استثمرت منصات رقمية للبث التدفقي بقوة في عادات التلقي الجديدة التي شكلتها التكنولوجيا الحديثة، وذلك طوال الموسم الرمضاني 2024، وذلك مع تعاظم تأثير وسائل التواصل التي خلقت توجهات مختلفة بعد توفيرها مضامين متنوعة لإرضاء كل الشرائح، عكس التلفاز الذي يقترح على مشاهديه قائمة برامج محددة تحتكم لمواقيت عرض بعينها، مقابل استراتيجيات برامجية مختلفة
على منصات البث التدفقي التي تعمق الارتباط بالمنصة وتحافظ على المشاهد لأطول فترة ممكنة، كالمشاهدة بدون انقطاع، أو المشاهدة الشرهة، وتقديم أعمال ذات جودة تقنية وإخراجية.

إيناس كبير
تغيرت ثقافة استهلاك الترفيه بانتشار ظاهرة منصات البث التلفزيوني في منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بعد الطفرة التي حققتها منصات عالمية مثل « نتفليكس»، وعلى إثرها ظهرت أخرى عربية  كمنصة             « شاهد» أصبحت تنافس التلفاز في تقديم محتوى فريد ومتميز، حتى تشجع المشاهد على الاشتراك بها والدفع مقابل الحصول على خدمة مشاهدة حسب الطلب دون فواصل إعلانية في الوقت والمكان الذي يرغب به وعبر أي جهاز ذكي يمتلكه، كما يصل تحميل هذه التطبيقات إلى ملايين المرات وفقا للإحصائيات المتوفرة على متجر «بلاي ستور».
خصائص تدعم التوجه الحديث لثقافة الترفيه
وقد تكيفت هذه المنصات مع شخصية المتلقي الجديد وعاداته، حيث أن أغلبية المسلسلات التي تعرضها لا تتجاوز حلقاتها العشرين فيما لا يتعدى زمن العرض 40 دقيقة، عكس الإنتاج الدرامي التقليدي الذي كان يصل إلى 30 حلقة.
كما تأثر الجانبان الفني والتقني للإنتاجات التي تُعرض عليها كذلك، وصارت جودة الصورة أحسن بكثير، مع استخدام المؤثرات وكذا أسلوب المعالجة الدرامية والمواضيع التي تطرحها.
تقول سارة شابة في العشرينات، بأنها قررت خلال رمضان هذه السنة أن تتحول من مشاهدة الأعمال الدرامية على المواقع الإلكترونية واليوتيوب، إلى منصة عربية مشهورة، تدعم المشاهدة المجانية أيضا دون دفع اشتراك، ما جعلها تستغني عن المواقع نهائيا وأرجعت ذلك إلى عدم توفيرها على كل الأعمال الرمضانية، فضلا عن نقص جودة الصورة التي تحرمها من التركيز مع تفاصيل الحلقة، من جهة أخرى قالت محدثتنا بأن التحديثات الأخيرة لتطبيق هذه المنصة جعلته لا يستحوذ على مساحة تحميل كبيرة في الهاتف، ناهيك عن تجاوز تهديد «الفيروسات» للهاتف.
وتابعت قائلة، بأن المنصات الرقمية توفر تقريبا كل حلقات الانتاجات الرمضانية لذلك فإن المُشاهد لا يضطر لقضاء ساعات طويلة في البحث أما بالنسبة للتلفاز فقد اعتبرت سارة أن مخرجات التكنولوجيا الحديثة أبعدتها عنه، خصوصا بعد توفيرها لخصائص عديدة منها التكيف مع ظروف المتلقي، إذ يستطيع أن يؤدي مهامه ويسلي نفسه في وقت واحد.
بدورها قالت منار أستاذة بالجامعة، بأنهم في منزلها يحبون اللمة العائلية بعد صلاة العشاء، ولأنها لا تستطيع تفويت اجتماع كل أفراد الأسرة بعد يوم كامل من العمل خارجا، فإنها تؤجل موعد مشاهدة مسلسلاتها إلى ما بعد السهرة، وقد وجدت ضالتها في منصات العرض الرقمية، التي تقدم تجربة فردانية حيث تستطيع مشاهدة ما تريد في كل وقت، تضيف بأن هذه المنصات ترفق العمل بمعلومات عن القصة وفريق المسلسل، ما يمكنها من الاحتفاظ بقائمة من العناوين التي تثير إعجابها.
من جهتها، أوضحت هاجر موظفة في شركة، بأن طبيعة عملها وكثرة الانشغالات المنزلية مساء، جعلاها تجمع كل حلقات الأعمال التي تتابعها ومشاهدتها في المواصلات على إحدى المنصات الرقمية أثناء عودتها إلى المنزل، كما اعتبرتها فرصة للترفيه عن نفسها حتى لا تشعر بمسافة الطريق، مضيفة بأنها تضطر أحيانا للنوم باكرا بسبب التعب، فتوقف الحلقة التي كانت تشاهدها ثم تعود إليها صباحا، وواصلت قائلة
« على التطبيق الذي استخدمه، لا أحتاج إلى تذكر ما شاهدته سابقا لأن توفير خاصية العودة بالفيديو تساعدني على ذلك بسهولة».
وأوضحت بشرى شابة مهتمة بالسينما، بأنها تستخدم منصات العرض الرقمية في المساء، وترى بأنها ساعدتها على تلبية اهتماماتها اتجاه الصناعة السينمائية، وتصف نفسها بأن لها طقوسا خاصة في المشاهدة حيث تحب أن تركز مع اللقطات وتقف عندها مطولا من أجل تحليل أفكارها، وتساعدها خصائص المنصات الرقمية في ذلك من جانب إمكانية إعادة الحلقة، أو خاصية الرجوع إلى الوراء في الفيديو، كما أنها لا تحب أن ينقطع حبل تفكيرها بسبب الإعلانات المتكررة والتي تأخذ وقتا طويلا، فضلا عن أن المساحة الزمنية القصيرة للحلقة تمكنها من مشاهدة مجموعة من المسلسلات والبرامج في وقت واحد، من جهة أخرى تقول محدثتنا رغم هذه التسهيلات إلا أنها لا تستطيع التفريط في مشاهدة التلفاز خصوصا وأنها تحب متابعة الحلقة في الوقت الخاص بها، بينما تنشرها المنصات ساعة بعد العرض التلفزيوني.
منصات رقمية أفرزت تحولا كبيرا في الصناعة السينماتوغرافية


يرى المخرج وصاحب مؤسسة أروقة للإنتاج السمعي البصري، محمد الأمين يزيد، بأن منصات العرض الإلكترونية أصبحت تقدم تجربة جديدة أثرت على الإنتاج الفني، والصناعة السينماتوغرافية خصوصا في المحتوى.
وأرجع يزيد ذلك، إلى المرونة التي تمنحها المنصات للمخرجين والمنتجين على حد سواء، حيث ساعدتهم على الإبداع وتقديم قصص ومواضيع جديدة تصب في صلب اهتمامات الجمهور الذي تتوجه إليه، وقال المخرج، بأن هذا لا يتوفر في القنوات التلفزيونية التي تفرض قيودها على الصناعة الدرامية وتحد من الإبداع الفكري والفني سواء للمخرج أو السيناريست.
من جهة أخرى طرح المتحدث، فكرة جماهيرية هذه المنصات وتوفيرها لإمكانية انتشار العمل خارج حدود البلد المنتج، و يقول هنا « إن هذه الخاصية فرضت التنويع في المضامين الدرامية عكس جمهور التلفزيون الذي يكون محدودا نوعا ما، وبالتالي فإن الصناعة الدرامية تأتي حاملة لخصائص الجمهور الموجهة إليه».
حرية الاختيار والمرونة سحبت جمهور التلفزيون
وأوضحت الأستاذة بكلية علوم الإعلام والاتصال، بجامعة الجزائر 03، نور الهدى عبادة، بأن وسائط الاتصال الجديدة تمكنت من سحب جمهور وسائل الإعلام التقليدية بفضل مميزاتها وسهولة استخدامها، مضيفة بأنها أعطت أيضا حرية الاختيار للمتابعين، خصوصا ما تعلق بطبيعة المحتوى الذي يفضلون مشاهدته وتوقيت عرضه.
من جانبه، قال الأستاذ بقسم علوم الإعلام والاتصال، بجامعة لونيسي علي، البليدة 02، مهدي تواتي، بأن سلوكيات التلقي تغيرت مع ظهور منصات العرض الإلكترونية وذلك نظرا لسهولة استخدامها ومرونتها، حيث أصبح بإمكان المتلقي أن يستخدم الهاتف ويتعامل مع المنصات دون الحاجة إلى التلفاز، مضيفا بأن الخصائص التي توفرها تطبيقات هذه المنصات تتيح تفاعل المتلقي مع المضامين التي يشاهدها، عكس التلفاز الذي هو وسيلة محصورة في حيز مكاني معين. كما عرج تواتي، للحديث عن تأثر تفسير ظواهر التلقي الجديدة التي أصبحت في حاجة إلى أفكار حديثة تتحدث عن أهمية الوسيلة، التي تجعل تأثيرها مرتبطا بالخصائص التي تمتلكها، عكس ما كانت عليه سابقا حيث تُفسر وفق نظريات تجاوزها الزمن.
وربط الأستاذ بكلية علوم الإعلام والاتصال، ثراء المنصات الرقمية بالمواضيع والقصص بجمهور الإعلام الجديد الذي وصفه بمتغير جديد الذي دخل على الساحة وفرض نفسه، وتحول بدوره إلى منتج لمحتويات مختلفة ما جعل قوائم هذه المنصات متنوعة في شتى المجالات الثقافية الإعلامية والرياضية نتيجة كثرة الفاعلين.
ونوه إلى أهمية الاهتمام بتأثر هذه المضامين بخصائص التكنولوجيا، بحكم تدخل عدة عوامل فيها، منها تحكم ثقافات وتخصصات الناشرين والممارسين، قائلا بأن هذه العوامل جعلت النوعية مهددة بسبب زيادة الإنتاج التي يُفترض أن يكون خاضعا لمعايير تضبطه من ناحية الصياغة وانتقاء الرسائل الموجهة للجمهور. من جهة أخرى عقب تواتي، أنه رغم التطور الذي فرضته وسائل الإعلام الحديثة، إلا أن التلفاز ما يزال يفرض نفسه، ويبقى يتمتع بخصائص فنية وتقنية لا يمكن تجاوزها، بحكم أنه وسيلة يتم اللجوء إليها أثناء وجود مشاكل «النت»، وتعطل أداء المنصات الرقمية.

الرجوع إلى الأعلى