ندرة في مهن البناء و السباكة و الكهرباء تلهب الأسعار


تحوّل البحث عن حرفي للقيام بأشغال مهما كانت بسيطة، إلى مهمة شاقة تتطلب علاقات خاصة للحصول على دهان أو سباك محل ثقة، كما لا يتم ذلك إلا بمقابل باهظ و وفق شروط قد تحوّل من استعان بالبنّاء، إلى مساعد له و تجعله تحت تصرفه، فمختلف الأشغال التي تتطلب عمالة مؤهلة، أصبحت تتم بأسعار خيالية في ظل ندرة الكثير من المهن، ما دفع إلى الاستعانة بحرفيين قدموا من سوريا و المغرب لسد العجز.

لا يوجد شخص لم تكن له تجربة مع أصحاب الأعمال اليدوية، من بنائين و سباكين و دهانين و غيرهم، فكل شخص نسأله يسرد لنا قصة معاناته في ترميم أو بناء منزل أو انجاز بعض الأشغال، و الشيء المشترك بين كل العينات التي تحدثنا إليها، هو عدم الرضا عن هذه الفئات المطلوبة بكثرة في المجتمع، فأول شيء يفعلونه قبل التفكير في بناء البيت أو ترميمه، هو إعداد ميزانية خاصة ثم إيجاد الشخص الذي يشهد له بالكفاءة و حسن السيرة ، لكن  ذلك يحدث بعد بحث متواصل و اتصالات في جميع الاتجاهات مع المعارف و الأصدقاء.


واسطة و انتظار للظفر بسباك أو دهان

إيجاد “ماصون” أو “بلومبي” بات أصعب من البحث عن جراح ماهر لإجراء عملية معقدة في القلب، هذا ما قاله لنا أحد المواطنين، مؤكدا أن البحث عن بناء استغرق منه 4 أشهر كاملة، فيما ذكر آخر بأنه قام بجلب عدة بنائين لإنهاء التشطيبات داخل منزله لكنه كان يضطر للتغيير في كل مرة و ذلك بسبب التصرفات التي يقومون بها و غيابهم المتواصل و كذا عدم الإتقان في أغلب الأحيان.
فيما يقول آخر بأن معظم العمال الذين تعامل معهم يطلبون الحصول على تسبيق مالي، و بعد ذلك يختلقون أسبابا للغياب، و قد يستغرق غيابهم عدة أيام دون إعطاء أي توضيح، و دون أي اتصال من أجل الاعتذار أو منح سبب أو حجة، و إذا حاولت الاتصال بهم فإن الهاتف يكون مغلقا أو نسيه المعني في المنزل.
و تحدث آخرون عن قصص طريفة في تعاملاتهم مع أصحاب هذه المهن، فسليمان أكد بأنه أصبح مساعدا للبناء الذي قام بجلبه للقيام بأعمال تشطيب داخل منزله، موضحا بأن البناء الذي تعامل معه لم يجلب أي شخص لمساعدته و ذلك حتى لا يضطر إلى الاقتطاع من الأجرة التي سيتقاضاها، و لأنه لاحظ بأنه أصبح يستغرق وقتا كبيرا، اقترح عليه مساعدته، لكن البناء أعجبه الأمر و تمادى كثيرا إلى درجة أنه أصبح يطلب منه حمل المواد و خلط الإسمنت و الرمل.
أما عبد الله فذكر بأنه استعمل عدة بنائين من أجل إتمام بناء منزله الصغير من 3 غرف و مطبخ و حمام، و أحد البنائين الذين استعملهم كان جاره، و كان يتغيب باستمرار و في أحد المرات غاب 10 أيام متتالية، و مع أنه يسكن على مقربة منه غير أنه لم يتمكن من إيجاده طوال الأيام التي غاب فيها، و أكثر من ذلك فقد اكتشف عبد الله بأن أحد البنائين الذين اشتغلوا بمنزله، حيث قام بتلبيس الجدران بالإسمنت، قام بجلب بناء آخر يشهد بكفاءته في المنطقة من أجل القيام بنفس العملية في منزله الذي كان يقوم ببنائه.
و ذكر سيف الدين بأن البناء الذي أحضره والده للقيام بأشغال تكميلية في الطابق العلوي لمنزلهم، استغرق عاما كاملا، و يقول أنه أصبح كأحد أفراد العائلة يدخل و يخرج متى يشاء، و يطلب تناول الطعام إذا حان وقت الغذاء، و كذلك بالنسبة لوقت القهوة، أما عن حججه للغياب فهي متعددة، و أكثرها وفاة أحد أفراد العائلة.
و عن الأسعار التي يتقاضاها أصحاب تلك المهن تبقى باهضة حسب ما أكده أغلب محدثينا، فحمزة الذي قام بوضع البلاط و الخزف في مطبخ شقته الصغيرة، أكد أنه دفع 12 مليون سنتيم كأجر للشخص الذي استغرق 15 يوما في العملية، كان يعمل خلالها لنصف يوم فقط و غاب لأكثر من 5 أيام، ليتساءل حمزة حول الأموال التي قد يجمعها هذا البناء في ظرف شهر واحد.
اقتربنا من عدد من أصحاب المهن و استفسرنا عن أسباب انشغالهم الدائم، و كذلك الأسباب التي تدفع بالناس إلى الحديث عنهم بطريقة أقل ما يقال عنها أنها سلبية.

الورشات الكبرى تخلف ندرة في اليد العاملة

قال نور الدين الذي يشتغل في مجال البناء منذ أكثر من 25 سنة، بأن الحديث الذي يدور في الشارع منذ عدة سنوات حول عدم التزام ممتهني البناء، له أسباب كثيرة و متعددة.
و ذكر محدثنا بأن هناك أصناف من البنائين، فهناك بناؤون يقومون بالأشغال الكبرى، كبناء منزل من الأساس، و هناك صنف آخر يقومون بأشغال ما يسمى بالمرحلة الثانية كالبناء الداخلي، و تلبيس الجدران بالإسمنت، بالإضافة إلى الصنف الثالث و هم الذين يقومون بالأشغال الفنية كوضع البلاط و تغطية الجدران بالخزف و غير ذلك، و هؤلاء الأصناف يقول محدثنا بأن الطلب عليهم كبير جدا، لأنهم يعرفون بين أصحاب المهنة بالبنائين المؤهلين، نظرا لتخصصهم و إتقانهم، أما الصنف الرابع حسب محدثنا فهم بناؤون يقومون بكل هذه الأعمال، و دون أن يتحكموا فيها بإتقان، و هم الصنف الأكثر توفرا، و الذين تنطبق عليهم أكثر السلبيات التي يتم تداولها بين الناس حول مهنة البناء حسب محدثنا.
أما حسام و هو بناء شاب، بدأ المهنة في سن مبكرة، أكد بأن من الأسباب التي أدت إلى تقلص عدد البنائين و بالأخص المؤهلين منهم، هو التوسع العمراني الكبير، فالكثير من المواطنين يقومون حسبه ببناء منازل و فيلات خاصة، كما أن الورشات الكبرى لبناء التجمعات السكنية و العمارات من طرف الدولة و الخواص انتشرت بشكل كبير جدا في السنوات الأخيرة، مما أدى إلى توظيف عدد هائل من هذه الفئة، الذين يغريهم تأمين الضمان الاجتماعي حسب ما أكده محدثنا، الذي ذكر بأن أحد الأسباب الأخرى هو الأجور التي تقدمها بعض المؤسسات الأجنبية و التي تدفع بالكثير من المهنيين المؤهلين للاتجاه نحوها، على حد تأكيد محدثنا الذي ذكر بأنه يعرف الكثير من البنائين الذين يعملون في ورشات تابعة لمؤسسات تركية و قد تصل أجرتهم اليومية فيها إلى 5 آلاف دج، مضيفا بأن المواطنين أصبحوا يلجأون إلى إعادة تهيئة المساكن التي يستفيدون منها في إطار مختلف الصيغ، لذلك فإن الطلب متزايد على أصحاب المهن اليدوية.   
كشف لنا أحد المقاولين بأنه أصبح يتم الاستعانة بالعمالة المغربية في ورشات البناء الخاصة، حيث أخذت الظاهرة في الانتشار بشكل كبير في الأشهر الأخيرة حسب تأكيده، حيث أن الكثير من الأشخاص المقبلين على بناء فيلات أصبحوا يتجهون للبحث عن عمال قادمين من المغرب، و ذلك بالنظر إلى السمعة الجيدة التي يتصف بها هؤلاء، خاصة فيما يتعلق بالأعمال الفنية كأشغال التبليط و خزف الحمامات و المطابخ و أشغال الجبس و حتى الدهان، يضيف محدثنا.
و عن كيفية انتشار هذا النوع من العمالة يؤكد، بأن قدومهم بدأ منذ سنوات، من خلال بعض الحرفيين المختصين في أشغال الجبس الفني، و الذين أشرفوا وقتها على بعض الورشات في عدد من الجامعات، حيث لاحظوا نقص العمالة في مجال البناء، و الطلب المتزايد عليها، عندها قرر بعضهم الاستقرار و العمل في الجزائر، و من وقتها بدأ قدوم المغاربة إلى الجزائر للعمل، و زاد الإقبال عليهم من قبل أصحاب الورشات، خاصة أنهم يقومون بعمل جيد و متقن حسب محدثنا، إلى درجة أن بعضهم استقر في الجزائر و أصبح يعمل في استقدام العمال فقط.
إلى جانب ذلك أكد محدثنا بأنه أصبح يتم الاستعانة بالعمالة السورية، حيث يتجه الكثير من اللاجئين السوريين إلى العمل في مجال البناء و بالأخص كمساعدين مقابل أجرة يومية تصل إلى 1500 دج


مهنيون يستبدلون نشاطهم بشاحنة “أونساج”


مشكل نقص السباكين و الدهانين و الكهربائيين و بعض المختصين في أشغال ضرورية بورشات البناء، يطرح بقوة أيضا، و هو الأمر الذي أكده فارس و هو “بلومبي” شاب احترف المهنة بعد سنوات من العمل كمساعد أين تعلم أصول المهنة.
يقول فارس بأن هاتفه النقال لا يتوقف عن الرنين من كثرة الطلب عليه، فهو يشتغل في جميع أيام الأسبوع من الصباح و إلى غاية ساعة متأخرة من الليل، دون أن يستطيع تلبية الطلب المتزايد عليه، كما أنه يقوم بجميع أنواع العمل الذي له علاقة بالسباكة و لا يرفض أي عمل، حيث يستلم ورشات خاصة بمنازل حديثة البناء، يقوم فيها بتركيب شبكات الماء و الغاز و حتى التدفئة المركزية، و بالمقابل يقوم في نفس الوقت بتلبية طلبات زبائنه من خلال أعمال لا تتطلب وقتا كبيرا، كتركيب حنفية أو سخان ماء أو مدفئة، أو إصلاح عطب بشبكة الماء أو حتى الصرف.
و عن سبب نقص اليد العاملة المختصة في السباكة  يؤكد محدثنا بأن من بين أهم الأسباب هو عدم توفر عمال مساعدين، حيث أن معظم العاملين في هذا المجال يشتغلون بمفردهم، و لا يجدون من يقبل بالعمل معهم كمساعد، مما يضطرهم إلى تضييع وقت كبير في أعمال كالحفر و مد الشبكات و غيرها، و لذلك تجد أصحاب هذه الحرفة دائمي الإنشغال على حد تأكيد محدثنا.
فيما ذكر جمال و هو مختص في الكهرباء، بأن المقبلين على بناء بيوت يعانون قبل إيجاد شخص مؤهل، من أجل وضع و تركيب شبكة الكهرباء و التي تتطلب عملا دقيقا، و أضاف محدثنا الذي يشتغل أيام العطل الأسبوعية بالورشات، بحكم عمله بمؤسسة خاصة، بأن عدد المؤهلين في هذا المجال قليل جدا، و معظمهم يشتغلون لوقت محدد من الأسبوع بحكم عملهم في مؤسسات عمومية على وجه الخصوص، حيث أن أغلب محترفي الكهرباء في الجزائر يشتغلون في القطاع العمومي، على حد تأكيده.
أغلب من تحدثنا إليهم من أصحاب هذه المهن أكد لنا و بأمثلة من الواقع أن من بين أهم عوامل نقص السباكين و الكهربائيين و حتى عمال النجارة و غيرها، هي برامج دعم الشباب التي تقدمها الدولة مثل وكالة دعم و تشغيل الشباب “أونساج”، مؤكدين بأن الكثير من الشباب الذين يعرفونهم كانوا يشتغلون بشكل عادي في هذه المهن، ثم استفادوا من برامج الدعم، حيث يقوم الكثير منهم ببيع العتاد مقابل 200 أو 300 مليون سنتيم، و الاحتفاظ بالسيارة المتحصل عليها في إطار الدعم، و الكثير منهم يتحول إلى التجارة أو يفتح محلا للأكل السريع.


دهن شقة بـ 10 ملايين وأسعار تقاس بكلفة المواد المستعملة

وقد لاحظنا أثناء إتصالنا بالعديد من المهنيين والمواطنين أن الأسعار غير مضبوطة ولا تستند إلى منطق واحد بل إلى حسابات معينة لا يعرفها إلا من يمارسون تلك النشاطات
فبالنسبة للبناء، كبناء قاعدة منزل مع الأعمدة و السطح فإن البناء و فريق عمله يتقاضون، أجرة تعادل نصف ثمن السلع المستخدمة في البناء، و كذلك الأمر بالنسبة للأعمال الداخلية كبناء الجدران و تغطيتها، أما بالنسبة لتركيب البلاط و الخزف فيحتسب بالمتر المربع و الذي يتراوح بين 700 و1000 دج ، و أحيانا يتم احتساب السعر حسب المجهود و الوقت، إذا ما رأى العامل بأن احتساب الأجر بطريقة المتر لن تعود عليه بالفائدة.
و يطلب عمال الدهن أيضا أجور مرتفعة حيث يتقاضون ما يعادل تكلفة السلعة بالنسبة لأنواع الدهن الغالية الثمن، حيث أن شقة من 3 غرف قد يصل سعر دهنها إلى 10 ملايين سنتيم.
و نفس الأمر تقريبا أصبح معمولا به من أجل مد شبكات الكهرباء و الغاز، حيث يطلب العاملون تقاضي أجر يعادل ثمن السلع المستخدمة، إذ يكلف مد شبكة بحمام و مطبخ حوالي 2 مليون سنتيم، أما بالنسبة للأعمال البسيطة فكل شخص يقيم مجهوده و يطلب أجرا قد يختلف كثيرا عن الأجر الذي يطلبه غيره.
عمال يرفعون مداخيلهم بمهن مربحة
استغل بعض الأشخاص خلال السنوات القليلة الماضية ندرة اليد العاملة في الكثير من المهن، و دخلوا الميدان معتمدين على خبرتهم في بعض المجالات و اعتيادهم على المهن الشاقة، من بين هؤلاء هشام و هو في الأربعينيات من عمره، يشتغل كعون أمن، فيما يقضي أيام فراغه التي تتيحها له هذه المهنة، في العمل في ورشات خاصة، هذا الشخص بإمكانه تركيب البلاط و الخزف، و تركيب شبكات الماء، كما يتقن أعمال الدهن و أشغال الجبس، باعتراف بعض من اشتغل لديهم.
و أكد هشام بأنه تعلم كل هذه الحرف و أتقنها، بعدما وجد نفسه مضطرا لإيجاد عمل إضافي يعيل به عائلته، مؤكدا بأنه كان يشتغل كمساعد في البداية لأيام معدودة من أجل التقاط بعض الأسرار من كل مهنة، ثم بدأ يعمل بمفرده، و في كل مرة كان يحسن من أدائه، إلى غاية التحكم فيها بشكل كامل، مؤكدا بأن الطلب يتزايد عليه يوما بعد يوم، خاصة أن الأجور التي يطلبها معقولة جدا بالمقارنة مع الأسعار المطروحة في سوق العمالة.

تحقيق: عبد الرزاق مشاطي

الرجوع إلى الأعلى