الخميس 8 ماي 2025 الموافق لـ 10 ذو القعدة 1446
Accueil Top Pub

يوم داخل مستشفى الأمراض العقلية بجبل الوحش: قصص إنسانية مؤثرة و معتقدات خاطئة تؤخر العلاج

توجد خلف حالات الصراخ والعنف والمظهر غير المرتب والأفكار المشوشة، قصة إنسان صدمه الوجه المظلم للحياة، يبحث بنظرات هائمة وصراع نفسي عن ذات مفقودة داخل دوامة العنف، ويحاول نفيها عن نفسه، غير واع بمرضه العقلي، الذي تقف خلف الإصابة به عوامل مختلفة، وقفت النصر على طبيعتها في زيارة لمستشفى الأمراض العقلية الدكتور محمود بلعمري، في جبل وحش، بقسنطينة، الذي يخفي خلف أساوره قصصا إنسانية حزينة، لأشخاص قادهم، حسب معالجين، ظلم المجتمع وغياب الاحتواء العائلي، وإخفاء المرض واللجوء «للرقاة»، إلى غرف صامتة لتلقي العلاج على أمل العودة للحياة بوجه مشرق ووضع صحي أفضل.

روبورتاج/ إيناس كبير

تعد الأمراض العقلية من الاضطرابات التي يجهل العامة أسبابها الحقيقية، ناهيك عن أن التعامل معها يكون من باب عدم الوعي الكافي بها، وأحيانا يتم إنكارها والتهرّب منها، وهي من الأمور التي يدور حولها الفضول، الأمر الذي قادنا إلى زيارة مستشفى الأمراض العقلية الدكتور محمود بلعمري، في جبل وحش، بقسنطينة، للتقرب من الحالات ونقل يومياتها وقصصها.
وصلنا صباحا إلى المستشفى وعند دخولنا قادنا صراخ إلى باب الاستعجالات، كانت الصورة التي وقفنا عليها مليئة بالانكسار لفتنا منظر عائلة متكونة من امرأتين ورجلين اقتربنا قليلا منهم ليتبين أنهم يلتفون حول كرسي متحرك تجلس فوقه امرأة أخرى تبين من مظهرها غير المرتب، وارتدائها قميصا يبدو من لونه الباهت أنه قديم نوعا ما، وبأكمام قصيرة رغم برودة الطقس ذلك الصباح، وشعرها المجعد غير المصفف أنها مريضة، كانت تحاول مقاومة الرجلين وترك الكرسي لكنهما أمسكاها من يديها وأجلساها ثم دخلا بها إلى القسم، انتظرنا هناك للحظات لتمر أمامنا امرأة من اللواتي كن معها تخرج باكية معها رجل يحاول تهدئتها، في مشهد مؤلم وحزين، لحظات معدودة بعدها سمعنا بكاء شابة ذات شعر أحمر اللون متحدثة بكلام غير مفهوم عند تركيزنا معها بدا أنها تشتم، كانت في حالة هستيرية وجهها تعتليه حمره ثم تبصق رافضة أن تهدأ.
نظرات مرتابة تضج بالفضول وأجساد هزيلة
واصلنا جولتنا في أرجاء المستشفى متجهين نحو الجناح المخصص للرجال، مررنا رفقة مدير المستشفى عبر بوابة حديدية تؤدي إلى الغرف حيث يتواجد المرضى، وقد أخبرنا مرافقنا أنهم يولون أهمية بالغة لسلامة وأمن المتواجدين هناك، لفتنا أن المكان يغرق في هدوء، لكن عيون المرضى الذين قابلناهم على مدخل الغرف كانت تضج بالفضول، فكلما اقتربنا من غرفة تجمع المرضى أمام الباب متفحصين الزوار بنظرات مرتابة ثقيلة تنظر مباشرة في وجوهنا، لاحظنا أن حركاتهم كانت بطيئة نوعا ما وكأن الحياة أعيت أجسادهم الهزيلة، يعتمدون على حركة أجسامهم ووضعية جلوسهم في التعبير عما يجول في أذهانهم.
تحتوي الغرفة الأولى على شخصين الأول جالس على السرير، يقابله شخص يتمسك بقوة بالغطاء الذي كان يلفه حول كل جسده من أعلى الرأس إلى القدمين، وجدنا في الغرفة الثانية مجموعة من الأشخاص كل يمارس نشاطا مختلفا عدى تبادل الأحاديث، لاحظنا أن أغلبهم شباب لا يتجاوز سنهم الأربعين، كان شاب في العشرينات يجلس بهدوء يحمل بين يديه مصحفا وجه لنا نظرات يائسة، بجانبه شخص ساجد يصلي.
مشينا خلف مدير المستشفى والمسؤول عن الجناح وما إن اقتربا حتى انطلق صوت عال اتجاههما كان لأحد المرضى الذي خاطبهما بنبرة غاضبة قائلا «أخبِراها أنه مصاب بالسيدا»، «أنا لست مجنون بل مصاب بالسيدا» ولم يصمت رغم محاولة مسؤول الجناح تهدئته، أخبرنا مرافقانا أن المريض مصاب بالوسواس وقد ظن أننا نتحدث عنه.
رأينا أيضا غرفتين فرديتين كان المريضان اللذان يقيمان بها نائمين وهي حال أغلب من قابلناهم هناك، بالإضافة إلى أربع غرف جماعية، وغرفة تتواجد بها حالتان اجتماعيتان، أما باقي المرافق كانت عبارة عن مطبخ، حمام، ودورة مياه.

فرح ترايكية، طبيبة مختصة في الأمراض العقلية والنفسية
يوميات المرضى داخل المستشفى مختلفة عن الشارع
قابلنا في مستشفى الأمراض العقلية، بجبل الوحش، الدكتورة فرح ترايكية، طبيبة مختصة في الأمراض العقلية والنفسية، تعمل في جناح النساء، أخبرتنا أن صورة المريض في المستشفى مختلفة تماما عما يراه العامة سواء في الشارع أو حتى في المنزل لأن المريض عندما يبدأ العلاج يُحقن بأدوية مهدئة تنظم التشوش الذهني الذي يعاني منه ويشعر بالراحة، لذلك فإن 98 بالمائة منهم يقضون يوميات هادئة خصوصا في أول أسبوعين، ينامون كثيرا حتى يرتاح المخ من التعب المصاحب للنوبات، وعن ساعات النوم ذكرت الدكتورة أنهم لا يستيقظون باكرا، بعدها يتحصلون على قيلولة من الساعة الواحدة إلى الرابعة مساء، أما ليلا فينامون باكرا وخلال هذه المدة يستوعب المريض ما حصل معه والفعل الذي قام به.

حدثتنا ترايكية أيضا عما يدور بين المريض والطبيب في أول حصة التي وصفتها أنها لقاء تعارفي، فالعلاقة تتكون تدريجيا بينهما وقد تأخذ مدة طويلة تصل إلى أربعة أسابيع لأن الطبيب يجب أن يكسب ثقة الشخص في أول الأمر بدءا من عدم إجباره على الحديث إذا رفض ذلك، خصوصا المتعصبين الذين يرفضون من الأساس فكرة البقاء في المستشفى وإصابتهم بالمرض، وأهمية العلاج.
وعن تعاملها مع النساء قالت الدكتورة إنها تتحول إلى صديقة للمريضة تحاول في البداية معرفة السبب الذي جعلها تأتي إلى المستشفى، إحساسها، الشخص الذي رافقها، تضيف أنها تجعلها تدرك أنها لن تحكم عليها بل تريد الاستماع إليها فحسب حتى تشعر بالأمان، ومن الحصة الثانية تبدأ المعاينات التي قد تصل إلى خمس مرات في اليوم حسب درجة كل مرض، وأوضحت أن المريض المصاب بأعراض خفيفة تكون معاينته من مرة إلى مرتين في الأسبوع لمعرفة درجة تفاقم المرض لديه، استجابته للعلاج، فضلا عن منحه الاهتمام الذي حُرم منه في الخارج.
وعن الفئة التي يصعب التعامل معها، ذكرت المتحدثة ذاتها الأطفال لأنهم لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم وشرح أحاسيسهم، التي تظهر في شكل أعراض أخرى مثل الصراخ، العدوانية، أو التعبير عن الصدمة بالرسم، وفي هذه الحالة أوضحت الدكتورة أن العلاقة تُبنى مع الوالدين حتى يشعر الطفل المريض بالأمان والثقة اتجاه طبيبه، تضيف أن المستشفى يحدد سن الأطفال الذين يستقبلهم من 16 إلى 17 سنة وتكون في الحالات المستعجلة التي يتحول فيها الطفل المريض إلى أذية نفسه والمحيطين به.
تحدثنا مع الطبيبة المختصة في الأمراض العقلية فرح ترايكية، عن المريض الذي يحاول إخفاء المرض، وقد شرحت أن المختص خلال الفحص النفسي لا يركز فقط على ما يقوله الشخص بل أيضا يسجل ملاحظات عن الحركات التي يقوم بها كأن يراه يهلوس، وذكرت على سبيل المثال الشخص الذي يعاني من هلوسة السمع يتوقف فجأة عند حديثه مع الطبيب وكأنه يستمع لشخص ثالث معهما، أما هلوسة النظر فتكون عند نقل عينيه إلى زاوية أخرى والتيهان معها، وهي أعراض لا تحتاج أن يفصح عنها المريض، وفقا لترايكية، بالإضافة إلى ملاحظة الهندام والمظهر الذي يكون غير مرتب سواء اللباس أو العناية بالشعر لدى النساء، وأحيانا يلتقي الطبيب بأفراد عائلة المريض الوالدين، الأبناء، الزوج، لمعرفة العلاقة بينهما وسلوك المصاب في المنزل والسبب الذي أوصله إلى تلك الحالة.
أُجبرت على الزواج لتقضي 30 سنة بالمصحة
تخفي جدران المستشفى قصصا إنسانية مؤثرة وأخرى صادمة، شاركتنا إياها الدكتورة ترايكية من جناح النساء، منها قصة مريضة تتواجد في مستشفى جبل الوحش منذ 30 سنة بعد تخلي أهلها عنها، أخبرتنا الطبيبة أنهم فرضوا عليها الزواج في سن 18 بعد رسوبها في شهادة البكالوريا، لتصاب بعد الولادة بحالة هذيان وهلوسة حادة ومن الأعراض التي كانت تعاني منها تصور رضيعها وزوجها في شكل «شيطان» بعينين حمراوين، لكن مصيبة المريضة الأكبر كانت في جهل عائلتها بمرضها واتباعهم أساليب تقليدية مثل «الرقية» إيمانا بنجاعتها، بالإضافة إلى ممارسة العنف الجسدي والمعنوي عليها،
أطباء يتكفلون بدفن مرضى أهملهم الأهل
فقد عُزلت المريضة في غرفة ورُبطت بالحبال بعد تطليق زوجها لها وفصلها عن ابنها، لتُعامل مثل الحيوان خصوصا من طرف إخوتها الذين كانوا يضربونها ضربا مبرحا بشكل يومي بعد إصابتها بنوبة وقد تسبب ذلك في تفاقم حالتها وإصابتها بـ»الشيزوفرينيا»، غير أنها عندما دخلت المستشفى وبدأت العلاج تغير حالها وهدأت، تردف الطبيبة، أنها أصبحت تمارس نشاطات مختلفة مثل الخياطة، تعلم الطرز، الرسم، أما في المساء فتحب أن تساعد في تقديم الأكل للمرضى والحديث معهم، وقد أخبرتنا الدكتورة أنها أصبحت تعتمد عليها في كسب ثقة المقيمات معها وحراستهن خصوصا المريضات اللواتي يفكرن في الانتحار، وقالت ترايكية إن حالات كثيرة مماثلة توجد في المستشفى والمحزن أن حتى عند وفاتهم يتكفل الأطباء بدفنهم.
تتزاحم عدة قصص في قسم النساء، وفقا للدكتورة، خصوصا وأن أغلبها تكون فيها المرأة ضحية مجتمع، حدثتنا أيضا عن قصة فتاة كانت تعالج في المستشفى لكن الصدمة كانت قوية عليها ولم تتقبل أنها لم تنل العدالة التي حرمتها منها عائلتها، فانتحرت بسبب تعرضها لاعتداء جنسي في سن 16 وكان المعتدي جارا لها في العمارة المقابلة، لتُصاب بسبب الحادثة باضطراب ما بعد الصدمة ورغم اتباعها للعلاج لكن قهر عدم وقوف أهلها بجانبها وإجبارها على الزواج من مغتصبها صعبا من تخطيها الحادثة لتنتحر في سن 19 بسبب عدم تقبلها العيش مع زوجها، وحول هذا الأمر أخبرتنا الطبيبة أنه توجد حالات عديدة لمرضى يتعالجون من صدمات جنسية خصوصا عندما تشوه طفولة الشخص أو مراهقته بسبب الحادثة فيصل الأمر إلى إصابتهم بمرض عقلي.
ومن الحالات التي تحدثت عنها بتأثر قصة فتاة والدها من ذوي الاحتياجات الخاصة يعاني الصم والبكم يقيمون مع عائلتهم، كانت الصغيرة تتعرض لاعتداء جنسي من طرف أفراد من عائلتها منذ صغرها، إلى أن وصلت لسن 15 وبدأت تفهم ما كان يحصل معها لتقرر ترك المنزل وتلجأ إلى المستشفى للعلاج من الصدمة، ورغم ذلك ترى الطبيبة أن العلاج الحقيقي هو نيل الضحية لحقها لأن الأدوية لوحدها لا تكفي لتجاوز الصدمة.
مغالطات شائعة عن اكتئاب ما بعد الولادة
تحدثت الدكتورة أيضا عن حالات اكتئاب ما بعد الولادة وشرحت هذا المرض والأعراض المصاحبة له، كما أوضحت الأسباب التي تؤدي إلى ارتكاب الأم جرائم ضد رضيعها، تقول إن المرأة هي الأكثر عرضة للاكتئاب من الرجل وتتعدد أسباب ذلك حسبما ذكرته، كممارسة العنف ضدها، والمرور بفترات حساسة من مراهقة وبلوغ سن اليأس، والاكتئاب المصاحب لضغوطات تربية الأطفال، ناهيك عن القلق والتوتر الذي تعيشه المرأة العاملة.
أما عن «اكتئاب النفاس» فلفتت إلى أنه حالة هرمونية عادية تظهر في اليوم الثالث إلى العاشر بعد الولادة ويعود سبب ذلك إلى أن هرمونات المرأة تكون مشبعة «بالبروجيستيرون» أثناء الحمل ثم يفقده الجسم في اليوم الثالث، هذا ما يُحدث تغيرات في مزاج المرأة تُترجم في شكل بكاء، نقص ثقة بالنفس، الشك في أنها لا تستطيع تربية ابنها، والخوف عليه من العالم، وهي أفكار شائعة لدى أغلب النساء وفقا لها، وتحتاج المرأة في هذه الحالة إلى محيط متفهم وواعٍ، ونصحت بالابتعاد عن بعض العبارات التي من شأنها أن تزيد حدة تأنيب الضمير لديها لأنها لا تشعر بفرحة اللحظة مثل «لماذا البكاء هذا رزق من الله؟»، «الحكم عليها بأنها غير متقبلة لنعمة الله»، تضيف أن هناك عائلات تحرم المرأة من عيش تفاصيل حالتها النفسية وإقناعها أنه أمر عادي تقوم به كل الكائنات.
ويؤدي هذا الضغط فضلا عن عدم تحصلها على الراحة الكافية إلى تفاقم الاختلال العادي الذي يتحول إلى «اكتئاب ما بعد الولادة» فتشعر المرأة أنها قد تؤذي ابنها، تفقد الاهتمام بنفسها، تُغرس لديها أفكار أنها أم غير مسؤولة ولا تستطيع العناية برضيعها، وأفادت المختصة أنه نوع خفيف من الاكتئاب تتبع فيه المصابة علاجا يدوم حوالي أربعة أشهر، أما إذا كان المحيط بها غير مبال ولا يملك الوعي الكافي فقد يدوم إلى سنوات تضيف أن الطفل أيضا يتأثر بحالة أمه ويكبر باضطرابات عقلية ونفسية بسبب علاقته المشوهة بها.
وفي سياق متصل عرجت محدثتنا على المغالطات الشائعة عن هذا الاضطراب على رأسها احتمال ارتكاب الأم المصابة باكتئاب ما بعد الولادة جريمة قتل ضد رضيعها، وذكرت بأن هذه الحالة هي مرض آخر يُسمى «حالة هلوسة وهذيان حادة» ولا علاقة له بالاكتئاب يكون أحيانا وراثيا، وأفادت الدكتورة أن المرأة تصاب بهذيان وتكون متأكدة بشكل قطعي أن الرضيع ليس طفلها بل ولدت «شيطانا»، أو تتخيله في شكل «ثعبان»، أو تم تغييره بعد الولادة إلى أن تصل إلى قتله أو أذيته وفي هذه الحالة تقول إن المصابة يجب أن تدخل إلى المستشفى وتُفصل عن ابنها.
ونصحت الدكتورة باتباع العلاج الذي يدوم من 18 شهرا إلى سنتين، كما حذرت من المشي خلف آراء المجتمع والتوقف عن تناول الدواء خصوصا عندما تتغير نظرة زوجها والعائلة إليها، لتُعامل مثل المريض العقلي أو الخوف من الإدمان على الأدوية، وبحسب ترايكية، فإن هذه الفكرة خاطئة لأن العلاج عبارة عن مضادات للهذيان والهلوسة ولا علاقة له بالمخدرات، تضيف أن اضطراب الهذيان والهلوسة قد يتحول إلى «شيزوفرينيا» إذا لم تعتني المرأة وعائلتها بصحتها العقلية.
إخفاء المرض واللجوء «لرقاة» والتداوي بالأعشاب عقد علاج حالات

وبسبب التقاليد الخاطئة التي تُمارس في حق المريضة، ذكرت أن بعضهن يأتين إلى المستشفى في حالة مزرية، مثل عرضها على «الرقاة»، واستخدام أعشاب ظنا أنها مفيدة لكنها في الحقيقة تفاقم وضعها الذي يصل إلى درجات قصوى، وطمأنت الدكتورة النساء أن هذه الحالة نادرة.
وعن تعامل الأخصائي العقلي مع المرأة التي ترتكب جريمة تحت تأثير الهلوسة والهذيان، قالت إنهم يعطونها مضادا في البداية حتى تعود لوعيها ثم تدرك خطورة ما ارتكبته، هنا تُصاب باكتئاب بعد تذكرها الحادثة المؤلمة، تضيف أن المريضة توضع تحت المراقبة الطبية لأن عند عودتها إلى وعيها أول ما تفكر فيه الانتحار.
«كنا في البداية نتأثر ونبكي كثيرا مع مرضانا»، هكذا عبرت الأخصائية والمساعدة المتخصصة في الأمراض العقلية، خديجة سودوس، عن تأثر الصحة النفسية للطبيب العقلي بالحالات التي يعيش معها يوميا خصوصا الصعبة منها، وعلقت قائلة «الطب العقلي مجال صعب، في المستشفى نكتشف قصصا مؤلمة ونعيش تفاصيل صادمة فنكمل يومنا مثقلين جسديا ومعنويا بمشاكل الآخرين»، تضيف أن الطبيب يجب أن يتعلم الحياد ويفصل بين الحالات التي يعالجها وحياته الشخصية كما يحمي نفسه من التأثر بمشاعر المريض الذي قد تنعكس عليه حتى داخل منزله وعلاقته بعائلته. أما عن أكثر الحالات التي تتأثر بها، ذكرت أن أغلبها حالات إنسانية لمرضى تتخلى عنهم عوائلهم بعد تفاقم المرض، وتحدثت عن حالة مريض يُعالج في المستشفى، قالت إن هذا الشخص مثقف جدا ويتحدث عدة لغات، أخبرها أنه ضحية أسرته فبعد وفاة والديه تخلى عنه إخوته ورموه بالرغم من حالتهم المادية الجيدة ليُصاب بـ»الشيزوفرينيا» وحالات تقلب المزاج، تضيف المختصة أن حالة المريض كانت مستقرة وواع بمرضه وملتزم بالعلاج، كان يحتاج فقط لاحتواء عائلي واهتمام يساعده على تجاوز الحالة.
وفي هذا الجانب نصحت المتحدثة بعدم التغافل عن الأمراض النفسية التي قد تتحول إلى مرض عقلي، وذكرت الاكتئاب الذي يُعالج في حالته العادية لكنه يتحول إلى اضطراب عقلي قد يصل إلى الإصابة بالهذيان والهلوسة، أيضا الصدمات النفسية التي تحتاج أيضا إلى اهتمام وعلاج نفسي وكيميائي.
تعتبر بعض العائلات هذه الاضطرابات من «الطابوهات» ولا تتقبل أن أحد أفرادها أصيب في عقله، وفقا للمختصة، فتختار ارتكاب أخطاء أخرى تؤثر على آخرين مثل تزويجه وحتى على المريض في حد ذاته، مثل ربط المرض بالسحر والشعوذة والتوجه مباشرة نحو «الرقاة».
وهو أمر وصفته المتحدثة بالخطير خصوصا وأن المريض في حد ذاته يعيش في حالة تيهان بعد التغيرات الطارئة عليه مثل اضطرابات في النوم، والوساوس، التي تصاحبها حالات شك في أن الشخص مراقب، أو مهدد بالقتل وهنا تكون ردة فعل المريض خطيرة خوفا على نفسه خصوصا عندما تكون أسماء معينة تدور في ذهنه، لذلك توضح سودوس، أنه كلما شُخص المرض في وقت مبكر يكون هناك أمل للشفاء.

الطبيبة المختصة في الأمراض العقلية سمية نعمون
انفصام الشخصية من الأمراض العقلية الأكثر انتشارا
قابلنا أيضا الطبيبة المختصة في الأمراض العقلية، سمية نعمون، التي أشارت إلى الأمراض العقلية الشائعة في الجزائر وعلى رأسها «انفصام الشخصية» أو ما يُعرف لدى الأغلبية بالذهان والهلاوس، يليها أمراض خلل ثنائي القطب، وشرحت بأنه طيف متكون من قطب الاكتئاب والانهيار العصبي، وقطب آخر يشعر فيه الانسان بتحسن حالته يلاحظ لديه الضحك المفرط، والرغبة في صرف الأموال، تضيف، الانهيار العصبي بجميع أنواعه وكذا اضطرابات الشخصية، والاضطرابات المتعلقة بالإدمان وتعاطي المخدرات، وفي هذا السياق كشفت نعمون، أن الإصابة بالأمراض العقلية زادت نسبتها في السنوات الأخيرة، وهذا يعكس أمرين تغير نمط الحياة عكس في الماضي الذي كان بسيطا، وكذا زيادة الكثافة السكانية، وفي المقابل زاد الوعي أيضا بالعلاج النفسي والعقلي والتوجه إلى المؤسسات الاستشفائية، وفقا للدكتورة، الأمر الذي سهل جمع الإحصائيات عكس الماضي حين كان المرض العقلي من «الطابوهات» وهو ما يؤخر التشخيص.

وأوضحت الدكتورة أن أسبابا كثيرة يمكن أن تؤدي إلى الإصابة بمرض عقلي مشيرة إلى جملة من العوامل منها «البيولوجية الجينية»، وذكرت أن الفحص الجيني حاليا أصبح يكشف عن احتمال إصابة الشخص بمرض عقلي في سن مبكرة لأن الخلايا تحتوي على «كروموزوم» محدد يكون حاملا لجين انفصام الشخصية على سبيل المثال.
وكذا العوامل البيئية بما فيها تأثير المجتمع والعائلة خصوصا إذا كان الشخص لديه قابلية للإصابة بالمرض مع ضعف «ميكانيزمات» الدفاع النفسي لديه، تطرقت أيضا إلى عامل الضغط والقلق بسبب الظروف التي يعيشها الإنسان وعقبت في هذا السياق أن الإنسان الذي يعيش في ظروف مالية واجتماعية حسنة يكون أقل عرضة للإصابة بالمرض عكس الذي يعاني من مشاكل عائلية وظروف معيشية صعبة، موضحة في هذا الجانب أن حدوث انهيار عصبي بسبب هذه الأخيرة هو رد فعل عادي لكن يجب التعامل مع الأزمات بعقلانية وعدم الرضوخ لتأثيراتها.
الشفاء ممكن في هذه الحالات
«لا أحب أن يُطلق على مريضي صفة المجنون»، هكذا عبرت الدكتورة عن العلاقة التي تربطها مع مرضاها خصوصا وأن الشفاء ممكن كغيره من الأمراض العضوية، وتكون وفقا لها، حسب كل حالة وأشارت إلى أمراض تكون نسبة الشفاء منها كبيرة مثل «الانفصام» الذي يُشفى المصاب به بنسبة 80 بالمائة، وفي حالات أخرى يمكن التوقف عن أخذ الدواء لكن مع الابتعاد عن العوامل التي تستفز المرض، كذلك الاكتئاب يُشفى منه المريض بنسبة مائة بالمائة عند اتباع نصائح الأخصائي، والإدمان في حالة توفر عوامل اجتماعية حسنة والاهتمام الكافي بالمدمن وإعادة دمجه في المجتمع،
وتنصح الطبيبة المرضى بالالتزام بالدواء بصفة منتظمة، والابتعاد عن مسببات القلق، وشغل أوقات الفراغ بالعمل وممارسة أنشطة تبعده عن التفكير في المرض والأزمات، أما على الصعيد الاجتماعي فيجب دمج المعافى في المجتمع وإخراجه من حالة العزلة والرفض التي كان يعاني منها.
وربطت الدكتورة تأثر الصحة العقلية والنفسية أيضا بما يُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الشبكة العنكبوتية، وأوضحت أن هذه الأخيرة أتاحت الوصول إلى المعلومات بشكل كبير لدى العامة، فأي إنسان وفقا لها يمكن أن يبحث عن أفكار تتبادر إلى ذهنه أو ربما تكون في شكل تخيلات، يمكن أن يتطرق لها الشخص على أنها مجرد وسوسة ثم يتجاوزها، بينما تتحول إلى الخطيرة إذا كان الشخص مضطرب شخصيا، أو إذا كان البيت يضم مريضا عقليا مثل مُصاب بالذهان متزوج ولديه أطفال يقضون معه كل اليوم ويرون أعراض المرض عليه كأن يتحدث مع الحائط، ويقوم بتصرفات عدوانية، مع مرور الوقت قد يتأثر واحد منهم ويأتي بالتصرفات ذاتها وعندما يكبر تنتابه وساوس حول احتمال إصابته بالمرض.
واعتبرت الطبيبة المختصة في الأمراض العقلية، سمية نعمون، الصحة العقلية هي الأصعب لذلك يجب وقايتها والحرص على سلامتها عبر التشخيص المبكر، والوعي بأهميتها، والتوجه نحو الأخصائي في حالة ظهور أعراض غريبة على الشخص أو أحد أفراد عائلته، وكلما كان التشخيص مبكرا وفقا لها، ساعد على الاستجابة للدواء والشفاء، كما نصحت بالابتعاد عن المشاكل والتعامل معها بطريقة عقلانية، محذرة من الانسياق وراء توجيهات غير المؤهلين التي تكون أغلبها خاطئة لأنها غير قائمة على أساس طبي، فالطبيب فقط من يُخول له وصف الأدوية وبروتوكول العلاج.
إ.ك

 

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com