حُمّل ابن باديس فوق ما يحتمل وأصابه ما أصاب غيره من الشخصيات التي أتى البعد الرمزي لها على بقية الأبعاد، حيث جرت سيرته على ألسنة خطباء وساسة ودارسين لم يدرسوا وإعلاميين ورجال دين ومنشطي حفلات، وتحول الرجل بمرور الزمن إلى “صنم” يقول عنه من شاء ما يشاء.
نزعة الأسطرة التي جنت على ابن باديس جنت على غيره من صنّاع التاريخ والعلماء في تاريخنا القريب، في غياب تقاليد علمية تضع كل شخصية في إطارها الصحيح بلا زيادة أو نقصان، خصوصا عندما يتعلق الأمر بشخصيات يمكن فحص تاريخها من خلال وثائق متوفرة.
والملفت أن الدراسات العلمية الجادة لا تجد الصدى الذي تجده مقالات صحفية أو تصريحات تنشد الإثارة بل وحتى كتابات تصدر عن مجهولين على شبكات التواصل الاجتماعي، حيث يستطيع أي شخص أن يصدر أحكاما من علو ثمانين سنة أو أكـثـر على وقائع  لا يحيط بالظروف التاريخية التي جرت فيها، وقد يعتمد معايير راهنة في ذلك.
وفي حالة ابن باديس فقد اكتشفنا في السنوات الأخيرة أصوليته
 و اندماجيته  ووهابيته ومهادنته للاستعمار وقبل ذلك أنزل مكانة القديسين والأنبياء،  حيث يجري إسقاط وضعيات حالية على نشاطات قام بها في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. والأمر هنا لا يتعلق بمرافعة لصالحه أو ضده، ولكن بدعوة إلى عمل تاريخي علمي لا يبنى على مواقف مسبقة في مقاربة السيّر والوقائع.
فالوثائق التاريخية تقول أن الرجل تعاون مع شيوعيات قسنطينة وناضل من أجل تعليم النساء وتحاور مع الكتاب الفرنسيين وتعاطف مع اليساريين، و شهادات أقاربه ومقربيه تقول أنه كان يمزح ويمرح ويذهب إلى جبل الوحش ويسافر!
ووضعية عائلته كانت تعفيه من النضال لو أنه قام بما قام به طلبا لمكانة أو آمن بجزائر فرنسية. و حتى حين نعتمد المعايير المعاصرة فإننا سنجد أن الرجل كان سابقا لعصره حين انخرط في العمل المدني من خلال النشاط التطوعي لجمعيته.
لا يحتاج ابن باديس إلى من يدافع عنه بألفاظ  عنيفة وهو الذي عفا عن شخص حاول قتله تنفيذا لأمر “شيخه” ولا يليق أن يتحوّل إلى سجل تجاري مفتوح، و أحسن طريقة لتكريمه اليوم هي محاربة ما حاربه: محاربة الجهل والشعوذة وقد ازدهرا!

سليم بوفنداسة

    • صعلكة

        أصبح "خطاب الحق" عنوان ضعفٍ في عالم اليوم الذي باتت تتحكّم في مفاصله قوى ولوبيات لا تبالي بالقوانين ولا بالمبادئ التي راكمتها الإنسانيّة في خروجها الفاشل من الصّراعات الدموية. بل إن "التصعلك" تحوّل إلى ما يشبه العرف في العلاقات الدولية،...

    • ضرورة التفكير في المجتمع

        سليم بوفنداسة انتفض المجتمع المدني في ولاية خنشلة ضدّ "الراقي الزائر"، الذي أثار الجدل على مواقع التواصل، ودعا السلطات لفتح تحقيق حول قيّامه بنشاط غير مرخص، في مبادرة حضاريّة تكشف عن وعي الجمعيّات وتحمّلها مسؤوليّة التصدي لآفات ظلّت لفترة...

    • المخفيّ

      حين مات محمد ديب لم تجد وسائل الإعلام الوطنيّة، مادة سمعية بصريّة عن الكاتب تقدّمها للجمهور، كان ذلك سنة 2003، أي قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وكان محمد ديب أكبر كاتبٍ جزائري، عاش عمرًا مديدًا يكفي لاستدراجه إلى توثيق يخدم...

    • اختراق

      شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب المدمرة على غزة، تسخير ذباب إلكتروني لتسفيه الخطابات المؤيدة للفلسطينيين، ويمكن أن نقرأ ما يندى له الجبين في تعليقات عربيّة على الجهود الدبلوماسيّة لوقف المذبحة، أو على التضامن مع الضحايا، حيث...

    • خِفّـــة

      يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي يبقى، لذلك صارت استراتيجيات التّواصل تُبنى على عبارات يوصى بإلقائها وسط موجة الكلام، في حملات الانتخابات وفي الخُطبِ والتدخلات في وسائل...

    • وصفُ السّعادة!

      تجري الحياة في فضاءات أخرى وليس على المُستطيل الأخضر، رغم المُتعة التي توفرها كرة القدم، باعتبارها مسرح فرجةٍ في عصرنا، يلتقي فيه الشغف الكونيّ. صحيحٌ أنّ هذه اللّعبة، تجاوزت حدود الرياضة بعد ظهور "المستثمرين" والتجّار من باعة...

    • القيمة والشّعار

      يخترقُ المنتوج الثقافيّ الحدود واللّغات، بجودته أولًا وأخيرًا، وقد يفوق تأثيره التوقّعات، لذلك استغلّت بعض الأمم المُتصارعة على المسرح الكونيّ الفنون لتمرير رسائل تستهدف وجدان البشر و تستدعيه في لعبة استدراج و تماهٍ، عبر صوغ...

    • كبارُ "الباعة"!

      سخر كمال داود من الصّفة التي يطلقها العرب والمسلمون على ضحايا العدوان الهمجي على غزّة، ووجد الوقت والمتعة للتّنكيل اللّغوي بمنكّل بهم في الواقع، لكنّ اللّغة ستخونه، قطعًا، في وصف القتلة، لأنّ حريّته تتوقّف عند جثث الضحايا،...

    • مقبرةُ جماعيّة للإنسانيّة

      في هذه الأرض المزدحمة، حيث يتعايش الأحياءُ والموتى، تُحفر القبور على عجلٍ في الأسواق السّابقة والأرصفة السابقة، لا أزهار هنا في وداع النّازلين إلى ترابهم من حياة، هي مجرّد استراحة بين ميتات مُختلفة. قد يُسرف القتلى في النوم حيث...

    • في وصف الشّر

      تدفعُ المقتلةُ الجاريّة هذه الأيّام ومحاولات تأويلها وتغطيّتها نحو التفكير في "الشّر"، ليس كمصطلح خاضت فيه الفلسفات، ولكن كعنوانٍ بديعٍ لعصرنا الذي صدّقنا أنّه يشهد ذروة تطوّر الإنسانيّة، في العلوم والمعارف وفي النظم السيّاسيّة...

    << < 1 2 3 4 5 > >> (5)
الرجوع إلى الأعلى