هز حادث وقوع الشاب عياش محجوبي داخل بئر ارتوازية بعمق 30 مترا بمنطقة أم الشمل ببلدية الحوامد جنوب المسيلة، منذ ستة أيام مشاعر الجزائريين في كل أرجاء الوطن، الذين أعلنوا تعاطفهم و تضامنهم مع الشاب المنكوب و عائلته، و تابعوا كل تفاصيل عملية الإنقاذ التي قام بها السكان و أعوان الحماية المدنية، و في خضم انتظارهم لبشرى نجاته من قبضة البئر الملعونة التي نسجت حولها الخرافات و الأساطير، صدمتهم مساء أمس فاجعة وفاته بعد معاناة طويلة، لكن الجهود متواصلة لانتشال جثمانه حتى لا يكون البئر قبرا له. مديرية الحماية المدنية لولاية المسيلة أعلنت مساء أول أمس عن وفاة الشاب عياش محجوبي، البالغ من العمر 31 سنة.
و قال العقيد فؤاد لعلاوي، مدير تنظيم وتنسيق الإسعافات بالمديرية العامة للحماية المدنية، الذي قدم إلى موقع البئر أول أمس السبت، بمعية فرقة مختصة، للنصر أن عملية إنقاذ الضحية التي بدأت منذ سقوطه داخل البئر، حيث علق داخل ماسورة حديدية الثلاثاء الماضي، شهدت بعض الصعوبات التي حالت دون انتشاله إلى غاية مساء أمس الأحد، ومن بينها الأرضية الوعرة و تدفق المياه الجوفية على محيط الأنبوب بغزارة، مشيرا إلى أن عناصر الحماية المدنية يواصلون الحفر، قصد انتشال جثمان الضحية الذي علق في أسفل البئر.
وقد مكنت عملية الإنقاذ من خلال حفر حوالي 30 مترا في غضون 06 أيام، من إزالة مئات الأطنان من الأتربة والأوحال،  مع توفير الحماية للقائمين بأشغال الحفر، في حين شهدت المنطقة تضامنا واسعا من قبل آلاف المواطنين الذين هبوا لمؤازرة عائلة الضحية و مساندة الحماية المدنية في عملية إنقاذ الشاب عياش عندما كان على قيد الحياة، لتتحول المهمة إلى عملية انتشال، بعدما تم تأكيد خبر وفاته ، متأثرا بعوامل طبيعية ، منها الجوع، البرد،  العطش والخوف.  
عياش يوقع شهادة وفاته  أمام آلاف المتعاطفين
هكذا وقع الشاب عياش محجوبي القاطن بمنطقة أم الشمل، التابعة إداريا لبلدية الحوامد، جنوب ولاية المسيلة ، على شهادة وفاته بطريقة غير مسبوقة ، و المؤكد أنه لم يكن يتوقع أن تشد إليها الرأي العام الوطني ، بعد أن أصبح على مدى 06 أيام كاملة،  مادة دسمة لمختلف وسائل الإعلام ، بعدما نصبت عشرات القنوات ووسائل الإعلام منصاتها وكاميراتها بموقع الحادث،  وتحولت أم الشمل إلى محج للمواطنين من جميع ولايات الوطن الذين دفعهم تعاطفهم مع الشاب عياش إلى البقاء لأيام هناك ، متحدين برودة الطقس والبعد عن أهاليهم.  
قصة الشاب عياش  التي حيرت مئات الآلاف من الجزائريين الذين يتابعون باهتمام نهايتها التراجيدية، بإعلان مديرية الحماية المدنية أمس عن وفاته، تنقل النصر فصولها و الأسباب التي أدت إلى المأساة التي جلبت إليها فضول الكثيرين.
السيناريو بدأ قبل يوم من الحادثة و تحديدا يوم الاثنين الماضي ، بوفاة طفلة تبلغ من العمر 10 سنوات من أبناء جيرانه، فأيقظت وفاتها جرحا لازمه منذ سنة 2006 ، حيث استيقظ ذات يوم على فاجعة اغتيال شقيقه من قبل مجموعة من الأشخاص الملثمين عندما كان في ورشة يعمل بها بالمنطقة ، وهي الجريمة التي ظلت غامضة و لم تنكشف فصولها إلى غاية اليوم و لم يتم التعرف على الجناة لينالوا عقابهم.
علما بأن للشاب عياش أربعة إخوة يتوسطهم ، و يعيش والداه لوحديهما بمنطقة جبل محارقة ببلدية مسيف المجاورة ، و كان يعاني منذ فترة من أمراض عضوية و يتناول أدوية تسببت له في مضاعفات نفسية ، أثرت على شخصيته و جعلته ينعزل عن الأصدقاء والأهل،  إلا صديق وحيد ظل يرافقه أحيانا في البراري و يعزفان معا على الناي.
وفي يوم الواقعة صبيحة الثلاثاء، ألح الضحية على شقيقه الأكبر بلخير ليصطحبه معه إلى مدينة بوسعادة، لأنه  كان ذاهبا إلى الطبيب لفحص ابنته المريضة، لكنه رفض اصطحابه،  ما دفعه إلى البقاء وحيدا ، و المشي بين التلال بعد أن تناول وجبة الفطور.
 و في حدود الساعة الواحدة ظهرا، توجه عياش نحو البئر اللعينة التي بقيت مهجورة منذ سنة 2002 ، وهنا حدث ما لم يتوقعه أحد من أهله ، لقد نزع القشابية و نزل إلى الأنبوب،  و بقي ممسكا بالجزء العلوي من البئر بينما كانت يده الأخرى ممددة نحو الأسفل.
طفل يرعى الغنم شاهده ينزل الى البئر
كان أحد الأطفال من أبناء المنطقة يرعى الأغنام على بعد أمتار قليلة من البئر، فرأى عياش يمر بالقرب منه، فنادى عليه كعادته، لكنه لم يرد عليه.
راح الطفل يقتفي أثر قدميه إلى أن بلغ مكان البئر، كما قال،  فوجد قشابية عياش ملقاة غير بعيد عن مكان البئر،  وهنا راح مهرولا نحو أصدقائه وأهله، و دعاهم لنجدة عياش، ليتحول المكان  من حالة الهدوء التي تطبع منطقة أم الشمل، إلى مزار لمئات المواطنين في الساعات التالية، حيث حاولوا إنقاذه باستعمال حبل بطول 11 مترا ، و كان الشاب عالقا على مسافة قريبة ،مصابا في ذراعه الأيمن من جراء سقوطه داخل الأنبوب الذي لا يتجاوز عرضه 40 سنتيمترا.
وبعد فشل محاولاتهم لإنقاذه، اتصلوا بالحماية المدنية التي تنقلت إلى عين المكان في حدود الساعة الثانية زوالا ، و شرع أعوانها، كما يقول شهود عيان، في عملية الإنقاذ ، ثم قرروا حفر بعض الأمتار من الأتربة و إزالتها من الموقع على اعتبار أن البئر التي حفرت سنة 2002 مهجورة ، بسبب عدم وجود المياه على عمق يفوق 100 متر،  إلا أن أشغال الحفر ، وعند الوصول إلى حدود 27 مترا بعد يومين من الأشغال ، اتضح تواجد مياه أعاقت جهود الإنقاذ قبل أن تستمر العملية و تصل بالقائمين على خلية الأزمة المشكلة بعين المكان، إلى اليوم السادس، أي إلى غاية نهار أمس، لتتحول العملية من محاولة إنقاذ الشاب عياش حيا، إلى انتشال جثمانه بعدما تأكد الجميع من كونه قد فارق الحياة.
توافد آلاف المواطنين زاد من صعوبة مهمة فرق الإنقاذ
يقول شهود عيان من أصدقاء الضحية،  أنه كان في الساعات الأولى وإلى غاية اليوم الثالث أي الخميس الماضي ينادي ويصرخ ، و بدأ صوته يتناقص إلى أن انقطعت توسلاته في حدود الساعة العاشرة صباح الخميس وفقد الاتصال معه نهائيا.
 و أضاف محدثونا أنه كان يصرخ قائلا « خرجوني يرحم والديكم « و «.. يا ياما ياما أرواحي ليا..» توسلات أدمت قلوب الحضور وضاعفت من عاطفة التضامن لديهم وبلغت تلك الكلمات أسماع المئات ، ثم الآلاف من المواطنين الذين هبوا جميعا إلى أم الشمل التي لمت شمل كل هؤلاء الناس من أجل إنقاذ عياش محجوبي الذي ذاع صيته وحيرت مأساته و جلبت اهتمام السلطات المحلية والولائية والمركزية التي تفاعلت مع حالته، لكن هذا التضامن والتعاطف تسبب في تشتيت جهود الإنقاذ.
سارعت قيادة الدرك الوطني إلى إرسال تعزيزات كبيرة إلى عين المكان لتأمين المنطقة ومنع المزيد من المواطنين من التوافد على موقع الحفر ، بعد بروز وجود مخاوف من وقوع انهيارات ترابية، يمكنها أن تؤدي إلى وقوع ضحايا ويمكنها كذلك أن تشكل خطرا على عناصر الحماية المدنية الذين استعملوا جميع الإمكانيات المتاحة من آليات حفر وعتاد ومضخات لامتصاص كميات المياه التي باتت في كل مرة تتدفق أكثر ، مشكلة عائقا أمام الوصول للضحية وانتشاله.
والد عياش تابع عمليات الإنقاذ  عن قرب

والد الضحية المجاهد عمي عيسى ، 80 سنة،  بدا صابرا متحملا الحزن و التعب ، و هو  يتابع من مكان قريب محاولات فرق الإنقاذ التابعة للحماية المدنية والمواطنين والذين بذلوا أمام ناظره الكثير من الجهد والتضحيات طيلة 06 أيام ، حيث كان يردد أنه «لا يمكنه أن يرد قضاء الله وقدره ، وأنه يحتسبه إن مات عند الله وإن عاش فانه سيرى بنفسه قيمة الشعب الجزائري الذي كان ولا يزال شبيها بمادة الزئبق التي كلما حاولت أن تشتتها وتفرقها تتجمع من جديد وتلتحم أمام كل محنة تصيب هذه البلاد المسقية بدماء الشهداء» مضيفا أن ابنه عياش لا يعاني من أي مرض عقلي ، كما أشيع من قبل البعض،  لكنه يعاني من مشاكل نفسية نتيجة ظروفه الاجتماعية،  لأنه بطال ولم تتح له الفرصة ليشكل أسرة .
و كان الوالد يردد على مسامع من حوله،  أنه وإن فقد ابنه عياش ، فإنه كسب حتما ملايين الجزائريين الذين اعتبرهم جميعا أبناءه وهو فخور جدا بما يراه من تآزر وتضامن للجزائريين بينهم، في وقت المحن وهذا مؤشر إيجابي على أصالة الجزائريين، كما قال.
البئر مهجورة لأكثـر من 16 سنة
يظن عمي عيسى أن البئر التي ظلت مهجورة منذ أكثر من 16 سنة، «مسكونة بالجن» وأنه تم وضع غطاء فوقها، ليبقى الجميع في منأى عما يمكن أن تشكله من مخاطر، حيث قال إن هناك وقائع كثيرة تؤكد صحة هذا التوهم، وما حدث لعون الحماية المدنية الذي حاول الدخول لإنقاذ عياش لا يدع مجالا للشك بوجود جنية تسكن البئر، حسبه،  حيث يقول بعض شهود العيان أنهم لاحظوا على عون الحماية المدنية علامات توحي أنه شاهد شيئا غريبا أو تعرض إلى مس من الجن، كما دلت ملامح وجهه و حركاته، حسبهم، ليتم نقله من قبل زملائه إلى مكان بعيد وربما إلى المستشفى . وغذت المأساة خرافات وشائعات غريبة تقول أن أحد أصدقائه سمع في بداية عملية الإنقاذ ، صوتا في  البئر يردد كلمات بدأوا  يصدقونها بمرور الوقت، فقد قالت الجنية، حسبهم، أنهم كلما حفروا مترا تنزل بعياش  مترين.
و في كل مرة كان مسؤولو الحماية المدنية يصرحون أن عملية الحفر أوشكت على نهايتها تزداد العملية تعقيدا و تواصلت رغم كل شيء عمليات الحفر إلى اليوم السادس على التوالي  .
للإشارة فإن البئر أغلق سنة 2002 بسبب عدم وجود مياه، لكن المياه ظهرت هذه المرة على مستوى 27 مترا ، وهو ما جعلهم يواصلون الحفر و إزالة الطمي و الأتربة والمياه إلى غاية ساعة متأخرة من مساء أمس الأحد، و تم الاستنجاد بفرق مختصة من المديرية العامة للحماية المدنية، لكنها وجدت هي الأخرى صعوبات في انتشال جثمان  الضحية.
فارس قريشي  

الرجوع إلى الأعلى