بقدر الدهشة التي تخلّفها جُملته، بقدر الحسرة التي ينتهي إليها قارئه، حسرة على عدم اكتمال قصّة وعلى الصّمت الذي أعقب الروائع القليلة التي فتحت الشهيّة على أدبٍ راقٍ وأبقت المتلقي على جوعٍ أبدي.
يمسكُ بك مالك، فتسكن لغته وتطمئن في بذخها غير عابئٍ بكلفة الإيجار، وكذلك يفعلُ الأدب الحقيقي، في أزمنة الحرب والسلم و في كلّ الأوقات.
أربعُ حركاتٍ يستعين بها السّرد المقطّر من الشّعر في مرافقة مصائر مُتأرجحة بين ولعٍ يقتضي الواجب نسف الجسر المؤدي إليه، و تطلّع يصدّه البرود وخيّانة هي الجواب غير العادل على الوفاء، و نقل الحياة إلى الأدب بوصفها ظاهرة أدبيّة، و الخضوع إلى محاكمة لا تمتحن الموقف فقط بل تُخضع الضّمير إلى حسابٍ عسيرٍ. أربع حركات في السّرد وأغانٍ قليلة وصخبٌ خارج النص.
سنوات قليلة كانت كافية لاستكمال "المشروع" إن جاز لنا أن نطلق هذه الكلمة التي لا شعريّة فيها على السّحر.
سكت مالك حداد، بعد الاستقلال، تاركًا باب التأويلات مفتوحا إلى الأبد: هل فقد الدافع؟ هل اتخذ موقفا من لغة الكتابة؟ هل جنت عليه المسؤوليات وهل جذبته السيّاسة إلى أرضها المخيفة، خصوصًا وأنّ الرجل ترشّح في الانتخابات التشريعية واختارت قسنطينة غيره لتمثيلها، فكانت الصدمة التي أيقظت السّرطان؟ هل خاب ظنّه؟ هل خاف؟ هل خانته الجرأة في أخذ القلم وإعلان الموقف في الجمهورية الفتيّة؟
لا تُجيب الشهادات الشّحيحة، عن هذه الأسئلة ولا تعطي أي مبرّر للصّمت، فالكثير ممن عاصروه لم يعاصروه حقا، فتجد من يصف جماله وإسرافه في التدخين وتشجيعه للشباب، لكنك لن تجد الشهادة العميقة عن حالة الضّياع التي انتهى إليها الكاتب. لا توثيق ولا حوار، مجرّد تخمينات ومشافهات وتقديس تعوزه المعرفة بالأثر وصاحبه.
لكنّ ذلك لم ينل من الحضور الطاغي لهذا الكاتب، فقد استمر بنصوصه القليلة، وبحضوره في غيره، و استمر في قسنطينته و استمرت قسنطينة من خلاله، فلم يكتبها أحدٌ، كما فعل هو، ولم تمنح نفسها لغيره، رغم المحاولات الكثيرة، لأنّه رفع السّقف ولأنّها اكتفت!
تمتلكُ النصوص العظيمة قوّة دفع ذاتي، ولا تحتاج إلى "شطارة" صاحبها وصراخه، هذا هو الدرس الذي يمكن استخلاصه من بقاء مالك طاغيًا في حياتنا، غير قابل للنسيان والتقادم.
سليم بوفنداسة