* انتشار أفكار التواكلية والقدرية القائمة على التفسير الخاطئ للدين ولّد عندنا نوعا  من الفقه، سيّئ السمعة، كارثي النتائج، إنه فقه الانتظار!
*  تدبير مستقبل المسلمين اليوم، لا يكون بانتظار المخلّصين، بل بالعمل على تربية النشء، وتثقيف المجتمعات.
قصة التدبير للمستقبل، منعدمة عندنا نحن العرب والمسلمون، فلا تكاد تجد من الدراسات الاستراتيجية أو الاستشرافية، التي تسعى من خلالها الدول إلى الإحاطة بمعلومات محتملة، أو الوقوف على مظنونات يمكن البناء عليها في التصدي لأعداء محتملين، أو الحصول على معلومات؛ تتحدد بموجبها مجاهيل الفترة المقبلة، سواء كان ذلك على المستوى السياسي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو الثقافي..لا تكاد تجد إلا قليلا.
فإجمالي ما يتم إنفاقه على الدراسات المستقبلية يمثل 97 % من منجزات الدول المتقدمة، بينما ما يتم إنفاقه من جانب الدول النامية، لا يمثل إلا 3 % ،وبصفة عامة يمكن القول بأن مجال البحوث السياسية والاستراتيجية في الأقطار العربية يُعاني من غياب الرؤية المستقبلية، وإن تمت مثل هذه الدراسات؛ فإنها لا تخرج عن النطاق الأكاديمي، ولا تتطور لتُصبح جزءا من طريقة الفكر الاجتماعي أو حتى الممارسة الفعلية من جانب الحكومات أو الأفراد، كما يقول محمد إبراهيم منصور.
ويرجع بعضهم سبب هذا العزوف إلى انتشار أفكار التواكلية والقدرية القائمة على التفسير الخاطئ للدين، وهو سبب يحتل المساحة الأوسع في الفكر الديني لدى المسلمين، مما ولد عندنا نوعا من الفقه، سيّئ السمعة، كارثي النتائج، إنه فقه الانتظار! فتجد الفرد العربي يعيش فراغا فكريا، وعلميا، تكرست من خلاله مفاهيم القدر، والتواكل، في حل مشكلات الراهن، وتدبير قضايا المستقبل، فمشكل البطالة والفقر، حله بالرزق على الله، ومشكلة احتلال الأقصى، ننتظر فيها تدخل الله سبحانه، ومشاكل الدول الوطنية الحديثة، الكثيرة والمتنوعة، حلولها مرتهنة بمجيء الخلافة على منهاج النبوة!
إنه ليعسر هضم هذا النوع من الفقه، في كون الفرد والجماعة وحتى الدولة، ينتظرون من الغيب صياغة حاضرهم، وتغيير حالهم، وبالتالي تغيير الفرد، وفكره!
وأحسب أن أساس رساخة هذا النّوع من الفقه، في الحقيقة يرجع إلى النقاط التالية:
1 - العلم يتناقص : بمعنى أنّ المنجز الفكريّ للعرب والمسلمين قد تم وانتهى على عهد السلف، أي في الماضي، ومن ثم فلا يمكن تعدية الحال من التفكير في الماضي إلى التفكير في الحاضر والمستقبل، إلا بإزالة هذا التضخم لقضية الماضي، عن طريق وضع حد لتحكم الماضين في مصير الآخِرين، والإيمان بما أنجزته الإنسانية اليوم؛ مما له دلالة واضحة على أن العلوم تتراكم وتتعاظم.
2 - المفهوم الخاطئ للقضاء والقدر: وهي مسألة قديمة المعترك، والخوض فيها يصاحبه دائما توصيف سياسي ما، وعلى كل حال تحرير هذا المفهوم، من خلاله نستطيع إثبات الفاعلية الكبرى للإنسان، وأنه بإمكانه أن يتجاوز ما رسخه فقه الانتظار، من انتظارات متكررة..للمخلص، وللمهدي، ولغيره من المنتظَرين!
3 -مشكلة الروايات في تراثنا الفقهي والديني: يرجع كثير من المهتمين قضايا العزوف عن التفكير في المستقبل بتدبير الحاضر، ووضع الآليات الكفيلة بذلك، إلى الارتهان الفكري والثقافي لبعض الروايات؛ التي تحدد مستقبل المسلمين منذ عهد النبوة، وبالتالي الاكتفاء بذلك الحكم، وممارسة هواية الانتظار ريثما يتحقق الموعود!
أ-أحاديث استرجاع الخلافة
ومن بين تلك الروايات، حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة [رواه أحمد، وأبو داود الطيالسي، والطبراني في الكبير، بألفاظ متفاوتة]،
وهذا الحديث كما يقول صلاح الدين الإدلبي بفقراته الثلاثة الأول: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم تكون ملكا عاضا” صحيح بطرقه..وأنّ هذه الكلمة التي في آخر الحديث “ثم تكون خلافة على منهاج النبوة” هي مما يجب أن يُتوقف فيه، بسبب الشك في معرفة حال أحد رواة السند وتفرده بها.
ثم على فرض ثبوته، فإنه لم يتفق على معناه، فمن قائل: إن الخلافة الثانية التي على منهاج النبوة هي خلافة عمر بن عبد العزيز، وقائل: إن الخلافة الثانية ستكون على أيام المهدي وعيسى بن مريم، وقائل: إن الملك العضوض بدأ بملك الأمويين وانتهى بملك العثمانيين، ثم بدأ الملك الجبري في حكومات العصر الحديث، وهو تحكم في القول؛ إذ ما الفرق بين الحكومات المعاصرة وحكم الملك العضوض؟ بل إنّ بعض حكومات هذا العصر أقل استبدادا وجبرية وتسلطا من حكومات العصور الماضية!!
ثم إنه أيضا وبحسب النظر العلمي الأصولي،هذا الحديث لا يؤصل لشيء من ذلك! وإنما الدلالة الأصولية لهذا الحديث، بكل مراتبها الممكنة، هي مجرد وصف خبري لما سيكون عليه الحال بعد النبي صلى الله عليه وسلم، من أمر الخلافة والملك إلى ما شاء الله! فهو إذن من أحاديث الفتن، لا من نصوص التشريع.
إذن يمكننا القول بكل ارتياح: إنّه لا يمكن الاستناد إلى هذه الرواية في بناء شبكة حلول، ومقومات دراسة، بل الذي يجب هو التمحور حول بناء الإنسان الذكي الخارق، الذي سيقود الشعوب العربية إلى النجاح والسؤدد، والعجيب أنّ الذي حدث هو لجوء بعض المنظرين في الفكر السياسي الإسلامي، إلى بناء جبال من الأحلام، بالاتكاء على مثل هذه الروايات الضعيفة، ولا تفسير لذلك إلا شدة التوق؛ التي تعتري الفرد العربي تجاه مسألة الخلاص، وهي حال معروفة في علم الاجتماع، فالأمم الضعيفة تتوق إلى الانتقال إلى مرحلة القوة، وبما أنها لا تملك مقومات الانتقال، تظل تسكنها الأحلام، ولهذا قلما خلا مجتمع بشري على اختلاف أديانه وثقافته من انتظار مخلّص، يأخذ بيد المجتمع إلى يوتوبيا فاضلة، ويوتوبيا المسلمين الضعفاء اليوم رجوع الخلافة على منهاج النبوة.
إنّ منهج الاسترداد والاسترجاع المنشود للخلافة، لا يمكن أن نفهمه، بالنظر إلى سوءات الحكم الخلافي، الذي مرت به الأمة الإسلامية على امتدادها، فالخلافة لم تظل جامعة لكل الأمة إلا في العهدين الراشدي والأموي؛ أي في مدة 120 سنة فقط، من تاريخ الإسلام، فكيف نحلم باسترداد ما يمكننا نحن اليوم إنتاج أحسن منه!!
ب-أحاديث المهدي:
وفي سنن أبي داود، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم، لطوّل الله ذلك اليوم، حتى يبعث فيه رجلا مني- من أهل بيتي- يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطا، وعدلا كما ملئت ظلما وجورا»، وفي رواية: «لا تذهب، أو لا تنقضي، الدنيا حتى يملك العربَ رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي».
ومقتضى هذه الرواية كما يقول محمد شمس الحق العظيم أبادي صاحب كتاب عون المعبود شرح سنن أبي داود، هو أن الكافّة من أهل الإسلام، على مَمرّ العصور، تؤمن أنّه لا بدّ في آخر الزّمان من ظهور رجلٍ: من أهل البيت، يؤيّد الدِّين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية، ويُسَمَّى بـ: (المهدي)، قال: وأحاديث المهدي رواها جماعة من الأئمة، وإسناد أحاديث هؤلاء بين صحيحٍ، وحسنٍ، وضعيفٍ.
وأنكر صحة هذه الروايات جماعة من أهل العلم، منهم عبد الرّحمن بن خلدون المغربي، والشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور، والشيخ عبد المتعالي الصعيدي، والشيخ محمد الغزالي، يقول محمد رشيد رضا: إنّ أحاديث المهدي لا يصح منها شيء يحتج به، وأنها مع ذلك متعارضة متدافعة، وأنّ مصدرها نزعة سياسية شيعية معروفة، وقال في موضع آخر: وأمّا التعارض في أحاديث المهدي؛ فهو أقوى وأظهر، والجمع بين الروايات فيه أعسر، والمنكرون لها أكثر، والشبهة فيها أظهر، ولذلك لم يعتدّ الشيخان بشيء من رواياتها في صحيحيهما.
وكتب الشيخ عداب الحمش رسالة بعنوان: (المهدي المنتظر في روايات أهل السنة والشيعة الإمامية، دراسة حديثية نقدية)، بحث فيها تلك الروايات، وبيّن من خلال دراسة مستفيضة، عدم صحة تلك الأحاديث.
وأختم بما اتفق عليه المنكرون لهذه الأحاديث، من القول: بأنه كان لشيوع هذا -النسق الروائي- بين المسلمين من أسباب تقاعدهم عما أوجبه الله تعالى في كل وقت من إعلاء دينه، وإقامة حجته، وحماية دعوته، وتنفيذ شريعته، وتعزيز سلطته؛ اتكالا على أمور غيبية مستقبلة لا تسقط عنهم فريضة حاضرة.
الخلاصة:
مما سبق يتبين لنا أنّ العهدة بعمارة الحاضر، وتدبيره؛ لا تزال قائمة، وأن من واجبات الزمان، وفروض الأعيان، التخطيط للمستقبل، وإنشاء المراكز، وعمل البحوث المختلفة، ولا يمكننا التنصل من كل ذلك، إلا إذا أردنا أن نعيش خارج التاريخ، أو في أحضان أفكار تشاؤمية، متجهّمة، تدعو إلى الانتحار والاقتتال.
-أن ما يروجه البعض من عودة الخلافة، ما هو إلا أمنية كسول، وتشدق متفيقه، وما تم من منجزات؛ حسبت على مسمّى الخلافة، لن يتكرر أبدا، ببساطة؛ لأنّ الخلافة تجربة تاريخية، وليست فريضة دينية.
-الادعاء بأنّ أحاديث المهدي متواترة، محض وهم، أُلبسه جماعة من المشايخ، لظروف سياسية وأخرى مذهبية، بل الصحيح أنها روايات ضعيفة مردودة، لا يمكن أن ترتقي إلى درجة الصحة، فضلا عن التواتر.
-من القواعد التي يلزم على المتصدي للتأويل الديني فقهها، هي أن روايات الفتن وأخبارها، ليست مظنة لإنشاء الأحكام والتشريعات، بل قصارى ما تفيده إن صحت أن تزف بشرى للأتباع، أو تحذيرا لهم، هذا فقط، وليس من شيء دون ذلك تفيده!
-أنّ تدبير مستقبل المسلمين اليوم، لا يكون بانتظار المخلّصين، بل بالعمل على تربية النشء، وتثقيف المجتمعات، والسعي في تنوير النّاس باحتراف منهج السنن الكونية، المبثوث في تعاليم القرآن وآياته، وأن يعلم الجميع أنّ السنن لم تخرق للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في غزواته وشؤونه المختلفة، وعانى ما عانى في مكة والمدينة، كل ذلك تعليما لنا بأن اتباع السنن هو الأصل الأصيل، والمنهج الرصين في تدبير الحاضر والمستقبل، فكيف يظن البعض من أتباع النبي محمد أنه سيأتي رجال من أمته من بعده، تخرق لهم السنن من دونه، ويهيأ لهم ما حجب عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، إنه لمنكر من القول وزور.

الرجوع إلى الأعلى