يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي يبقى، لذلك صارت استراتيجيات التّواصل تُبنى على عبارات يوصى بإلقائها وسط موجة الكلام، في حملات الانتخابات وفي الخُطبِ والتدخلات في وسائل الإعلام أو على مواقع التواصل. عبارة واحدة، هي حصانُك الذي يصونك، هذا ما يقتضيه وضع الإنسانيّة في صِيغتها الحديثة، المُرقمنة.

لا يحتاج المتحدّثُ إلى خلفيّة معرفيّة كي يكون بارعًا، يحتاج فقط إلى اصطياد جملة قابلة للرّواج، لغرابتها أو لطرافتها أو لوقاحتها، وفق بروتوكولات حكماء الميديا الجديدة. هذه القاعدة القاسيّة ستنسحبُ على وسائل الإعلام التي وجدت نفسها مُجبرة على انتهاج أسلوب الخفّة والجنوح نحو الطرافة التي تجعلها مُتاحة في سوق المرئيات، وعلى المشتغلين في حقل السيّاسة، حيث يعرف العالم  اليوم اختفاء السّاسة المثقفين وظهور جيل جديد من "الظّرفاء" على أحصنة الكترونيّة، بخطابات شعبوية تتغذى على الإثارة والعنصريّة والاستفزاز، تدوس في طريقها كل ما راكمته الإنسانيّة في قرونٍ، من قيّم هي نتاج تجارب الحروب والسلم والصّراعات والتفاهمات، وبرز بينهم مُؤثرون ومثليون ودعاة نقاء عرقي، باتوا يحتلّون مواقع قيّادية في دول وازنة، استهلوا المسيرة بإشعال مواقع التّواصل، وليس مستبعدا أن ينتهي بهم الأمر إلى إحراق العالم.
ولم يسلم الكتّاب والفلاسفة من أحكام القاعدة، حيث باتوا ينزلون إلى السّوق المذكور للتخفّف من الحمولة التي لا تلائم العصر والأوان، والتشبّه بصنّاع المحتوى طلبًا للمشاهدات، يروّضون أنفسهم على مشهديّة تحوّل المبدع والمفكّر إلى قردٍ الكتروني!
هذه الظاهرة تعولمت، ودفعت بكثير من كتّابنا إلى الخروج عن رصانتهم والشروع في تسلّق الأشجار، طلبا لمجدٍ لم تعد تتيحه اللّغة  أو لمتعة جديدة لا يوفرها الإبداع  أو لتفاعلٍ لا يقوم به القراء القدامى الذين يكتفون بالتهام الكتب، ولا ندري كم سيبقى، بعد سنواتٍ قليلةٍ، من الصّامدين في اللّغة وكم سيصعدون إلى الشّجرة.
تضغط الحضارة "الحاليّة" الحياة وتختصرها وتستخلص النزعات البدائيّة منها و تدفعها إلى الواجهة، وهكذا يعود المفترسون بدوافع قديمة ورماحٍ ذكيّة، وقد لا يكفي الانتباه لتجنب الأذى أو فقدان الصّفات الإنسانيّة. 

سليم بوفنداسة

    • صعلكة

        أصبح "خطاب الحق" عنوان ضعفٍ في عالم اليوم الذي باتت تتحكّم في مفاصله قوى ولوبيات لا تبالي بالقوانين ولا بالمبادئ التي راكمتها الإنسانيّة في خروجها الفاشل من الصّراعات الدموية. بل إن "التصعلك" تحوّل إلى ما يشبه العرف في العلاقات الدولية،...

    • ضرورة التفكير في المجتمع

        سليم بوفنداسة انتفض المجتمع المدني في ولاية خنشلة ضدّ "الراقي الزائر"، الذي أثار الجدل على مواقع التواصل، ودعا السلطات لفتح تحقيق حول قيّامه بنشاط غير مرخص، في مبادرة حضاريّة تكشف عن وعي الجمعيّات وتحمّلها مسؤوليّة التصدي لآفات ظلّت لفترة...

    • المخفيّ

      حين مات محمد ديب لم تجد وسائل الإعلام الوطنيّة، مادة سمعية بصريّة عن الكاتب تقدّمها للجمهور، كان ذلك سنة 2003، أي قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وكان محمد ديب أكبر كاتبٍ جزائري، عاش عمرًا مديدًا يكفي لاستدراجه إلى توثيق يخدم...

    • اختراق

      شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب المدمرة على غزة، تسخير ذباب إلكتروني لتسفيه الخطابات المؤيدة للفلسطينيين، ويمكن أن نقرأ ما يندى له الجبين في تعليقات عربيّة على الجهود الدبلوماسيّة لوقف المذبحة، أو على التضامن مع الضحايا، حيث...

    • خِفّـــة

      يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي يبقى، لذلك صارت استراتيجيات التّواصل تُبنى على عبارات يوصى بإلقائها وسط موجة الكلام، في حملات الانتخابات وفي الخُطبِ والتدخلات في وسائل...

    • وصفُ السّعادة!

      تجري الحياة في فضاءات أخرى وليس على المُستطيل الأخضر، رغم المُتعة التي توفرها كرة القدم، باعتبارها مسرح فرجةٍ في عصرنا، يلتقي فيه الشغف الكونيّ. صحيحٌ أنّ هذه اللّعبة، تجاوزت حدود الرياضة بعد ظهور "المستثمرين" والتجّار من باعة...

    • القيمة والشّعار

      يخترقُ المنتوج الثقافيّ الحدود واللّغات، بجودته أولًا وأخيرًا، وقد يفوق تأثيره التوقّعات، لذلك استغلّت بعض الأمم المُتصارعة على المسرح الكونيّ الفنون لتمرير رسائل تستهدف وجدان البشر و تستدعيه في لعبة استدراج و تماهٍ، عبر صوغ...

    • كبارُ "الباعة"!

      سخر كمال داود من الصّفة التي يطلقها العرب والمسلمون على ضحايا العدوان الهمجي على غزّة، ووجد الوقت والمتعة للتّنكيل اللّغوي بمنكّل بهم في الواقع، لكنّ اللّغة ستخونه، قطعًا، في وصف القتلة، لأنّ حريّته تتوقّف عند جثث الضحايا،...

    • مقبرةُ جماعيّة للإنسانيّة

      في هذه الأرض المزدحمة، حيث يتعايش الأحياءُ والموتى، تُحفر القبور على عجلٍ في الأسواق السّابقة والأرصفة السابقة، لا أزهار هنا في وداع النّازلين إلى ترابهم من حياة، هي مجرّد استراحة بين ميتات مُختلفة. قد يُسرف القتلى في النوم حيث...

    • في وصف الشّر

      تدفعُ المقتلةُ الجاريّة هذه الأيّام ومحاولات تأويلها وتغطيّتها نحو التفكير في "الشّر"، ليس كمصطلح خاضت فيه الفلسفات، ولكن كعنوانٍ بديعٍ لعصرنا الذي صدّقنا أنّه يشهد ذروة تطوّر الإنسانيّة، في العلوم والمعارف وفي النظم السيّاسيّة...

    << < 1 2 3 4 5 > >> (5)
الرجوع إلى الأعلى