«رواق العطش»  الذي يشتري سكانه الماء في الصيف و الشتاء

تعد منطقة بوشقوف شرقي قالمة من بين الأحواض السكانية الكبرى التي عانت طويلا من أزمة مياه مستديمة حتى صارت تعرف برواق العطش الممتد من جبالة و بني مزلين غربا إلى بوشقوف و مجاز الصفا و وادي الشحم جنوبا وصولا إلى الشمال أين يتواجد وادي فراغة و عين بن بيضاء أو ما يعرف بالمنطقة المالحة التي تنعدم بها مصادر المياه العذبة تقريبا.  و قد انعكست أزمة مياه الشرب على حياة السكان و دفعت بهم إلى الاحتجاج في كل مرة للمطالبة بإيجاد حلول جذرية ترفع الغبن عن الأهالي و خاصة بالقرى و المشاتي التي تعد الأكثر تضررا من العطش و مشاكل أخرى مازالت تبحث عن حلول في ظل عجز مستديم تعاني منه خزائن بلديات الإقليم التي تعيش على إعانات الدولة و أصبحت غير قادرة على حل مشاكل المواطنين في مجال فك العزلة و توفير مياه الشرب التي صارت في مقدمة المطالب الاجتماعية المرفوعة من قبل السكان كما وقفت عليه النصر خلال زياتها لقرى و مشاتي المنطقة التاريخية الشهيرة التي احتضنت الثورة و قاعدتها الشرقية المتاخمة للحدود التونسية.
فريد.غ
أينما وليت وجهك وسط الربوع الشاسعة يقابلك السكان بشكاوى و احتجاجات لا تنتهي و غضب على مسؤولي الإقليم من رؤساء دوائر و بلديات و أيضا على السلطات الولائية التي يرى السكان بأنها قصرت في حقهم و حرمتهم من طرقات محترمة و مياه شرب عذبة و شيء من الكرامة و الإنسانية التي تكاد معانيها أن تختفي بين الأدغال و مسالك الطين التي ترفض استقبال الزائرين، فكلما سقطت الامطار سادت الأوحال في كل مكان.  
مشاتي شيشاط...طريق منهار، أزمة عطش وقصص مع الجوع و الموت  
بداية الرحلة الشاقة إلى إقليم البؤس و الشقاء كانت من مشاتي شيشاط المطلة على مدينة بوشقوف عاصمة الإقليم الشرقي بقالمة، من حي بورياشي الواقع بالضاحية الغربية للمدينة انحرفنا يمينا عبر مسلك ضيق يبدأ معبدا بين منازل الحي ثم يتغير شكله و يتحول إلى حفر و أكوام من التربة و الحجارة عندما تخرج من حي بورياشي أحد أقدم أحياء بوشقوف، من هنا تنتهي مظاهر الحضارة و يبدأ الوجه الآخر لحياة البؤس و الشقاء والإنسان الصامد فوق الأرض ينتظر الخلاص من ثالوث العزلة و العطش و الفقر الذي ينخر المجتمع الريفي و يبدد حلمه في حياة كريمة تبدأ بطريق معبد وماء عذب زلال يروي العطشى الذين أنهكهم الملح والكلس.  
عندما دخلنا المسلك الريفي المنهار ترددنا في البداية قبل أن نقرر المغامرة وراء سيارات الفرود التي تعد وسيلة النقل الوحيدة باتجاه شيشاط، سيارات قديمة و أخرى جديدة بدت عليها آثار الطريق واضحة جلية، عجلات متآكلة ومحركات تنفث دخانا كثيفا يحجب الرؤية كلما صادفها مرتفع حاد يتطلب جهدا كبيرا لعبوره، كنا نسمع ضجيج الصفائح المعدنية و هي تهتز بين الحفر و تكاد أن تقتلع من مواقعها بالسيارات المتهالكة التي تعمل على طريق شيشاط و بوشقوف وصولا إلى مجاز الصفا.  
كان الوضع صعبا للغاية لكن سيارات الفرود تعودت عليه بالرغم من الخسائر الكبيرة التي تلحق بها و تدفع بأصحابها إلى حافة الإفلاس فينسحبون من المعركة الخاسرة و يتركون المغامرة لرجال آخرين يدفعهم "النيف" إلى فك الحصار عن أهاليهم المحاصرين بعض الوقت قبل أن يستسلموا تحت تأثير مسلك منهار لا تقوى عليه سوى الجرارات و الحمير المنتشرة في كل مكان فهي الوسيلة الوحيدة لقهر العزلة و البحث عن مصادر المياه و جلب الحطب و المؤن الغذائية عندما يطبق الشتاء على الربوع و يعزل المساكن الريفية عن بعضها البعض.  
بعد مسيرة شاقة لحقنا بسيارة فرود وسط شيشاط عندما توقفت لإنزال مسافرين كانوا بمدينة بوشقوف لشراء المؤن الغذائية و العلاج و زيارة الأقارب و مشاركتهم الحفلات و المناسبات العائلية.  
المسافة بين بوشقوف و قرى و مشاتي شيشاط لا تتجاوز 5 كلم لكنها تبدو مسافة طويلة و شاقة بسبب انهيار الطريق الذي يربط أيضا تجمعات سكانية أخرى تابعة لبلدية مجاز الصفا تستعمل هذا المحور الريفي الهام للوصول إلى مدينة بوشقوف و عاصمة الولاية التي تبعد بنحو 30 كلم من الإقليم الشرقي الذي يضم عشرات القرى الصغيرة و تجمعات جبلية تعد الأكثر تضررا من العزلة و انعدام الرعاية الصحية و مرافق التعليم و يتنقل أهلها باستمرار إلى المدن المجاورة عبر مسالك منهارة تنقطع تماما عندما تسقط أمطار الخريف و الشتاء.  
دهامشية عبد الله سائق سيارة فرود آسيوية تعمل بين بوشقوف و شيشاط يتحدث عن معاناته مع الطريق منذ سنوات طويلة و معاناة السكان الذين قرروا الصمود فوق الأرض و مواجهة العزلة و نقص المرافق في انتظار تحرك السلطات الولائية لفك الحصار المضروب عليهم منذ انهيار المسلك الريفي قبل عدة سنوات.
" أعمل على طريق بوشقوف شيشاط منذ مدة طويلة، انقل الناس باستمرار باتجاه مدينة بوشقوف و اعيدهم إلى مشاتيهم عبر الطريق المنهار، انظروا إلى هذه الحفر و أكوام الحجارة والأتربة، هل تستطيع السيارات الصغيرة السير هنا و هي محملة بالناس و البضائع، سيارتي تتعطل باستمرار و ما أقبضه من مال مقابل نقل السكان أنفقه في إصلاح السيارة التي تتعرض لأعطاب باستمرار، مؤخرا فقط أصلحت المحرك بخمسة ملايين سنتيم لكنه يوشك على التعطل من جديد، انظروا كيف ينبعث منه الدخان بكثافة و رغم هذا فانا متضامن مع أهالي شيشاط و مازلت انقلهم باستمرار كما يفعل بعض سائقي الفرود الآخرين الذين يعملون على طريق شيشاط، نتمنى أن يصلحوا الطريق و يفكوا الخناق عن السكان، لقد تعبوا كثيرا و أنا اعرف معاناتهم أكثر من غيري لأنني أعيش معهم كل يوم و أعرف معنى العزلة و البؤس الذي يسكن المنطقة منذ سنوات طويلة".  
نقيب مخلوفي أحد سكان شيشاط وجدناه في سيارة الفرود عائدا إلى منزله الريفي يتحدث هو الآخر عن الحرمان الذي يعيشه السكان بسبب العزلة موجها نداء إلى والي الولاية من أجل التدخل و ترميم الطريق المنهار على الأقل في انتظار تعبيده كما وعدهم بعض المسؤولين المحليين في وقت سابق.  
"وعدونا بإصلاح الطريق و لم يفعلوا، عدد كبير من السكان هربوا بسبب العزلة، التلاميذ يتوقفون عن الدراسة في سن مبكرة، زوجتي وضعت مولودها هناك في المنخفض القريب من الوادي قبل أن تصل إلى المستشفى بسبب انعدام وسائل النقل التي ترفض العمل على طريق شيشاط، نطالب بتدخل والي الولاية لإصلاح الطريق الذي تستعمله 3 مشات هي شيشاط، الشطاح و مكاسة، يسكن عدد كبير من الناس هنا لكنهم محرومون من الطرقات و مياه الشرب، نحن نعاني منذ سنوات طويلة و لم نعد قادرين على الصمود لسنوات أخرى".
الطفلة أمينة مخلوفي..مأساة إنسانية صنعتها العزلة و الفقر  
لم تنم ليلة كاملة بسبب البرد و الجوع داخل منزل ريفي وسط شيشاط، لكنها قررت الذهاب إلى المدرسة في الصباح الباكر رفقة مجموعة من تلاميذ شيشاط، كان يوما ماطرا شديد البرودة، أطفال صغار بالكاد يتحركون وسط الأوحال و برك المياه المتجمدة باتجاه مدينة بوشقوف للالتحاق بمقاعد الدراسة ذات صباح من شتاء 2004.  
قطعت الطفلة مخلوفي أمينة البالغة من العمر نحو 8 سنوات مسافة قصيرة مع رفاقها لكنها توقفت بعد ذلك تحت تأثير الجوع و البرد و التعب فهي لم تنم ليلة كاملة بثياب مبللة عذبت جسدها النحيف، ابتعد عنها الرفاق فأسندت ظهرها إلى جدار متداع تنتظر المساعدة من عابر سبيل لم يأت في ذلك اليوم الحزين، مرت عدة ساعات و هي تصارع من أجل البقاء قبل أن تسلم الروح لخالقها في واحدة من أكثر المآسي الإنسانية إثارة للحزن و الأسى وسط اهالي شيشاط الذين مازالوا يتذكرون الطفلة أمينة و يعتبرونها ضحية العزلة و الفقر الذي عمر بمشاتي شيشاط سنوات طويلة.  
مأساة إنسانية دفعت بوالي قالمة السابق مختار بن ثابت إلى اتخاذ قرار بفتح مدرسة شيشاط الابتدائية المغلقة حتى و لو بقي فيها تلميذ واحد، كان ذلك قبل 12 سنة تقريبا و سميت المدرسة باسم شهيد ثورة التحرير المقدسة مخلوفي صالح أحد أجداد الطفلة أمينة مخلوفي التي رحلت في صمت تاركة وراءها مأسي إنسانية أخرى مازالت تلاحق أهلها إلى اليوم، عزلة و عطش و فقر بواحدة من أكثر الأقاليم تضررا خلال ثورة التحرير و خلال الازمة الامنية الطاحنة التي عصفت بالإقليم الشرقي منتصف التسعينات و مازالت آثارها إلى اليوم بمشاتي شيشاط التي صارت قرية ريفية تحمل أيضا اسم الشهداء الإخوة مخلوفي أجداد الراحلة أمينة الذين سقط الكثير منهم شهداء في سبيل الحرية و الاستقلال و لم يكونوا يعلمون بأن احفادهم سيموتون من بعدهم بردا و جوعا و عزلة تحت سفوح الجبال التاريخية الشهير أين دارت معارك ضارية مع قوات العدو عندما تأججت الثورة المظفرة متحدية طيران العدو و أسلاكه الشائكة التي نصبت غير بعيد عن شيشاط.
معاناة سكان شيشاط ليست مع العزلة و الفقر فقط، حتى العطش فعل بالسكان ما لم تفعله الطرقات المنهارة في كل الاتجاهات، مياه مالحة و أخرى محملة بالكلس و حنفيات جافة و شاحنات حاملة للصهاريج تجوب المنطقة على مدار الساعة تقريبا لتزويد السكان بمياه الشرب و ضخ كميات أخرى في أحواض و خزانات صغيرة يستعملها السكان لسقي المواشي التي تعد المصدر الرئيسي للمعيشة إلى جانب زراعة الحبوب و الأشجار المثمرة.  
يشترون المياه و يخزنونها على مدار السنة بشيشاط
يقول حجايلية عبد الرشيد أحد سكان شيشاط متحدثا عن ازمة العطش بالمنطقة مناشدا السلطات الولائية بالتدخل و إيجاد حل للعزلة و أزمة المياه.  
"توجد هنا مياه قليلة لكنها غير صالحة للشرب، فيها كلس كثير، 3 مشات تشتري مياه الشرب للإنسان و الحيوان".
و يطالب سكان مشاتي شيشاط ببناء خزانات و جلب المياه الصالحة للشرب من القناة العملاقة التي تزود مدينة بوشقوف بالمياه انطلاقا من آبار حلية و حمام برادع و سد بوحمدان.  
و يعتمد اهالي المنطقة على الجرارات الفلاحية و السيارات النفعية و الاحمرة لجلب المياه من مناطق مجاورة بعد أن كلفتهم عمليات شراء مياه الشرب التي ارتفعت اسعارها في السنوات الأخيرة و لم يعد كثير من السكان قادرين على شراء كميات كافية للشرب و سقي المواشي مصدر المعيشة الرئيسي بشيشاط موطن البؤس و الشقاء المتطلع إلى مستقبل جديد.  
ولم ينكر سكان المنطقة المنجزات التي تحققت هنا في السنوات الأخيرة كالبناءات الريفية المنتشرة في كل مكان و خطوط الإمداد بالكهرباء و برامج الدعم الفلاحي لكن وضعية الطرقات و نقص المياه مازالت مشاكل مستعصية حالت دون تحسين معيشة السكان و مساعدتهم على الاستقرار بواحدة من أحسن المناطق انتاجا للحبوب و المواشي و الأشجار المثمرة.

الرجوع إلى الأعلى