبا مقيما بالزاوية. كل التكاليف كان يتكفل بها أكبر أفراد العائلة وهو «عبد المجيد معطى الله» الذي توفي عام 1994 رحمه الله. يبدو أن قلبه العامر بالإيمان لم يستحمل التغيرات التي حدثت في تلك المرحلة. يقول عبد الرزاق: «يحز في نفسي أن أرى المكان مهجورا و لا أسمع صدى أصوات الأطفال وهم يرتلون القرآن ويؤثثون المكان. آتي كل يوم كي أزرع فيه بعض الحياة و أنصرف بعد صلاة العصر». يضيف له الحاج معطى الله: «نحافظ على نظافة الزاوية ونحرص على تكافل الأسرة. كل ما يحدث هنا فهو بفضل أعضاء الأسرة و لا نطلب شيئا خارجها».
الزردة كل سنة. كنا هناك. يتم تنظيم عشاء بالكسكسي ولحم الخروف أو البقر ثم بعد صلاة العشاء تبدأ طقوس إيمانية لا تتعدى الذكر والتسبيح وتلاوة القرآن. بدأ الحاضرون يتقدمون من ساحة الزاوية التي بها ضريح «الحاج عمار معطى الله». أخذ البعض من المعتادين أماكنهم وأشعلوا كاميرات هواتفهم النقالة. جلس أفراد العائلة في البهو متحدثين بالإشارات إلى بعضهم البعض وإلى القائمين على الأمسية. تحلق الناس وبدأنا نسمع المدائح تردد من طرف الرجال الذين اصطفوا في شكل فرقة رحابة. يمينا وشمالا، يرددون جماعيا نصوصا معتقة سكنت الحناجر منذ مئات السنين. تستمرّ السهرة إلى مطلع الفجر. تقام صلاة الصبح جماعة بالزاوية وبعد الفطور ينصرف الناس كل إلى حاله على أمل اللقاء السنة القادمة.
يقول عبد الرزاق: «هي فرصة لجمع شمل العائلة في يوم واحد كي يشهدوا أيضا التحولات التي نلحقها من حين لآخر بالزاوية. في السابق كان المكان يضم الزاوية وغرفة كبيرة لمبيت الطلبة، أما اليوم فقد أضيف إليها في 2003 مسجد للصلاة». يضيف قائلا: «حين توفيّ والدي في 2003، اجتمعت العائلة بكامل أفرادها للصلاة ورأى الجميع أنه لم يعد في وسع الساحة إيواءهم فاقترح ابن عمي الكبير فكرة طيبة: كل فرد من أفراد العائلة يقدم أجرة شهر كاملة غير منقوصة. قبل الجميع الفكرة واستحسنوها. جمعنا قيمة مالية مكنتنا من بناء المسجد وسور قصير يحيط بالزاوية». يضيف الحاج معطى الله الذي يتكئ على عصاه بعد وهن ركبتيه: «الصعب في العملية هو ترميم القبة. قمنا بإزالة مواد البناء القديمة الهشة وأعدنا تشكيلها وتقوية جوانبها وأساساتها بكل أنواع الرمل والخرسانة. كنت أصاب بالهلع حين تهب الرياح قوية. أنهض من نومي فزعا ظنا مني أن الزاوية ستنهار. من بيتي بالركنية، أتنقل إلى هنا كي أطمئن عليها وأشكر الله أن منحها القوة كي تصمد في وجه الريح. تذهب عني الغمة وأعود إلى الدار. للأسف هناك من الناس من حرّض البنائين كي يتوقفوا عن العمل فيها لكن الله كان معنا وها نحن اليوم نقدمها للزوار نظيفة آمنة إن شاء الله. بعد موتي سأكون مطمئنا لأن الزاوية صلبة في أيد صالحة».
من خريجي الزاوية بعض شخصيات القرية ومنهم عبادلة الطاهر وشريّط الصادق، إمامان مدرّسان بمسجدي الركنية الأسفل والأعلى. من أفراد الأسرة من هو اليوم مقدم في الجيش كان حفظ الستين حزبا في هذه الزاوية التي لها اليوم جمعية تسمى باسمها لكن الشيخ الكبير رفض تجديد اعتمادها كما رفض تلقي أي تمويل من أي جهة كانت. الجميل أن المؤسسات البلدية قامت بإصلاح الطريق المؤدية إلى الزاوية وحفر بئر الشيء الذي ساعد على تنظيف المكان وإعادة بث الحياة فيه من جديد.
أسأل الحاج معطى الله عن قديم الاحتفالات في الزاوية وكيف كانت تتم سابقا. «هلا رجعت بالزمن إلى أقدم نقطة تتذكرها». يقول: «كان مهرجانا مدهشا. يتجمع الناس من كل مكان وعلى مسافة تبلغ كيلومتر ونصف يصطفون كي يتفرجوا على «الفنطازية» ولعب الخيالة. كان حلمي هو المشاركة في تلك السباقات وركوب الخيل. في أواخر الستينات كنت ما أزال على مقاعد الدراسة بمدينة الحروش وفي أحد الأيام تلقيت رسالة من والدي رحمه الله يقول فيها بالمختصر أنه اشترى لي فرسًا من الخروب وسرجًا من السويقة. اسم الفرس «زينة». لم أنم تلك الليلة في انتظار يوم الخميس ومغادرة المدرسة ولقاء زينة. حين دخلتُ الضيعة رأيتُ زينة. لونها «حجر الواد» أي بيضاء وفيها دوائر صغيرة رمادية اللون. بطنها من أشد ما رأيت، لا ترهّل ولا وهن بها. حين يبدأ السباق وتسمع زينة العرس ويصل أذنيها صوت الزرنة، تبدأ بضرب الأرض بحوافرها وإثارة الغبار. و إن طال بها الانتظار تجد تحت حوافرها حفرا كبيرة «مطمورة» تدل على غضبها. هدأتُ روعها المرة الأولى وأطلقتُ البارود وهي تحملني مثل الريح ومنذ ذلك الحين صرنا صديقين في الفنطازية. تمشي في دلال منتبهة للتفاصيل. كانت متعة مصادقتها وركوبها شيئا خرافيا».
شيخ الزاوية عبد المجيد الذي توفي عام 2004 عن عمر ناهز 84 سنة، تتلمذ على يدي الشيخ عبد الحميد بن باديس وكان مجتهدا. يركب بغلة ثم يتركها في مدينة واد زناتي لدى أشخاص يعرفون أهل الزاوية. يستقل القطار إلى قسنطينة. تحدى كل الصعوبات من أجل التعلم.
يقول الحاج معطى الله: «هذا الشيخ كان يملك سرا لم يقله لأحد غيري. قال أنه حين مرض عبد الحميد بن باديس مرض موته، بعث بشخص إلى هذه الزاوية كي يخبر الشيخ صالح (والد عبد المجيد) بأن حالته خطيرة وعلى أهل الزاوية أن يصلوه قبل فوات الأوان. وصل إلى قسنطينة، زار بن باديس ويقول: لفظ بن باديس أنفاسه الأخيرة وهو يرقد فوق ذراعي الأيمن. قبل أن يموت قال جملة خالدة لا يعرفها سوى أولئك الذين حضروا تلك اللحظات. يقول عبد المجيد: قال بن باديس «هلا رفعتموني فأنا أريد أن أموت واقفا».
علاقات شيوخ الزاوية ببن باديس منحت الزاوية فرصة كي تدافع فقهيا عن نفسها في وجه كل من يتطاول بالقول على أنها حرام. هناك رسالة كانت تملكها الزاوية بعث بها بن باديس إلى شيخ الزاوية يطلب منه الحفاظ على الزاوية وإرثها.قال: «للزاوية «كراماتها». حين جاء جدنا الأول من الصحراء وبالضبط من آفلو وله علاقات مع عرش أولاد جلال، وأراد بناء الزاوية هنا، جاء شخص ورفض ذلك فقال له جدنا: سننتظر الغد. إذا طلع النهار تعال واطلب مني هذا وسأنصرف للأبد أما إذا لم تأت، فتلك حكاية أخرى. الذي حدث هو أن ذلك الشخص توفي في تلك الليلة ولم يعترض أحد على بناء الزاوية». أذن لصلاة العشاء، تركنا الحاج معطى الله كي ينصرف ويستقبل ضيوفه الذين يلتحقون تباعا من كل مكان قائلا: «كل من يعرف الجملة الأخيرة التي قالها بن باديس وهو يموت واقفا، يعرفه حقا ويحبه. هذا سرّ جميل أعتزّ به». مع دفات البندير، بدأت التهاليل والأناشيد الدينية التي يحفظها السكان عن ظهر قلب. جلس بعضهم فوق الزرابي وبعضهم فوق الكراسي. «يا ربي أنت مولايا / أصحاب النية...» وغيرها. خيمت الظلمة في ضاحية الركنية ما عدا في بهو هذا الضريح. دارت كؤوس الشاي وفناجين القهوة. وجاء الصباح. انصرف كل إلى حاجته بعد أن تناولوا جرعة من الفرح. زيارتكم مقبولة وموعدنا السنة القادمة.
ع.ي

الرجوع إلى الأعلى