لم تكن فاطمة المرنيسي في حاجة إلى قاموس النسوية كي تهجو «الذكر الغالب»، بل أنها لم تكن في حاجة إلى الهجاء، أصلا، لأنها اختارت من البداية التشريح العلمي للبنى والأنساق التي حوّلت المرأة إلى مجرد أداة، فنقّبت في التواريخ السحيقة وعبرت ثقافات بمشرطها، و وضعت أصدقاء لها، فنانين ومثقفين مرموقين على سرير التحليل النفسي، وفحصت آثارا فنية لتصل إلى نتيجة زلزلت اليقين السائد الذي يخصّ الشرق وحده باستعباد المرأة، نتيجة تقول أن وباء الذكورة مرض عالمي، تتفاوت أعراضه بين الثقافات، فالفنان الغربي يحمل المرأة إلى حمّام ألوانه وكذلك يحبّها المتلقي المثقف، وكان يكفي أن تصاحب عالمة الاجتماع  الشرقية مثقفين غربيين إلى معارض فنية كي تكتشف  شهريار النائم في أعماق الرجل الأبيض كما بيّنت في كتابها «شهرزاد ترحل إلى الغرب»، كما أبرزت في «هل أنتم محصّنون ضد الحريم» أساليب الرق المستحدثة التي تجعل المرأة تنحت حتى جسدها على خيال الرجل الكريم.
لقد أحرجت المرنيسي الكثير من المثقفين العرب الذين يرون الكمال والخلاص في النموذج الغربي، لأنها ببساطة نقّبت في العمق  وفحصت اللاوعي الجمعي، ولم تكتف بقراءة الفلاسفة الرائجين والصحف!
وكذلك فعلت حين مسحت الغبار عن «السلطانات المنسيات» لتؤكد أن وصول المرأة إلى مراكز القيادة السياسية  ليس سبقا غربيا.
بل أن هذه العالمة الفذة جعلت من الثقافة والمجتمعات الغربية موضوعا للدراسة ، وقدمت تحليلا نفسيا للإنسان الغربي أسقطت بموجبه كل الأقنعة و تلك الهالة الأسطورية  التي روّجتها الخطابات الكولونيالية وما بعدها، وتلقفها المثقف والباحث العربي الذي يستهلك الأفكار بنفس الثقة التي يستهلك بها السلع المستوردة وبنفس الاعتزاز، معفيا نفسه من الإنتاج والإسهام وحتى من الانتباه.
نجحت المرنيسي في تشخيص حالة المجتمعات العربية الإسلامية بأدواتها الخاصة، و كانت وسيطا نزيها بين الثقافات هي التي تنقلت بين اللغات، ويعد غيابها اليوم خسارة تبدو غير قابلة للتعويض في مناخ  تقل فيه فرص ظهور علماء من طينتها و في ظرف عصيب تتقاسم فيه القوى الاستعمارية  والأصوليات الدينية والعسكرية عمليات مراجعة الخرائط والطبائع وتتولى عملية صناعة إنسان عربي  قابل للانفجار و التبشير بمجتمعات جديدة تجمع بين الممارسات البدائية ونفايات الحداثة.

سليم بوفنداسة

 
    • قطارُ الباطل

      سلّطت الاحتجاجاتُ الطلابيّة في الولايات المتحدة الأمريكيّة الضوء على هيمنة اللّوبي الصهيوني على الجامعات ومراكز البحث، سواء من حيث الاستثمارات والشراكات أو التمويل والتبرّعات التي تهدف إلى الهيمنة والسيطرة على القرار، وهو ما...

    • صعلكة

        أصبح "خطاب الحق" عنوان ضعفٍ في عالم اليوم الذي باتت تتحكّم في مفاصله قوى ولوبيات لا تبالي بالقوانين ولا بالمبادئ التي راكمتها الإنسانيّة في خروجها الفاشل من الصّراعات الدموية. بل إن "التصعلك" تحوّل إلى ما يشبه العرف في العلاقات الدولية،...

    • ضرورة التفكير في المجتمع

        سليم بوفنداسة انتفض المجتمع المدني في ولاية خنشلة ضدّ "الراقي الزائر"، الذي أثار الجدل على مواقع التواصل، ودعا السلطات لفتح تحقيق حول قيّامه بنشاط غير مرخص، في مبادرة حضاريّة تكشف عن وعي الجمعيّات وتحمّلها مسؤوليّة التصدي لآفات ظلّت لفترة...

    • المخفيّ

      حين مات محمد ديب لم تجد وسائل الإعلام الوطنيّة، مادة سمعية بصريّة عن الكاتب تقدّمها للجمهور، كان ذلك سنة 2003، أي قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وكان محمد ديب أكبر كاتبٍ جزائري، عاش عمرًا مديدًا يكفي لاستدراجه إلى توثيق يخدم...

    • اختراق

      شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب المدمرة على غزة، تسخير ذباب إلكتروني لتسفيه الخطابات المؤيدة للفلسطينيين، ويمكن أن نقرأ ما يندى له الجبين في تعليقات عربيّة على الجهود الدبلوماسيّة لوقف المذبحة، أو على التضامن مع الضحايا، حيث...

    • خِفّـــة

      يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي يبقى، لذلك صارت استراتيجيات التّواصل تُبنى على عبارات يوصى بإلقائها وسط موجة الكلام، في حملات الانتخابات وفي الخُطبِ والتدخلات في وسائل...

    • وصفُ السّعادة!

      تجري الحياة في فضاءات أخرى وليس على المُستطيل الأخضر، رغم المُتعة التي توفرها كرة القدم، باعتبارها مسرح فرجةٍ في عصرنا، يلتقي فيه الشغف الكونيّ. صحيحٌ أنّ هذه اللّعبة، تجاوزت حدود الرياضة بعد ظهور "المستثمرين" والتجّار من باعة...

    • القيمة والشّعار

      يخترقُ المنتوج الثقافيّ الحدود واللّغات، بجودته أولًا وأخيرًا، وقد يفوق تأثيره التوقّعات، لذلك استغلّت بعض الأمم المُتصارعة على المسرح الكونيّ الفنون لتمرير رسائل تستهدف وجدان البشر و تستدعيه في لعبة استدراج و تماهٍ، عبر صوغ...

    • كبارُ "الباعة"!

      سخر كمال داود من الصّفة التي يطلقها العرب والمسلمون على ضحايا العدوان الهمجي على غزّة، ووجد الوقت والمتعة للتّنكيل اللّغوي بمنكّل بهم في الواقع، لكنّ اللّغة ستخونه، قطعًا، في وصف القتلة، لأنّ حريّته تتوقّف عند جثث الضحايا،...

    • مقبرةُ جماعيّة للإنسانيّة

      في هذه الأرض المزدحمة، حيث يتعايش الأحياءُ والموتى، تُحفر القبور على عجلٍ في الأسواق السّابقة والأرصفة السابقة، لا أزهار هنا في وداع النّازلين إلى ترابهم من حياة، هي مجرّد استراحة بين ميتات مُختلفة. قد يُسرف القتلى في النوم حيث...

    << < 1 2 3 4 5 > >> (5)
الرجوع إلى الأعلى