تشكل شرفات غوفي المتواجدة بعمق الأوراس و على مشارف الصحراء، لوحة طبيعية ساحرة لا مثيل لها في مكان آخر، ميزها موقعها الجغرافي على ضفاف الوادي الأبيض بين التل و الصحراء، غير أن الموقع السياحي الذي كان في يوم ما يعج بالسياح الأجانب، طاله اليوم الإهمال.
ربورتاج وتصوير: ياسين عبوبو

تعكس هندسة شرفات غوفي التي هي عبارة عن سكنات  استطاع الإنسان في زمن غابر أن ينحتها وسط خندق الوادي الأبيض "إغزر أملال"، قدرة و مهارة عاليتين في التفكير من أجل التكيف مع الطبيعة، بالنظر إلى طريقة صقلها في حقبة يرجح أهل المنطقة بأنها تعود إلى قرون مضت، من طرف الأمازيغ، السكان الأصليين، و كذلك لصمودها إلى غاية يومنا هذا.
الزائر للموقع لأول مرة، بمجرد تأمله للكهوف السكنية، و كذا الفندق المنجز بجوارها في حقبة الاستعمار الفرنسي من القرن الماضي، لا شك أنه سيفهم لما يطلق على هذه السكنات، شرفات، فهي تشكل امتدادا طبيعيا للوادي و تطل على واحات النخيل و البساتين المترامية على ضفاف الوادي الأبيض، ناهيك عن الهندسة الجمالية للشرفات و المنازل، فإنها فضلا عن ذلك، لها مميزات أخرى فقد استطاع السكان الذين شيدوها أن يكيفوها لحفظ  المواد الغذائية و تخزينها كمؤونة في مختلف الفصول.
الطريق باتجاه شرفات غوفي، انطلاقا من باتنة، يتيح للزائر التمتع بمناظر طبيعية خلابة لسلسة جبال الأوراس الشامخة، الممتدة عبر بلديات تازولت، وادي الطاقة، أريس، إشمول و غسيرة التي تحتضن تضاريس طبيعية متنوعة و تروي تاريخا من مختلف الحقب التاريخية من السكان الأصليين الأمازيغ الأوائل، إلى الرومان، وصولا إلى الثورة التحريرية، من خلال معالم و شواهد و آثار عديدة، وذلك على مسافة 93 كلم، تفصل بين عاصمة الولاية باتنة و منطقة غوفي، التابعة لبلدية غسيرة.
وبعد قطع المسافة بين باتنة وغوفي وبمجرد الإطلالة على الشرفات، سيشد زائر الموقع سحرها الطبيعي المتميز عن المناطق التي كان قد مرَ بها، فطبيعتها تجمع بين التل و الصحراء، حيث تضم على ضفاف الوادي، نخيلا لتمور الصحراء و بساتين أشجار التل المثمرة بمختلف الفواكه من تفاح و تين و رمان و إجاص وزيتون و غيرها، وكذا مختلف الخضراوات، و بغوفي معالم دينية لزوايا تعليم القرآن و تعاليم الدين الإسلامي، تشبَع منها سكان المنطقة الذين عاشوا على ضفاف الوادي من مشايخ و أئمة قبائل وعروش المنطقة.
و لاشك أن الزائر المتأمل لشرفات غوفي و في طريقة إنجازها، سينبهر لجمالها وامتدادها الطبيعي على ضفاف الوادي، وفي الوقت نفسه سينبهر لمدى مقاومتها و صمودها، خاصة و أن تاريخها يعود إلى قرون مضت، بعد أن شيدها الأمازيغ السكان الأصليون للمنطقة، غير أن صمود هذا الإرث من شرفات و منازل مشيدة بمواد طبيعية من الحجارة و الطين، المنحوتة على خندق الوادي، طالها الإهمال اليوم، لما وقفنا عليه من اندثار و اضمحلال لهذه المنازل و الشرفات، وحتى الفندق المشيد في حقبة الاستعمار الفرنسي مهدد بالزوال أيضا.
تلوث الوادي الأبيض و الحرائق تهدد الواحات و البساتين
تعد منطقة غوفي على مدار قرون مضت، منطقة فلاحية بامتياز، لطالما كان سكانها يعتمدون في غذائهم على ما تنتجه الأرض من خيرات البساتين و الواحات  المترامية على ضفاف الوادي الأبيض أو إغزر أملال، بفضل المياه العذبة للوادي، غير أن واقع الحال تغير، بسبب تلوث الوادي الذي لم يعد أبيض و تحول إلى أسود "إغزر أبركان"، بعد أن تحول إلى مصب للمياه المستعملة، ناهيك عن تلوث مياه الوادي، مما أثر على المحاصيل، كما أن خطرا آخر بات في السنوات الأخيرة يحدق بواحات شرفات غوفي و يهددها بالاندثار وهو الحرائق، حيث أتت في الموسمين الماضيين على مساحات واسعة من الواحات والبساتين.
و يتأسف محمد بن مدور، دليل سياحي، ابن المنطقة المعروف باسم حرودة في الأوساط الشعبية، لحال غوفي اليوم، مقارنة بغوفي الأمس، خصوصا وأن عمي حرودة، صاحب 64 عاما، عايش سنوات الستينات والسبعينات و الثمانينات و هي الفترة التي كانت قد عرفت فيها منطقة غوفي، خصوصا و ناحية أريس و غسيرة  عموما، حسب محدثنا، رواجا سياحيا كبيرا، فكانت الشرفات مزارا للسياح الأجانب الذين يأتون في قوافل من مختلف دول العالم لزيارة المكان.
وقد عاد بنا عمي حرودة، الذي يترأس حاليا جمعية للسياحة و الحرف التقليدية بغسيرة، بذاكرته إلى سنوات السبعينات و الثمانينات، مشيرا إلى أن تلك الفترة كانت ذهبية من عدة جوانب، مبينا بأن الحياة خلالها كانت تدب في الوادي بغوفي، لأن السكنات والشرفات كانت آهلة بسكانها، عكس ما هي عليه اليوم، بعد أن هجرها السكان. و أضاف عمي حرودة بأن السياح في تلك الفترة، كانوا يبيتون في شرفات و منازل بالوادي في ضيافة السكان، ما ساهم في الترويج السياحي للمنطقة.
و يروي عمي حرودة لنا ما سمعه من الأجداد و ما كان متداولا على الألسن، بأن تاريخ الشرفات يعود إلى قرون مضت، في حين أن الفندق يرجح أنه شيد سنة 1901 في الحقبة الاستعمارية الفرنسية، و كان يبيت به كبار المسؤولين آنذاك، وأشار محدثنا للزوايا الموجودة بغوفي، لأولاد ميمون، أولاد منصور و أولاد يحي منها مسجد لا تزال قبته قائمة، غير أن الإهمال طالها كلها، رغم مالها من فضل في تعليم أبناء المنطقة و تخرج العديد من الإطارات منها، مشيرا لبعض شيوخ الزوايا على غرار محمد الغسيري، أحمد أوسعدي  و صالح بن مدور.
وأشار عمي حرودة لعمله في نهاية الثمانينات ك"ريجيسور" أشرف على فيلم "ملكة النحل" الذي صور بالمنطقة للمخرج عبد الرحمان بوقرموح، وقال بأن الفيلم صور مشاهد من عادات و تقاليد سكان المنطقة.  
وأكد مرافقنا، بأن تلوث مياه الوادي الأبيض، ساهم في هجر السكان لديارهم و تراجع النشاط الفلاحي، و تأسف محدثنا أيضا للحرائق الموسمية التي أصبحت تطال الواحات والبساتين، مرجعا ذلك لغياب ثقافة الحفاظ على المكان ونظافته لدى الزوار، محملا في ذات السياق اندلاع الحرائق للزوار الذين يشعلون النار للطهي و يتركونها مشتعلة ،دون مبالاة بالخطر الذي يمكن أن ينجم عنها.
زوار لايحافظون على نظافة الموقع  و حرفيون يعرضون  منتجات صينية
أثناء زيارتنا للموقع السياحي لشرفات غوفي، كان المكان يعج بالزوار الذين قدموا من مختلف الولايات، خاصة من باتنة و بسكرة، حتى العرسان كانوا يقصدون المكان لالتقاط صور تذكارية و كان يشرف على تنظيم ركن المركبات شبان يرتدون صدريات، ضمن إطار منظم، حيث تشرف على تنظيم المكان تعاونية شرفات، حسبما أوضحه رئيس بلدية غسيرة لنا، بموجب اتفاقية بين البلدية والتعاونية، للاهتمام بالمكان.
ولاحظنا خلال تواجدنا بالموقع قبل نزولنا إلى الوادي، انتشار حرفيين، منهم من يستغل محلات مهنية استفاد منها من طرف البلدية، غير أن أغلبية ما كان يعرضه الحرفيون لم يكن صناعات تقليدية، رغم ما تزخر به المنطقة من تراث متنوع في مجال الصناعات التقليدية، حيث كان الحرفيون و المشتغلون في المحلات يعرضون منتجات صينية، في حين كان تواجد المنتجات المحلية قليلا و مقتصرا على لباس الملحفة الخاص بالمرأة و بعض الزرابي و قليل من الحلي التقليدية.
و إذا كانت واحات و بساتين غوفي مهددة بالحرائق التي يتسبب فيها الزوار نتيجة إشعالهم للنيران، فإن المكان الذي وقفنا عليه تنعدم به النظافة و الحاويات الخاصة بجمع مخلفات الزوار الذين لا يأبه الكثير منهم لترك ما يحضره معه من مخلفات الأكل والشرب وغيرها، حيث تنتشر عبر مسلك الشرفات قارورات الماء و المشروبات و أكواب القهوة وغيرها.
مساع لتثمين تراث الموقع و حمايته
أكد لنا رئيس بلدية غسيرة حكيم بلقاسمي، بأن البلدية ورغم إمكانياتها الضئيلة سعت لتوفير بعض المتطلبات للسياح و زوار شرفات غوفي، على غرار المراحيض العمومية قبل سنتين، بعد أن كانت في وقت سابق غير موجودة نهائيا. وأوضح بأن مصالحه تعاقدت مع تعاونية شرفات غوفي، قصد التكفل بتنظيم حظيرة للمركبات و الحفاظ على النظافة، و حمَل المير المسؤولية للزوار ، مؤكدا بأن التعاونية، إلى جانب عمال البلدية يقومون بحملات نظافة يومية للموقع.
من جهة أخرى، أوضح مدير قطاع السياحة لولاية باتنة رابح بوقربوعة لـلنصر، بأن موقع شرفات غوفي استفاد من مشروع للحماية و التهيئة، من خلال تحديد معالمه في مرحلة أولى، لتليها مرحلة ثانية تتعلق بترميم الشرفات و المنازل القديمة بما فيها الفندق، و أوضح أيضا ذات المسؤول، بأن تحقيق المخطط يتطلب سنوات، مشيرا إلى ضرورة تجاوز مصالحه لعراقيل عديدة تعترض الدراسة، منها ملكية الخواص.
و في سياق متصل، اعتبر مدير السياحة بأن إنجاز مرافق للإيواء يتوقف على الانتهاء من الدراسة الخاصة بمشروع الحماية، مشيرا إلى إنجاز دار المبيت للشباب بالمنطقة، بطاقة 50 سريرا فتح أبوابه مؤخرا.
بالنسبة إلى عز الدين قرفي رئيس جمعية أصدقاء إمدغاسن، التي تعمل على تثمين تراث منطقة الأوراس بمختلف أشكاله، فإن جمعيته ، سطرت أهدافا لتثمين و إحياء كافة تراث منطقة الوادي الأبيض، دون أن يقتصر على ما تكتنزه شرفات غوفي، معتبرا بأن تراث المنطقة ممتد و مترابط عبر كافة بلديات الوادي الأبيض، من أريس و إشمول و إينوغيسن و تيغانمين، وأكد رئيس جمعية أصدقاء إمدغاسن أيضا، بأن مفهوم السياحة يجب ألا يقتصر في صورة الإطلالة على شرفات غوفي في يوم واحد فقط، متأسفا لما آلت إليه الشرفات بسبب سلوكات لا حضارية من طرف أشخاص و تلاميذ مدارس يتسببون في تلويث المكان بالأكياس ومختلف المخلفات التي يتركونها خلفهم ، مؤكدا بأن بعث السياحة يجب أن يكون من خلال إعادة ترميم المساكن القديمة، لاستغلالها في المبيت ليومين على الأقل لكل زائر، من أجل بعث السياحة بتفعيل مختلف النشاطات من صناعة تقليدية وتجارة متنوعة وقال بأن على الملاك الخواص السماح بترميم السكنات التي هجروها..
عزوز لمعشر، صاحب دار تقليدية للضيافة بغسيرة
 إنشــــاء دور ضيافــــــة بمواصفـــــات تقليدية يساهم في جلب السيـــاح
لم يستطع السيد حميد بن سي عمر من بلدية غسيرة، أن يبتعد عن نشاطه في المجال السياحي، بعد أن قاطعه خلال سنوات التسعينات من القرن الماضي بسبب العشرية السوداء، حيث سرعان ما عاد إلى نشاطه منذ سنة 1996 ، للترويج للسياحة بمنطقة الوادي الأبيض "إغزر أملال"، من خلال تجسيده لفكرته في إنشاء دار للضيوف بمنطقة ثابعليت بغسيرة، ليس ببعيد عن شرفات غوفي، وهي الدار التقليدية التي توفر خدمات المبيت و الأكلات التقليدية.
و تعد دار الضيافة التي أنشأها حميد بن سي عمر، المعروف بالوسط الشعبي بغسيرة بعزوز لمعشر، نظرا لكونه محبوبا من الجميع، المكان الوحيد بالمنطقة لاستقبال الضيوف و الوفود السياحية قبل فتح دار للشباب مؤخرا بغوفي، وقال لنا عمي عزوز صاحب الدار، بأن النشاط السياحي يسري في دمه، منذ أن كان طفلا و هو الذي يبلغ من العمر حاليا 60عاما.
و أضاف محدثنا، بأن العشرية السوداء التي مرت بها الجزائر، كان لها الأثر الواضح على منطقة الوادي الأبيض ككل، وشرفات غوفي خصوصا، بعد أن تراجع توافد السياح،وهو ما جعله يقاطع لفترة، العمل في المجال السياحي.
عمي عزوز لمعشر أكد لنا، بأنه لم يستطع أن يعيش بعيدا عن النشاط في المجال السياحي، ليعود مجددا من خلال تجسيده لفكرة دار الضيافة بمنزل والديه وهو منزل تاريخي، مثلما أكده لنا، لأن احتضن اجتماعات قادة الثورة التحريرية وعلى رأسهم مفجر الثورة مصطفى بن بولعيد، حيث أعاد ترميمه بالحجارة و الطين، محافظا على نسقه العمراني الأمازيغي القديم. و قال بأن الفكرة كانت تراوده منذ سنوات، لينطلق في تجسيدها تدريجيا منذ 1996 بترميم المسكن المتربع على مساحة 500 متر مربع، و أضاف بأن ما شجعه هو وقوفه على تجربة دور الضيافة التقليدية في ألمانيا و المغرب اللتين زارهما. و شرح عمي عزوز لمعشر، بأن دار الضيافة توفر خدمات المبيت بطاقة استيعاب تصل إلى 70 شخصا و تقدم أكلات تقليدية خاصة بالمنطقة، منها الكسكسي، الشخشوخة و الزيراوي، بالإضافة إلى ذلك خصص غرفا بالمنزل، لعرض المنتجات التقليدية للبيع إلى جانب عرض صور تاريخية.                

الرجوع إلى الأعلى