ارتبطت صورة سائق سيارة الأجرة أو "الطاكسيور" في المجتمع الجزائري بالعديد من الأفلام الكلاسيكية ك"الطاكسي المخفي" و أفلام رويشد، و أغان عديدة كـ"شيفور الطاكسي" وغيرها، حتى أن ذكره جاء في الأمثال الشعبية، التي حولته إلى شبه أسطورة تروي عنه الحكايات بأنه تلك العين الدقيقة و الأذن القوية، كيف لا وهو الذي يعرف كل الزوايا في النهار و الخبايا في الليل، يستمع إلى قصص الناس و يعرف عنهم الكثير، فلسائقي سيارت الأجرة، عالم خاص اختفت معالمه اليوم، لكن ذاكرة كل من ساعد سلمون و عابر رأس النعجة ، وهما أقدم سائقين بقسنطينة، لا تزال تحتفظ  بالكثير حول ذلك العالم.
كانت "الطاكسي"حمراء وسوداء وكنا نرتدي بذلات رسمية
عمي عابر رأس النعجة، من مواليد الخروب سنة 1935، جمعته بصديقه ساعد سلمون، صاحب 78 سنة، ابن مدينة شلغوم العيد، قصة واحدة عنوانها مقود سيارة   " طاكسي"، التي قال لنا أقدم سائق سيارة أجرة بقسنطينة، بأنها لم تكن مجرد مهنة، بل كانت ثقافة تعبر عن تحضر مجتمع، حسب عمي عابر، فإن سائق الطاكسي كان ينتظر زبونه، واقفا أمام الباب الأيسر للسيارة وهو في كامل أناقته، ملتزما بارتداء بذلة رسمية هي عبارة عن طقم و ربطة عنق سوداء، أما لون سيارة الأجرة، فقد كان موحدا، السقف أحمر و باقي الهيكل أسود بالكامل.
" كانت أياما جميلة"، يقول محدثنا، كنا نحظى بالاحترام و كان للزبون هيبته، فمن كانوا يركبون سيارات الأجرة سنة 1962 ،حين بدأت مزاولة المهنة، كانوا معروفين، إنهم  أشخاص برجوازيون ، من طبقة مرموقة، لأن القانون في تلك الفترة، لم يكن يسمح لأكثر من زبون واحد، بركوب" الطاكسي"، بمعنى اننا كنا نتعامل " بالكورسة" فقط ، و التسعيرة تترواح بين 300 و 400 "فرنك"، وهو مبلغ لم يكن بسيطا في تلك الفترة وليس  في متناول أي كان، لذلك فان غالبية الناس كانوا يفضلون حافلات النقل العمومية، كما أن القطار الكهربائي كان شائعا جدا، فضلا عن ذلك، فالقانون كان يمنعنا من انتظار الزبون و العودة به مجددا من حيث أتى، كانت رحلة واحدة فقط مسموحة لكل زبون، و يتوجب عليك قبل أن تنطلق فيها، أن تمر على مديرية الآمن لتحصل على ختم التصريح، الأمور كانت جد صارمة، "لكن بشكل منظم و راق"، كما عبر محدثنا.
 يواصل :" كنا نستقبل زبوننا بابتسامة، يسألنا إذا كنا ننتظر أحدا آم لا، نرد بلا ، نفتح له باب السيارة تماما كوزير، و نحمل عنه حقائبه و أمتعته ثم نضعها في صندوق السيارة. غالبية الزبائن كانوا يفضلون الجلوس في المقاعد الخلفية، و تبادل أطراف الحديث مع السائق، إلى غاية الوصول إلى الوجهة المطلوبة"، معلقا:" في تلك الفترة كانت الشوارع فارغة و المدينة منظمة، كما كانت هنالك خدمة عربات "الكاليش" على مستوى منطقة المستشفى الجامعي و الكورنيش. و كان سائقو سيارات الأجرة ينتمون إلى الطبقة المتوسطة، الحياة كانت سهلة و بسيطة و قيمة العملة آنذاك كانت تسمح لك بالعيش كأمير، إن لم تكن ملكا".
55 كان رقم محطة سيارات الأجرة بدنيا الطرائف
 يتذكر عمي ساعد سلمون بداياته في المهنة سنة 1986 بكل حنين، على اعتبار أنها كانت فترة ذهبية حظي فيها " الشيفور"، على حد تعبيره، باحترام كبير، فرخصة سيارة الأجرة كانت تمنح من قبل المير، أو رئيس البلدية ،و لم تكن مديرية النقل قد أنشئت بعد، أما عدد سيارات الأجرة في تلك المرحلة، فلم يكن يتعدى 100 سيارة،  لها محطة واحدة، بمحاذاة ما كان يعرف آنذاك بالكازينو، أو دنيا الطرائف حاليا، وسط مدينة قسنطينة، كان لهذه السيارات خطان رئيسيان، 6 سيارات تعمل باتجاه بوابة المستشفى الجامعي بن باديس و 6 باتجاه محطة القطارات باب القنطرة ، و أضاف: " كانت المحطة رسمية و مجهزة بقمرة هاتف خاص بالسائقين رقمه 55، فمن يريد طلب سيارة أجرة، ما عليه سوى الاتصال بهذا الرقم، ليرد عليه واحد منا، طبعا كنا منظمين لكل منا دوره، فإذا كان دوري في رفع السماعة و لم أستدل على العنوان المطلوب، أترك الفرصة لمن يأتي بعدي و أنتظر رنة الهاتف مجددا، أما ليلا فالقانون كان يفرض علينا ركن السيارات في المحطة و المغادرة".
يسترسل في حديثه: " أذكر أيضا، أننا كنا نلتزم بالمناوبة الليلة و نعمل على مدار الأسبوع، عبر نقاط محددة كأحياء سيدي مبروك و بوالصوف و غيرها،و قد كان يخصص لها 10 سيارات، أما الدوام فكان 24 ساعة على 24 ساعة، كل واحد يداوم ليوم كامل، قبل أن يسلم الدور لشريكه في السيارة، ففي تلك الفترة ساهمت الدولة في منح السيارات لسائقي الأجرة، خصوصا بعدما توقف عمل الكاليش، فقد تم تعويض أصحابه بسيارات من نوع " آر 4" و " ريتمو"، نظرا لصغر حجمها" تسعيرتها تتراوح بين 2 و 4 دورو، أما الطرقات، فلم تكن معبدة، بل عبارة عن أحجار مصقولة و مرصوفة".
403 و  404 أشهر الماركات
 يواصل محدثنا : " في بداية السبعينيات تغير لون سيارات الأجرة في قسنطينة، و أصبحت بيضاء بشريط أخضر و رسم صغير لجسر، أما التسعيرة، فارتفعت إلى 10دج، بالرغم من أن سعر لتر الوقود، كان لا يتعدى 16 دورو، أما لتر المازوت،فكان مقابل 9 دورو،  كان الأمن مستتبا و العمل جيدا".
و بين " السيارات عموما كانت عملة نادرة في ذلك الوقت و بالنسبة للسائقين سيدتا المحطات كانتا بيجو 403 و 404، الجميع كان يقتينها لقوتها و جمالها، في تلك المرحلة التي اشتهرت بالرخاء، كان سعر العجلة 110دج فقط، ولم يكن سائق الأجرة يصارع للعيش كما نراه الآن، أذكر أنني في تلك الفترة  التقيت بصديقي عابر رأس النعجة وقد عملنا معا بكد، حتى تمكننا من شراء سيارة 403 مشتركة، كلفتنا على ما أذكر 8200 دج،  وهو مبلغ جد كبير آنذاك، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار، بأن قيمة فيلا من طوابق و مرائب كان سعرها يراوح المليون دج في تلك الفترة، عملنا معا طويلا و قد كانت الخطوط الولائية تخصصنا، عملنا باتجاه الجزائر العاصمة و باتنة و مدن عديدة بنفس النسق دائما 24 ساعة على 24 ساعة".
محمد الطاهر الفرقاني زبوني المثالي و مباريات كرة القدم كانت هاجسنا
يحتفظ عمي عابر بكثير من الذكريات عن زبائنه البرجوازيين الذين كانوا يتميزون، كما قال، بحسن السلوك و اللباقة العالية، أما سلمون ساعد فلا يزال يذكر أشهر زبائنه من الفنانين، على غرار الحاج محمد الطاهر الفرقاني، الذي قال بأنه كان زبونه المفضل يقله كثيرا إلى  الحفلات التي يحييها  داخل الولاية و خارجها، فكثيرا ما قصد به ولايات كالعاصمة و عنابة و تبسة و سوق أهراس و وهران،  رفقة أعضاء من فرقته، "كانت أياما جميلة، الزبائن كالحاج الفرقاني، كانوا محترمين و العمل معهم كان متعة، أما هاجسنا الأكبر فكان مباريات كرة القدم، 95 في المائة من سائقي سيارات الأجرة، كانوا يكرهون العمل مع المناصرين بسبب الشغب و يفضلون تجنبهم من الأساس، خصوصا مع نهاية الثمانينيات و بداية التسعينيات عندما أصبحت السيارات صفراء، تقل أكثر من زبون لا يعرف غالبيتهم أصول التعامل"كما أكد محدثنا.
يخفي بطاقات  رجال الأمن في عجلة الأمان ليحميهم من الإرهاب
خلال زيارتهم لنا، رافق حسين، وهو ممثل عن الجيل الثاني من سائقي سيارات الأجرة  عميدي " الطاكسي" في قسنطينة، و اغتنم فرصة وجوده ليحدثنا عن تحديات المهنة التي فقدت الآن قيمتها بسبب الفوضى، حيث قال محدثنا بأن المهنة أصبحت أصعب، خصوصا في سنوات الجمر آو العشرية السوداء، فغالبية السائقين كانوا يعملون من الثامنة صباحا إلى غاية الثالثة زولا فقط، و يمتنعون عن التوجه من و إلى بعض الخطوط باتجاه الأحياء الشعبية، و كذا عدد من المدن كجيجل و القل و عين شجرة بتبسة، بسبب الحوادث التي راح ضحيتها زملاء لهم، فمنهم من فقد حياته و منهم من أحرقت سيارته و منهم من أخذت منه عنوة وهي باب رزقه الوحيد.
 يقول حسين:" أذكر أنني كثيرا ما تعاملت مع زبائن من الأسلاك الأمنية رجال شرطة و درك و جيش، وكان ذلك أخطر ما عشته في حياتي، ففي واحدة من المرات اضطررت إلى الهرب بهم من حاجز أمني مزيف لجماعة إرهابية بمنطقة بكيرة، و في أغلب الأحيان، كنت أخفي بطاقاتهم المهنية داخل عجلة الأمان، في صندوق السيارة لأحميهم من القتلة".
يواصل: " الآن نعاني أكثر ، رغم كل ما تحملناه من أجل الوطن، ظروفنا صعبة لا نملك كغيرنا الحق في الاستفادة من صيغ الدعم لتغيير سياراتنا المهترئة، و ندفع نصف ما نجنيه لتسديد  قيمة الضرائب التي ننتظر من الدولة أن تتفضل علينا بإلغائها، أو على الأقل تخفيفها".
نور الهدى طابي 

الرجوع إلى الأعلى