بدأت بعض أسباب حالات الانتحار المتصاعدة بقالمة تنكشف بوضوح، و بشكل صادم، لم يكن أحد من عامة الناس يتوقعه، قبل أن يخرج رجال التربية و القانون و الدين و الطب النفسي و العقلي بتصريحات جدية مقلقة أول أمس الخميس، في يوم دراسي دعت إليه جمعية أولاد الخير و جمعية الفجر ببلدية الفجوج، لتسليط الضوء على الظاهرة الخطيرة و البحث عن الأسباب و الحلول الممكنة  للحد منها.
أكد المشاركون في اليوم الدراسي من الدرك الوطني و الحماية المدنية و الجامعة و الصحة و الشؤون الدينية و مواطنون، بأن الانتحار المتصاعد بالمنطقة، يدعو إلى التحرك الجدي و إشراك الجميع في البحث عن الأسباب و الحلول، و تحمل المسؤولية بكل شجاعة، حتى لا يتفاقم الوضع أكثر، و يسقط المزيد من الضحايا، خاصة الشباب الأكثر عرضة للانحراف و الإحباط و اليأس و الوهم المدمر.
مهلوسات مدمرة و مجتمع مستقيل
بدت تصريحات ممثل الدرك الوطني أكثر واقعية و جرأة ، عندما كشف عن بعض مسببات الانتحار بقالمة، مؤكدا بأن الفقر ليس وحده السبب في حالات الانتحار التي تم التحقيق فيها، مضيفا بأن شابا من عائلة ثرية كان مدللا ينعم بكل خير، لكنه أقدم على الانتحار، عندما كان يحتفل بعيد ميلاده، و السبب عقار مهلوس يعرف باسم «الفيل الأزرق» قدم له كهدية قاتلة بالمناسبة.
هذا العقار يحدث هلوسة كبيرة و نشوة تنقل المستهلك إلى عالم ميتافيزيقي، و تدخله جنة ساحرة، يتمنى البقاء فيها إلى الأبد، فيقدم على قتل نفسه، حتى لا يخرج منها و يعود إلى حياة البؤس و الشقاء.
حسب الدرك الوطني بقالمة، فإن نوعين من المهلوسات الخطيرة يتم ترويجهما بالمنطقة منذ عدة أشهر هما «الفيل الأزرق» و «الرحمة» و هما من أشد العقاقير الطبية فتكا بالمستهلكين، و غالبا ما تكون النهاية مأساوية، تماما كما يحدث مع تطبيقات إلكترونية تقود إلى الإدمان و الانهيار النفسي، ثم الانتحار، مثل لعبة «بيبجي» و لعبة «فري فاير» اللتين يمارسهما منذ عدة أشهر و على نطاق واسع الشباب، و حتى الأطفال.
كفاكم سكوتا..ابلغوا عن تجار المهلوسات و المخدرات
دعا المتحدث المجتمع إلى التحرك و الكشف عن تجار المهلوسات و المخدرات بالأحياء الشعبية، و التبليغ عنهم للدرك و الشرطة عن طريق الأرقام الخضراء، للقبض عليهم و تقديمهم إلى العدالة، مضيفا بأن مروجي السموم القاتلة لا يتناولونها إطلاقا و لا يدخنون، لأنهم يعرفون مدى خطورة هذه المواد، لكنهم يتخذونها كمصدر للثراء على حساب صحة و أرواح الأبرياء الذين تم الإيقاع بهم و توريطهم، و تحويلهم إلى مدمنين لا يترددون عن ارتكاب جرائم قتل من أجل المال، و الانتحار عندما يصلون إلى مرحلة الانهيار التام.  
ممثل الدرك الوطني، قال بحسرة و مرارة، بأن المجتمع يتوجه نحو الاستقالة التامة ، و لم يعد ينهي عن المنكر و يأمر بالمعروف، و بدأ يميل إلى السكوت السلبي و التخلي عن روح المواطنة، موضحا بأنه من الخطأ الاعتقاد بأن قوى الأمن هي وحدها القادرة على حل مشاكل المجتمع و تحمل مسؤولية مكافحة المخدرات و الفساد و مشاكل المرور و فرض الأمن و مكافحة الإجرام و القيام بالتوعية و التحسيس و التربية و الوقاية، دون مشاركة فعالة من المواطنين، و أضاف بأن الهوة بين الدرك و الشرطة و المواطن لا تزال تثير القلق و أنه بات من الضروري العمل أكثر لردم هذه الهوة و دعم جبهة التصدي للإجرام المتصاعد.
و يعتقد ممثل الدرك الوطني بأن الحديث عن الانتحار في وسائل التواصل الاجتماعي، قد يروج للظاهرة أكثر و يزيد من تعقيدات الوضع، داعيا الأسر إلى الاهتمام بالأبناء و مراقبة التغيرات التي تحدث على سلوكهم و الاتصال بالمختصين لطلب المساعدة، قبل بلوغ مرحلة الخطر.
تفكك أسري.. و فراغ روحي قاتل
تحدث الإمام نور الدين بودبوز بأسى كبير عن التفكك الأسري الذي أخذ أبعادا خطيرة بقالمة، حيث زادت قضايا الطلاق بشكل مثير للقلق و الحيرة، و زادت أعداد الأطفال المشردين و الخلافات الأسرية المدمرة، مؤكدا بأن ما وصفه بوسائل الانقطاع الاجتماعي، زادت الوضع مأساوية و تعقيدا.
 و قال رجل الدين الناشط بمدينة قالمة، بأن البعد عن الوازع الديني يقود إلى معيشة ضنكا، و الانحلال و الانهيار النفسي و الانتحار، مضيفا بأن الأسرة قد استقالت من تربية الأبناء و رعايتهم و مراقبتهم، و أن المعلم و رجل الدين أصبحا مجرد موظفين، بعد أن استقالا من دور التوجيه و النهي عن المنكر، مؤكدا بأن ظاهرة الإلحاد بدأت تتزايد بقالمة، و أن أحد ضحايا هذه الجماعات، مات منتحرا بسبب اليأس و الفراغ الروحي المدمر.  
التشريح النفسي للمحيط الأسري ضرورة ملحة
دعت الدكتورة إيمان قريني، أخصائية الأمراض العقلية بقالمة، إلى ضرورة إجراء ما وصفته بالتشريح النفسي في الوسط العائلي، عقب كل عملية انتحار، لمعرفة الأسباب الحقيقية بطريقة علمية قريبة من الواقع، و من ثم اتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة الخطر المحدق بالمجتمع، و أبدت أسفها لنقص هذا التخصص الطبي الهام بالجزائر.
و حملت أخصائية الأمراض العقلية جزءا من المسؤولية لمواقع التواصل الاجتماعي، التي قالت بأنها أصبحت مصدرا للهلع و الذعر و المبالغة، و اتهمتها بالترويج المدمر لحوادث الانتحار، عندما تصور هؤلاء المنتحرين بأنهم أبطال و ضحايا لوضع اجتماعي و اقتصادي جائر.
شهادة حية و جامعيون يدعون إلى مزيد من البحث و الدراسة
قبل نهاية اليوم الدراسي حول ظاهرة الانتحار بقالمة، قدم مواطن من مدينة الفجوج بشهادة حية حول انتحار أخيه الأصغر شنقا، قائلا بأن العائلة لا تزال تعاني من آثار الصدمة بعد الرحيل المأساوي لابنها، دون أن تظهر عليه تغيرات عقلية و نفسية.
 لا تقربوا الانتحار..إنه مأساة عائلية و جرح غائر
و أكد المتحدث «لا نزال غير مصدقين أنه قتل نفسه شنقا، كل سكان مدينة الفجوج بكوه و حزنوا لرحيله، كان متخلقا و يعيش حياة عادية، لا نعرف حتى الآن ماذا حدث، ليقرر إنهاء حياته بكل هذا العنف و المأساة، لا تزال التحقيقات جارية لمعرفة الأسباب، نطلب له الرحمة و نتمنى ألا يموت أشخاص آخرون هكذا، إنه أمر محزن سيظل راسخا بين أفراد العائلة و الجيران و أصدقاء الفقيد».
و دعا فاتح دبيش و ميهوب خير الدين من جامعة 8 ماي 1945 بقالمة، إلى مزيد من البحث و الدراسة للتوصل إلى أسباب ظاهرة الانتحار في الوسط العائلي، و من ثم وضع الحلول العملية للحد منها، و قالا بأن المهمة الكبيرة ملقاة على عاتق الأسرة، لأنها البيئة الأولى التي ينشأ فيها الطفل، قبل أن ينفذ إلى المحيط الخارجي بكل ما يحمل من مساوئ  و إيجابيات.  
و حمل الدكتور محمد ميهوب الأسرة مسؤولية انحراف الأبناء القصر و جنوحهم إلى العنف و المخدرات، و من ثم إلى الإجرام و الانهيار النفسي و الانتحار، مضيفا بأن مهمة الأسرة اليوم هي الإنجاب و الرمي في دور الحضانة و الشارع، و من الطبيعي أن يظهر جيل من المدمنين و المجرمين و المنتحرين.
و تحدث متدخلون آخرون عن متلازمة ما قبل الانتحا،ر و نقص مراكز علاج الإدمان و أزمة السكن، و تردي المنظومة التعليمية، و تراجع إطار الحياة العامة بالمدن الكبرى، و حاجة الأطفال و الشباب إلى مرافق الترفيه و الخدمات لمواجهة الفراغ المدمر، و تأثير أزمة جائحة كورونا و الإغلاق على الاستقرار الاجتماعي و النفسي بالوسط العائلي، الحاضن الأمين للأفراد الذين يعانون أزمات نفسية و عاطفية و روحية و مادية، قد تؤدي بهم إلى مصير مأساوي.  
الأرقام تتزايد و العدوى تواصل الانتشار
أكد ممثل الحماية المدنية بقالمة أرقاما مقلقة حول تصاعد الانتحار بقالمة، بأن 39 شخصا انتحروا شنقا منذ 2017، بينهم 17 شخصا انتحروا بين شهري جانفي و سبتمبر 2020، و هو رقم قياسي لم يسبق أن عرفته المنطقة حتى الآن.
و تتراوح أعمار المنتحرين بين 10 سنوات و 67 سنة، و تعد الفئة بين 20 و 40 سنة، من أكثر المنتحرين بمجموع 17 حالة.
و قد  تمكنت فرق  الإسعاف و مواطنين من إنقاذ نحو 21 شخصا من الموت، بعد إقدامهم على الانتحار، بعدة طرق و وسائل، في واحدة  من  أسوأ موجات  الانتحار التي تعرفها ولاية قالمة في السنوات الأخيرة.
فريد.غ   

الرجوع إلى الأعلى