النقد الأسطوري   تخلف عربيا لمتطلباته المعرفية
يتحدث الناقد والباحث محمد الأمين بحري، في هذا الحوار، عن «النقد الأسطوري»، وخصائصه وخصوصياته في الممارسة، كما يتطرق لمسألة تشكلات وتمظهرات الأسطورة في النقد الأسطوري، وكذا الأسطورة وتوظيفها الأدبي، وفي ذات السياق يتحدث عن واقع «النقد الأسطوري» في الجزائر وفي الوطن العربي؟. والذي قال بأنه يعد من أندر أنواع النقد في العالم العربي تداولاً بين الباحثين، نظراً لمتطلباته العلمية الموسوعية التي يفترض بالباحثين فيه تحصيلها.
بحري، الذي يشتغل في حقل النقد والتأليف والترجمة، هو أيضا محاضر بكلية الآداب واللغات -جامعة محمد خيضر- بسكرة. متحصّل على دكتوراه في النقد الأدبي، وله عدّة إصدارات، من بينها ترجمة «كتاب الماركسية» لروجيه غارودي، و»البنيوية التكوينية من الأصول الفلسفية إلى الفصول المنهجية».

حاورته/ نـوّارة لحـرش

ما هو «النقد الأسطوري»، الذي نادرا ما نسمع أو نقرأ عنه في المدونة النقدية الجزائرية وحتى العربية، ولماذا هذا «التيار النقدي» الغائب/المغيب في ساحة النقد ظل بعيدا عن التناول؟


محمد الأمين بحري: يعد «النقد الأسطوري» من حيث المنهج، والآليات، والممارسة من أندر المناهج تطبيقاً وتداولاً في الدراسات الأكاديمية نظراً لمتطلباته المعرفية الموسوعية على التراث الإنساني في مختلف مجالاته وبالخصوص، التاريخي والاجتماعي والديني والأسطوري، وانفتاح قاعدته المعرفية على ثقافات الشعوب وتراثها، ومن هنا فلا يمكن للباحث أن يتوسله منهجاً لدراساته ما لم يمتلك تلك القاعدة من المعارف العلمية والثقافية الموسوعية. ولعل هذا من أبرز أسباب عزوف كثير من الباحثين الأكاديميين (المستعجلين) عن تناول مثل هذه المناهج النقدية العميقة التي تتطلب وقتاً وجهداً واطلاعاً لم يعد بوسع الكثير منهم تحصيله.

كيف تشكلت الأسطورة في النقد الأسطوري؟

محمد الأمين بحري: لقد تشكلت الأسطورة في الأدب بشكل تراكمي عبر تاريخ الأدب العالمي قديمه وحديثه، وراح الزخم الأسطوري يتزايد مواكباً مختلف الثقافات والحضارات ومكتنزاً بعديد النماذج الأنثروبولوجية، ولا عجب أن تشهد الساحة النقدية موازاة مع هذا النمو المطرد للرصيد الأساطيري في الآداب اهتماما متزايدا بين آليات الاشتغال على هذا الرصيد الميثولوجي المتنوع، والحرص على الدقة المنهجية في التشريح واستخلاص الدلالات الأسطورية من مختلف الصيغ والأساليب والبنى الأدبية مهما كان الجنس الذي وردت فيه. ويبقى باب التجديد مفتوحاً لمختلف العلوم الإنسانية كي تسهم في إثراء منظور النقد الأسطوري -La Mytho-critique)).

الأسطورة مهما تبدلت وتلونت في تواردها في الأعمال الأدبية إلا أنها تحافظ على تركيبها الأدنى الذي يحفظ لها التميز والخصوصية كنص مرجعي

ولعل هذا الانفتاح هو ما جعل الباحث حنا عبود يلاحظ بأن: «الهيكل الأكبر للنقد الأسطوري هو ولا شك صنيعة العصر الحديث، وبالتحديد صنيعة علم الأنثروبولوجيا الذي تكامل في أوائل هذا القرن، والذي يمتد في بداية القرن التاسع عشر وما قبله. وقد أسهمت دراسات مورغان، وفريزر، ومالينوفسكي وسواهم في تقديم مادة غزيرة جداً ساعدت في إبراز هيكلة النقد الأسطوري، أما كارل غوستاف يونغ فيعتبر المؤسس الأكبر لهذا الاتجاه النقدي لأنه طرح أسئلة النظرية الأدبية على المعطيات التي اكتشفها، وانتهى إلى إجابات ساهمت في تكامل نظرية الأساطير». وهذا ما يمكن أن نسميه، انفتاح المنهج الأسطوري على عدة مجالات حياتية وعلوم إنسانية أثرت مادته وموضوعاته وآليات منهجه.

وما هي أهم العلوم التي استند أو اتكأ عليها النقد الأسطوري؟

محمد الأمين بحري: من أهم العلوم التي انبنى عليها صرح النقد الأسطوري في العصر الحديث نذكر: الأنثروبولوجيا «علم الإناسة»، الإثنولوجيا «علم الأعراق والسلالات البشرية»، الإثنوغرافيا «علم السلالات الجغرافي»، التيبولوجيا «علم الأنماط الثقافية والبشرية»، اللاهوت «علم الأديان»، علم التاريخ، علم النفس، علم الاجتماع، الفلسفة، الأدب، النقد الأدبي. ويبقى هذا النقد منفتحاً على أي علم إنساني جديد يسلط الضوء على إبداعات البشرية وإنتاجاتها الفكرية والثقافية.

كيف كانت ممارسات وجهود أعلام النقد الأسطوري؟

محمد الأمين بحري: يعد كارل يونغ أول من أرهص للنقد الأسطوري بأبحاثه وأفكاره التي تصب في موضوع تجلي الأسطورة في الأعمال الأدبية. وذلك عبر نظريته الأنثروبولوجية القائمة على جملة من المصطلحات المفتاحية. منها مصطلحات كارل يونغ من علم النفس إلى النقد الأسطوري: ولا يزال هذا المعجم من المصطلحات سارياً في الإبداع الأنثوي فناً وسلوكاً وقولاً، وميولاً وهواجس، كلها تمثلات مرتبطة بالطبيعة أساساً والتي هي الحوض الأول لأي نموذج بدئي لاحق. ويبدو أن نموذج يونغ أعمق من حيث العمق النفسي من نموذج فرويد، ذلك أن مرتبة الوعي الجمعي لديه أعمق من مستوى الوعي الفردي الذي يبدو أكثر سطحية واختلافاً واعتباطية.

وماذا عن جهود بقية النقاد في حقل «النقد الأسطوري»؟

محمد الأمين بحري: بعد أن هيأ كارل يونغ أرضية النقد الأسطوري في بداياته الأولى، دخلت بعده موجة من الباحثين والنقاد إلى هذا الحقل وطوروا بناه ومباحثه بشكل صار فيه على أيديهم منهجاً متكامل البنى دقيق التحليل شامل المباحث ولعل الدراسات النقدية الأسطورية الحديثة قد أبرزت الأثر الملحوظ للناقد الفرنسي بيار برونال (P. Brunel). في وضع معالم النقد الأسطوري التي نعرفه بها في العصر الحديث، غير أن هذا الأخير في حقيقة الأمر كان جامعاً مجتهداً لجهود علماء سابقين عليه. لأن مفاهيم هذا النقد وأفكاره الأولى قد تداولت بين عديد النقاد والدارسين السابقين عليه، من مختلف المجالات، ممن هيأوا السبيل لتدارسه وزرعوا إرهاصاته الأولى التي لاحت لبرونال. ولعل أبرزهم الناقد النفسي كارليونغ(Jung) ، ونورثروب فراي.. (N. Frye)   وأندريه يول(A. Joules) ..  وغيرهم ممن أثاروا مسألة تواجد الأسطورة في الأدب وحرصوا على إيجاد منهج لاستخراجها من النصوص، وهذا ما أقر به الناقد الأسطوري نور ثروب فراي حين قال: «كانت أولى جهودي المستمرة في البحث محاولة لكتابة تعقيب موحد على كتب وليامبليك التنبؤية. إنها قصائد أسطورية الشكل: وكان علي أن أتعلم شيئا عن الأسطورة لكي أكتب عنها، وهكذا اكتشفت، بعد أن نشر الكتاب، أنني من مدرسة -النقد الأسطوري- التي لم أكن قد سمعت بها من قبل وعليه، كان لِزاما علينا أن نعرف بالأعمال التي قام بها بعض الدارسين في مجال النقد الأسطوري».
وإذ ألقينا الضوء على أهم أولئك الأعلام فإنه علينا في خطوة لاحقة أن نبرز جهودهم التنظيرية لصياغة منهج يرصد حياة واستعمالات الأسطورة في النصوص الأدبية، وقد أطلق على مجموع تلك الخطوات الإجرائية التي صاغها أولئك النقاد مصطلح «المنهج الأسطوري».

أيضا فيما تتمثل خصائص المنهج الأسطوري وخصوصياته في الممارسة؟

محمد الأمين بحري: يتعلق الأمر في النقد الأسطوري كما في منهجه على تعرف واستخراج الحياة الأسطورية الثاوية في أعماق النصوص الأدبية، لأن الأسطورة عاشت قبل هذا النص بأزمنة سحيقة وستعيش من خلاله في تجربة جديدة أو بالأحرى تحيا من خلاله حياة جديدةـ لذلك لا عجب إن قلنا بأن الأسطورة تمثل نوعاً من الحياة في النصوص، تحييها وتحيا بها، لذا فمن وجهة نظر منهجية، للكاتب دانييل هنري باجو: «يجب إعادة تقويم هذه المعارف عند استحضارها، لا إعادة تفسيرها، لكي تدلنا على القوانين، والأطر، والنماذج الناظمة لها، مع إمكانية إعادة استخدامها آنياً. لا تستطيع الأسطورة تناسي أصولها الدينية بسهولة ولا يمكنها أخذ بعد أدبي إلا إذا بقيت كلاماً حياً».

وماذا عن الأسطورة وتوظيفها الأدبي، كيف ترى هذه العلاقة الثنائية متعددة الممارسات والاشتغالات؟

محمد الأمين بحري: يجدر بنا أن نعرف الأسطورة كونها المنطلق المعرفي لاشتغال المنهج الأسطوري، وقد وجدنا لها تعريفاً عربياً ملماً بما سبق من تعاريف غربية، وجامعاً لها في عبارات مختصرة وهو تعريف عماد الخطيب الذي يقول فيها: «الأسطورة أيّة حكاية تقليدية تروي وقائع حدثت في بداية الزمان، وتهدف إلى تأسيس أعمال البشر الطقوسية حاضراً، وبصفة عامّة إلى تأسيس جميع أشكال الفعل، والفكر، التي بواسطتها يُحدِّد الإنسان موقعه من العالم». ويعد كل توظيف للأسطورة تناصاً، أو استشهاداً أو حضوراً في أي مدونة من قبِيل ما يُسمى نقدياً بالأسطوري، أي ما يجعل من متن ما متناً أسطورياً. كما تدخل تحت جنس الأسطوري كل الأجناس الأدبية التي استفادت بشكل من الأشكال من التراث الأسطوري، سواء أكان هذا التراث محلياً أو عالمياً. انطلاقاً من كون الأسطورة نشاطاً عقلياً وتخيلياً، حيث أطلق على الخطاب التخيلي آنذاك مصطلح muthos وعلى الخطاب العقلي مصطلح Logos. وهما طرفا مصطلح الميثولوجيا في اللغات الأوربية الحديثة (Mythologie). ويعني المصطلح الأول القدرات التخيلية التي تقود الإنسان إلى اكتشاف حقائق الكون. والثاني القدرات العقلية التي تقود الإنسان إلى اكتشاف حقائق الكون.
وقد صنف رولاند بارث الأسطورة كأول لون سيميائي تواصلي بين البشر في كل زمان ومكان، سواء في أقوالهم وخطاباتهم أو في سلوكاتهم وأفعالهم.
فمن المظاهر القولية للأسطورة برزت الملاحم والأساطير الأولى التي حاكها الإنسان عن نفسه وعن طبيعته وعن آلهته، كأول الفنون الأدبية على الإطلاق.

أحيانا تتعارض بعض الممارسات أو الاقتباسات التي تغرف من الأسطورة، مع سياقات الأسطورة، هذا ما يُظهِر في بعض النصوص صدامات بين الأسطورة وبين النص الذي وظفها أو استلهم منها، ما رأيك؟

محمد الأمين بحري: على سبيل التنويه حول خصوصية الممارسة، نقول بأن المنهج الأسطوري يحرص على الدوام على تماسك النصوص الأدبية أكثر من حرصه على تماسك المتون الأسطورية المرجعية، لأن الأساطير مخططات هندسية قديمة وخطابات جاهزة عتيقة لا يمكن تحويلها أو تحريكها أو نسبتها لأي مبدع آخر مهما بلغت قدراته وإبداعيته، وهذا الموضوع يحتوي على مخاطر كبرى، قد تتسبب في الطعن في مصداقية الكاتب أو في أصالة النص إذا استهان الكاتب بالقوى الكامنة في الأساطير من حيث تجليها أو مطاوعتها أو إشعاعها، ومن الوارد جداً إذا حدث خلال التوظيف التناصي أي خلل أن يعصف بالدرجة الأولى بالنص لا بالأسطورة، فيفقد النص معناه الذي يصير إلى الخلفية الأسطورية، لذا كانت هناك على مر التاريخ نصوصاً سيدة تتحكم في مختلف المواد التناصية التي تستغلها، فتمططها وتقلصها وتتلاعب بها بصورة محكمة، بينما هناك نصوص تحترق من فرط تسليط الإشعاع الأسطوري عليها فتتدمر بنيتها وتخسر دلالتها لصالح المتون الموظفة. فلا يكون لذلك النص أي معنى بمنأى عن الأسطورة إن حضرت حضر، وإن غابت فقد سنده الدلالي.

المنهج الأسطوري يحرص على تماسك النصوص الأدبية أكثر من حرصه على تماسك المتون الأسطورية المرجعية

طبعا ومن خلال تقنية المطاوعة/المرونة (La flexibilité)، يتم تطويع الأسطورة لمقتضيات العمل الأدبي، وفي العادة يجد المؤلف سهولة كبيرة في الاقتباس من الأسطورة، وبمقدار تطويع الأسطورة للنص بقدر ما يبرهن هذا على مقاومة العنصر الأسطوري لمختلف الاختراقات المحتملة، فإن هو تمطط وتمدد وتقلص فإنه لا ينمحي، بل يفرض نفسه على النص والناص اللذان ينساقان لقوته في النهاية، إن الأسطورة مهما تبدلت وتلونت في تواردها في الأعمال الأدبية فلا بد أن تحافظ على تركيبها الأدنى الذي يحفظ لها التميز والخصوصية كنص مرجعي.

وماذا عن واقع النقد الأسطوري في الجزائر وفي الوطن العربي؟

محمد الأمين بحري: يرود هذا الاختصاص من النقاد العرب أسماء عرفت في مجال الأدب المقارن، لأن هذا المجال من أقرب العلوم الأدبية من الأسطورة ونقدها، ومنهم على وجه الخصوص: محي الدين صبحي، فراس السواح، وعبده عبود، حنا عبود، نصرت عبد الرحمن، مصطفى ناصف، وريتا عوض. وتراوحت أعمالهم بين ترجمات مؤلفات النقد الأسطوري من أصولها الغربية. وتقديم مقاربات تطبيقية وتحاليل للرموز الأسطورية في مدونات عربية، وتطبيقات لمناهج النقد الأسطوري ومقولاته على نصوص عربية ذات نزوع أسطوري.
أما في الجزائر، فتعد التجربة جديدة ومحتشمة، نظراً لقلة أخصائيي هذا المبحث النقدي، ومتطلباته العلمية التي تقف عقبة كؤوداً في وجه كثير من الباحثين البسيط واليسير والمتناول. ولعل الطبعة الأولى لملتقى وطني في «النقد الأسطوري» التي كانت هذه السنة في جامعة سطيف خير دليل على حداثة هذه التجربة التي عرفت نقاشات حادة حول إشكالات التأسيس والتجنيس لهذا النوع من النقد. ومن أبرز دارسي النقد الأسطوري في الجامعة الجزائرية نجد الأستاذ عبد المجيد جنون وعبد الحليم منصوري من جامعة عنابة، والدكتور عبد الله حمادي والأستاذة هجيرة لعور. ومن جامعة وهران، الدكتور ناصر اصطمبول، ومن جامعة الجزائر تيبازة حاليا، الدكتور عبد الحميد بورايو. وغيرهم ممن كانت لهم جهود مقاربات نقدية في موضوعات ذات طابع ميثولوجي، فضلاً عن تأطيرهم لرسائل ومذكرات في هذا النوع من النقد لطلبة الدراسات العليا، تحولت معظمها إلى مراجع لا غنى عنها في مجال النقد الأسطوري.

الرجوع إلى الأعلى