نساء يقهرن الخوف فوق أغصان شجر الزيتون في أعالي تيجلابين
قصدنا المكان، و نحن نحمل صورة قاتمة عن وضع أمني ،أقل ما يقال عنه، أنه لا يبعث الارتياح في النفس، و بدأنا التوغل في قلب بلدية تيجلابين  بولاية بومرداس، لم نكن نتوقع أن يكون المشهد مماثلا لما وجدناه ، ظننا أنها ستكون مدينة مهجورة، مهملة، سوداء بمخلفات مرحلة أمنية حرجة، فاكتشفنا واقعا زهريا، وسط طبيعة خضراء خلابة، رسمت فيها مسالك تجعلك تعتقد أنك في بلد أوروبي ،الأوساخ فيها بنسبة  0 بالمائة من مساحتها، لنجد في الأخير ضالتنا.. سيدات كسرن هاجس الخوف، و وجدن مساحة شاعة من الحرية لمعانقة أشجار الزيتون في موسم جني يصبح فيه المكان حكرا على النساء.
روبورتاج: إيمان زياري
هكذا بدأت رحلتنا في محاولة تقريب صورة المرأة الجبلية في أعالي مداشر و قرى ولاية بومرداس، سعيا لتأكيد أو نفي ما باتت تعرف به المنطقة من سنوات الجمر، فقصدنا تيجلابين، واحدة من أهم تلك المناطق التي شهدت أحداثا كثيرة، غير أن الأوضاع عادت إلى سابق عهدها، إن لم نقل أحسن مما كانت عليه قبل التسعينيات، هي تيجلابين، التي لا تزال الجهات الأمنية تحرص على حماية المواطنين و الممتلكات  بين وسط مدينتها و ريفها.  
موسم جني الزيتون..حرية خالصة للنساء
خفنا في بادئ الأمر من امكانية تعرضنا لأي خطر، و نحن نحاول الوصول إلى سيدات الزيتون في أعالي الجبال الخضراء، فتلاشت الفكرة بمجرد الوصول إلى مدخل المنطقة الجبلية ، ليحل محلها أمن و طمأنينة لم نتوقع أن نجدها، بدأنا التسلل إلى القرى و المداشر و نحن بمرافقة واحدة من بنات المنطقة، فبدت الطريق سهلة، معبدة بطريقة جيدة، تشجعك على التوغل أكثر دون هوادة.
و نحن نحاول صعود الطريق الجبلي بمداشر تيجلابين، ظهر لنا ما كنا نبحث عنه، فالقانون في هذا الوقت تحديدا، يمنح حرية أكبر للنساء، و يضاعف من خرجاتهن، كيف لا و هو موسمهن، موسم جني الثمرة العالية ، كما قالت إحدى النساء، ثمرة ينتظرنها عاما كاملا، ليتجندن لجمع حبات الزيتون من مختلف أنحاء المنطقة، و تحويلها إلى زيت أو تحضيرها لتناولها كحبات كاملة.
كانت محطتنا الأولى أعلى منطقة بتيجلابين، قرية أولاد بومرداس، أين بدت المساكن منتشرة في طبيعة عذراء لم يسيطر الإسمنت على مساحات شاسعة منها، و لم تكن حركة السير كثيفة ما عدا نسوة يتنقلن بحرية تامة، سواء في شكل جماعات نسوية، أو عائلات مختلطة من الجنسين، تقربنا من احدى السيدات التي كانت تملأ دلاءها بحبات زيتون تنزعها من غصن مرمي على حافة الطريق، فقالت بأنها برفقة ابنها، و تعمل منذ نحو 20 يوما على جمع الزيتون من الأشجار التي تعود ملكيتها لمسجد القرية بعد كرائها من القائمين عليه.
و أضافت السيدة التي لم تتوقف عن عملها و هي تحدثنا، قائلة بأن نقص المنتوج هذه السنة يجعلهم يحتفظون به للاستهلاك العائلي، خاصة و أنه يعتبر مادة ضرورية في حياتهم اليومية، فيما يتم تحويله إلى المعاصر و بيعه للخواص إذا ما كان المنتوج كبيرا، و هو أمر تضيف السيدة محكوم بتغير المناخ، وكذا المنطقة و الفترة الزمنية.
سيدات في عرس الزيتون
تركنا السيدة في عملها مع ابنها، و عاودنا النزول أسفل القرى، فوقفنا على قوافل من النساء، بدا  المشهد و كأنه لعائلات تتوجه إلى حفلة ما، إلا أن العرس هذه المرة هو للزيتون بدون منافس، الجميع يرتدي ألبسة خاصة و أحذية  بلاستيكية، و ارتسمت بسمات عريضة على شفاه نساء و فتيات و حتى أطفال . الشابات يحملن سلال الخيزران تضم مأكولات خفيفة ، يكسرن بها جوع الظهيرة تحت ظلال أشجار الزيتون التي تغطي المكان، و إبريق قهوة يقال في المنطقة أنه عبق الرحلة الممتعة التي تحرصن على الاستمتاع بها بكل تفاصيلها.
هكذا كان حال الكثيرات، بين عائدات من عملية الجني و مقبلات عليها في صباح باكر .
تقول هجيرة أنهن يتجندن لهذه العملية بشكل جيد، و بكل حب يفضلن أن تكون جماعية، فتحضر بنات العائلات من المتزوجات و العازبات، و حتى بناتهن للمشاركة في أكبر حدث تعيشه الجبال الجزائرية، و إن كانت النسوة القاطنات بالمنطقة تقمن بالعملية بشكل يومي خلال الفترة الممتدة بين شهري نوفمبر و فيفري ،إلى غاية نفاذ المنتوج، فإن العاملات و المقيمات في مناطق بعيدة يجتمعن كل نهاية أسبوع ليشعرن بطعمها، و هن يتناولن غذاء خفيفا تفضل الكثيرات أن يختلط بزيت أول كمية من الزيتون تم جنيها هذا الموسم، فيما يتعالى دخان أغصان أشجار الزيتون المقطوعة لتحضير قوت تمتزج رائحته برائحة طبيعة تخلد في الأذهان.
كل عائلة تجمع زيتونها و "التويزة" تكافل اجتماعي مفروض

كنا نعتقد مسبقا أن أي شخص أراد جمع الزيتون من أي مكان فله ذلك، غير أن النساء بمشتة غيليسيا وحيا بتيجلابين، أكدن أن لكل عائلة شجرها الخاص، و من غير المسموح الاعتداء  على الممتلكات، إذ تعرف كل عائلة بالمنطقة أشجارها بكل دقة و أماكن تواجدها،و تحرص على ألا يقترب منها شخص غريب، إلا أن المساعدة ضرورية جدا في مثل هذه المناسبات،و تعد واجب.
و تؤكد النسوة أنه كثيرا ما يتم تنظيم ما يعرف بـ"التويزة" لجني الزيتون إذا كان الموسم جيدا، فيحضر الطعام، و تخرج النسوة باكرا في حدود الساعة السابعة، و لا تعدن إلى البيوت إلا في المغرب، و هن مثقلات بكميات كبيرة من الزيتون قد يستمر جمعها لأيام، حسب الكمية التي تحملها أغصان الأشجار.
الزيتون لا يحب الرجال
رغم مشقة عملية جني الزيتون، إلا أن سيدات القرى لا يستسلمن أمامها، فهن وحدهن القادرات على الصبر أمام التقاط حبات صغيرة من الأرض أو الأغصان، فترسخ في كل مرة فكرة أن الزيتون للنساء، في ظل غياب شبه تام للرجال عن حملة لا يشاهد فيها هذا الجنس إلا نادرا لحمل الأثقال أو زبر أغصان الزيتون و رميها للنساء لإفراغها من منتوجها.
هذا ما قالته لنا النسوة اللائي أكدن أن الساحة تخلى شبه كليا للنساء، فلا تشاهد غيرهن يتجول بكل حرية في هذه الفترة، فيمنع في بعض المناطق حتى على الرجال دخول الغابة، لأنها تمثل "حرمة" القرية و النساء يسيطرن عليها في عملية الجني و حتى جلب المياه من المنابع الطبيعية المنتشرة بالمنطقة، فيبدو كأن الزيتون لا يحب الرجال، و هم لا يبادلونه الحب . لكن هذا الحب لمسناه لدى بنات القرى اللائي لم يمنعهن ارتباطهن بعملهن في مناصب عليا من مقاطعة مادة يعشنها حتى النخاع، مثلما قالت حورية التي تعمل كإطار في البنك الوطني الجزائري.
تركنا تيجلابين بسكانها و مداشرها الرائعة، و بطبيعة خلابة و نظافة لم نشهد لها مثيلا ،حتى في أرقى أحياء الجزائر العاصمة، و عدنا أدراجنا أملا في أن يعم السلام كامل بلادنا و تمحى مخاوف البشر من شتى الظواهر الغريبة التي زحفت إلى مجتمعنا، و نشاهد نسوة نشيطات كنساء الزيتون في أعالي تيجلابين، و قرى و مداشر أنظف مما يتصوره العقل، و أطفال يتوغلون في الغابة و يقطعون كيلومترات فرديا و مشيا على الأقدام، لجلب مياه المنابع العذبة و هم لا يخافون و لا أهاليهم من شبح اختطاف الأطفال، فهل سنرقى يوما إلى حياة تنعم بها قلة من مواطنين يؤكدون أنهم محظوظون حقا؟
إ.ز



الرجوع إلى الأعلى