وسط ديكور أوروبي فريد تعانق فيه بنايات القرون الوسطى نهر فيستولا الساحر، يقضي مئات آلاف السياح واحدة من أكثر الرحلات جمالا و إثارة حول العالم، و ذلك في كراكوف، العاصمة الملكية لبولندا و ثاني أكبر مدنها، التي زارتها النصر بهذا الجزء المميز من أوروبا الشرقية، أين ترتسم للزائر لوحات تمزج بين الفن و الطبيعة، لتصنع صورا رائعة ننقلها من خلال هذا الروبورتاج.
روبورتاج: ياسمين بوالجدري
تُعتبر كراكوف واحدة من أشهر المدن البولندية على الإطلاق، فزيادة على ثرائها الثقافي و المعماري الفريد و الذي يعود إلى القرن الثامن ميلادي، تحوّلت هذه المدينة إلى منطقة جذب سياحي هامة لا تحتاج إلى ميزانيات ضخمة لزيارتها، إذ يمكن و ببساطة التجول سيرا على الأقدام، و بالاستعانة بمرشدين يعملون بالمجان، بين قصورها المصنفة ضمن قائمة التراث العالمي و حدائقها و شوارعها المكتظة بالمقاهي و مطاعم الأكلات التقليدية، التي تعمل بأسعار معقولة مقارنة بما هو موجود في دول أوروبية أخرى، و هو ما وقفت عليه النصر خلال استكشافها لكراكوف مع وفد جمعية الشعرى لعلم الفلك الذي ضم مجموعة من التلاميذ النجباء بولاية قسنطينة.
 بنايات تعود للقرن السابع ميلادي
على عكس العاصمة وارسو، كانت أبنية كراكوف عتيقة بشكل استثنائي، فهذه المدينة الأكبر ببولندا و التي كانت عاصمة لها حتى القرن السادس عشر و لحوالي 700 سنة، هي من المناطق القليلة التي لم تمسسها «لعنة» الحروب التي استهدفت هذا البلد الأوروبي، حيث تحافظ إلى اليوم على مبانيها التي يعود العديد منها إلى القرن السابع ميلادي و المطلة على نهر فيستولا، الذي أضاف لها سحرا آخر بمياهه التي كانت تشقها بواخر الجولات السياحية، كما أن أكثر ما يميزها هو أن العديد من الأبنية عبارة عن معالم أثرية و تاريخية تستقطب سنويا مئات الآلاف من السياح من مختلف أنحاء العالم.
بالدخول إلى هذه المدينة التي تسحرك منذ البداية بمناظرها الطبيعية الفريدة، تكتشف من الوهلة الأولى أنها تختلف كثيرا عن باقي مدن بولندا، فهي تبدو صغيرة لكنها تعجّ بالبنايات و المحلات و المقاهي، كما يوجد بها حتى الباعة المتجولون من عجائز  وشيوخ يرتدي بعضهم قبعات تعكس الموروث الثقافي للمنطقة، ليعرضوا على عرباتهم الكعك التقليدي و بعض أنواع الخضر و الفواكه المحلية، و المميز هنا هو التداخل المدهش بين سكة الترامواي و الممرات المخصصة للسيارات و الدراجات الهوائية، و ذلك عبر الطرقات الضيقة التي تتسع حتى لعربات السياح التي تجرها الأحصنة المزينة، و هو تداخل لم يمنع من استمرار سيولة حركة المرور بفضل الإشارات الضوئية المثبتة في كل مكان.
جولة مجانية مع حاملي المظلات الصفراء!
أما المقاهي و الساحات العمومية فهي جزء لا يتجزأ من كراكوف، فوسط بناياتها ذات الطابع الأوروبي القديم، و من بينها الكاثدرائيات و الكنائس و الحصون و مبنى المسرح الذين وجدنا مجموعة من الشباب يتدربون على إحدى المشاهد قربه، يوجد دائما مكان للجلوس و أخذ قسط من الراحة أثناء تناول المثلجات، أو لاختيار أحد المطاعم المنتشرة بطاولاتها المزينة الموضوعة على الأرصفة، و التي يتكفل شباب في مقتبل العمر بتوزيع مطويات لجذب السياح إليها على طول الشوارع المكتظة بالمارة،  و ذلك بأسعار يبدأ معظمها من 25 أورو، كما يمكن العثور بسهولة على مكاتب تختص في تقديم المعلومات للسياح أو حتى تغيير العملة.
و لم يكن ممكنا زيارة كراكوف، دون استكشاف مدينتها القديمة التي أدخلتها منظمة اليونيسكو في قائمة التراث العالمي سنة 1978، و لهذا الغرض كان علينا التنقل مع مرشد سياحي يرافقنا إلى المناطق الأثرية، و هي عملية لن تتطلب منك دفع أموال مثلما نجده بالعديد من الدول الأوروبية، إذ يمكن انتظار أحد المرشدين الذين يحمل مظلة صفراء اللون تدل على أن الجولة مجانية، للتوجه إليه مباشرة لكي يضمك إلى مجموعته، و ذلك بعد اختيار اللغة التي تظهر من خلال العلم المثبت فوق المظلة.

اخترنا مرشدتنا باللغة الإنجليزية بعد الانتظار لحوالي نصف ساعة، و هي «نافيا» التي كانت شابة تبدو في الثلاثينات من العمر و ترتدي ملابس مريحة تسمح لها بالمشي لساعات طويلة كل يوم، و بعد أن اجتمع حوالي 15 سائحا حولها، ذكّرتنا الدليل أن الجولة مجانية و أخبرتنا بأنها تنشط في هذا العمل منذ 7 سنوات، بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي و مجلة ناشيونال جيوغرافيك و كذلك موقع الأسفار العالمي “تريب أدفايزر”، لكن يمكن في نهاية الزيارة تقديم الأموال حسب رغبة كل شخص، مضيفة أن الزيارة ستستغرق ساعتين و نصف من المشي، سنستكشف خلالها أكبر قدر من المعالم السياحية بالمدينة، غير أنها اشترطت على السياح عدم التدخين أثناءها و محاولة البقاء دائما ضمن المجموعة حتى لا يتخلفوا عنها.
سر الرياح و ثياب أميرات القصور!
و وسط ساحة صغيرة محاطة بمحلات بيع التذكارات، التي كان يجلس قربها مجموعة من الشيوخ و هم يتبادلون أطراف الحديث، غير بعيد عن معارض للوحات فنية مبهجة مفتوحة على الهواء الطلق، انطلقت جولتنا التي ضمت سياحا من جنسيات مختلفة، منهم من جاء من أمريكا و بريطانيا و كندا و آسيا و حتى من أفريقيا، و خلالها بدأت «نافيا» تسرد لنا بحماس و حيوية تاريخ كراكوف التي كانت عاصمة لبولندا و الكومنولث البولندي الليتواني قبل تأسيس وراسو و حتى قبل ظهور بولندا بحدودها المعروفة اليوم،
و هو ما تقول إنه سبب اعتقاد البعض أن سكانها و قاطني العاصمة الحالية وارسو، لا يتبادلون الود.
و بطلاقة و تتابع، كانت المرشدة تروي لنا تاريخ المدينة، التي أنشئت في القرن الثامن ميلادي حيث لا يزال حصنها شاهدا على هذه الحقبة، و هو عبارة عن بناية جميلة قرمزية اللون، يوجد بينها و بين الطريق ما يشبه الخندق الذي كانت توضع فيه المياه لمنع وصول الأعداء إليه، و من القصص الغريبة أن الأسوار التي تفصل بين قصور المدينة، أنجزت في القرن التاسع عشر لمنع وصول الرياح إلى هذه القصور حتى لا تتسبب في تحرك ثياب النساء و انكشاف سيقانهن، مثلما تروي مرافقتنا.
عندما تجتمع أنغام الأكورديون بسحر المكان
واصلنا السير بين البنايات العتيقة، التي كان يوجد أسفل أسوارها شباب يعزفون على الساكسفون و رجال كبار في السن يطلقون أنغاما من آلة الأكورديون و المزمار، و هم يرتدون الزي التقليدي للمنطقة و المتمثل في بدلة متكاملة باللونين الأحمر و الأزرق، و قبعة تعتليها ريشة، و ذلك للحصول على أموال يتكرم بها السياح المتذوقون لعزفهم الفريد، الذي زاد من جمالية المكان.
وصلنا إلى سوق مغطى داخل نفق كبير، و في مدخله وجدنا عجوزا كانت منهمكة في صناعة حلي تقليدية بأناملها المجعدة، على عربة صغيرة، لكن بمجرد تفطنها إلى أننا نقوم بتصويرها، أشارت بيدها إلينا بالتوقف عن التصوير و رفعت أصابع يدها الخمسة قائلة بلغة انجليزية كانت تلفظها حروفها بتكلّف “خمسة زلوتي”، ففهمنا أنها تطلب منا الأموال مقابل التقاط صورة لها!
 جامعة ممنوعة على النساء!
دخلنا النفق الحجري الذي كانت تتدلى من أسقفه ثريات جميلة، و تصطف داخله عشرات المحلات التي تختص في بيع التذكارات الموجهة للسياح، الذين كان المكان يعج بهم، و عند الخروج منه وجدنا أنفسنا في ساحة كبيرة تعانق مبان مرتفعة، أخبرتنا محدثنا أنها جزء من متحف الجامعة العريقة «جاجلون” التي تأسست سنة 1364 من طرف الملك كازيمير الثالث الأعظم، حيث درس فيها علماء معروفون ببولندا، و من بينهم رائد علم الفلك الحديث نيكولاس كوبرنيكس الذي التحق بها سنة 1490.
و المثير أن العالمة البولندية الشهيرة ماري كوري، صاحبة جائزة نوبل للكيمياء، لم تستطع الالتحاق بهذه الجامعة العريقة، لأن ذلك كان ممنوعا على النساء في تلك الحقبة، ما اضطرها للسفر إلى فرنسا، و هو ما يفسر أن جميع التماثيل و الصور الموجودة بغرف المتحف تعود للرجال فقط، حتى أن النساء لم يسمح لهن بدخوله إلى سنة 1918، مثلما تضيف دليلتنا السياحية.
محج للقساوسة و الراهبات
بعد إعطاء فرصة للسياح لأخذ قسط من الراحة بمتحف الجامعة، الذي توجد به أماكن للجلوس و متاجر صغيرة، خرجنا من المكان و واصلنا طريقنا صعودا صوب ساحة كبيرة يطلق عليها باللغة الإنجليزية اسم «بابيل هيل” أو “تلة الإنجيل”، نظرا لوقوعها في مكان مرتفع محاط بالكاثدرائيات و الكنائس التي أنجزت في القرن الثامن ميلادي، و هنا روت لنا مرافقتنا البولندية أسطورة محاولة أحد الملوك حينها، صناعة الذهب عن طريق سحر الخيمياء، لكنه فشل في ذلك و تسبب في احتراق نصف قصره، فقرر السفر إلى وارسو أين أقيمت العاصمة الجديدة لبولندا.
و الملاحظ في هذه الساحة، ارتفاع عدد السياح من مختلف الأعمار، و الذين كان العديد منهم يلتقطون صورا تذكارية أو يتجولون بين القصور، بينما فضل آخرون الاستمتاع بالجلوس قرب نافورات المياه و إطعام أسراب الحمام، لكن الملفت هو كثرة الراهبات و القساوسة الذين كانوا يرتدون لباسهم الديني، و يأتون فرادى أو في شكل مجموعات تضم حتى أطفالا، يبدو أنه جيء بهم من المدارس الكاثوليكية ببلوندا و الدول الأوروبية الأخرى.
حكاية التنين الذي قتلته مياه النهر!
و لا يزال سكان كراكوف يتوارثون حكاية التنين، الذي كان يعيش قرب القصر الملكي بتلة «فافل هيل»، و يلتهم فتيات المدينة، ما جعل الملك يعرض تزويج ابنته الأميرة على من يقتله، لكن جميع الفرسان فشلوا في هذا الامتحان، باستثناء إسكافي بسيط لجأ إلى حيلة وضع جلد خروف منقوع في مادة الكبريت، قرب وكر التنين، فأكله هذا الأخير و التهب فمه، و هو ما اضطره إلى شرب كميات هائلة من مياه نهر فيستولا المار على القصر، فانفجر بطنه و مات، و حسب الأسطورة التي كانت مرشدتنا ترويها بأسلوب ساخر يعكس صعوبة تصديقها، فإن ضرس التنين يوجد قرب الكاثدرائية، فيما أقيم له تمثال لا تزال قصته تحكى للزوار كجزء من الموروث اللامادي للمدينة.

و رغم كثرة القصور و الحصون الملكية بكراكوف، إلا أن العائلات المنحدرة من الأسر الأرستقراطية الحاكمة ببولندا على مر القرون الماضية، ليس لها أي تأثير اليوم في المجتمع البولندي، على عكس ما هو موجود في بلدان أوروبية أخرى مثل بريطانيا، حسب  مرشدتنا نافيا، هذه الأخيرة التي كانت دقيقة في موعدها، فبعد ساعة و نصف من المشي، أخبرتنا أن الجولة قد انتهت ثم أهدتنا خرائط تحتوي على كل المعلومات حول كراكوف، من معالم سياحية و مطاعم و فنادق، و قبل أن تتركنا عرضت علينا مبتسمة و بكل لباقة، وضع أموال في قبعة لمن يرغب في ذلك، و هو ما استجاب له جميع السياح، الذين عبر بعضهم عن تقديرهم لمجهودها.
وجهة مُحببة للعرب
إضافة إلى كل هذا، تتوفر كراكوف على معالم أثرية أخرى و مرافق تسلية و ترفيه هامة، بالإضافة إلى الكثير من المتاحف، ما جعلها قبلة لأزيد من 9 مليون سائح سنويا و حوَّل السياحة إلى قطاع نشيط يوفر مداخيل هامة للدولة، بعد قطاع الخدمات الذي أقيمت من خلاله استثمارات ألمانية و اسكندنافية و أمريكية، كما أن هذه المدينة تضم مقرات ضخمة للعديد من الشركات العالمية مثل “غوغل” و “إي.بي.آم» و «فيليبس» و «هيتاشي” و «جينيرال إليكتريك” و غيرها، و هو حراك اقتصادي أثمر بانخفاض معدل البطالة الأقل من المعدل العام ببلوندا، بحيث لا يتعدى 5 بالمئة، حسب آخر الإحصائيات.
و طيلة التواجد بكراكوف، يشعر الزائر بأن كل خطوة يخطوها بهذه المدينة الواقعة جنوب بولندا و التي لا تبعد كثيرا عن الحدود مع سلوفاكيا و التشيك، تحمل معها نسمات شرقية تأخذك معها إلى أجواء غير اعتيادية من النادر إيجادها في بلدان أوروبية أخرى، و ذلك بدءا من الملابس التقليدية التي تميز المنطقة و تشبه إلى حد بعيد ألبسة الشعوب العربية و الإسلامية، انتهاء بنوع الموسيقى التي يعزفها الفنانون و الهواة، فكراكوف ظلت تحت حكم الإتحاد السوفياتي لعقود، إلى غاية انهيار جدار برلين و معه النظام الشيوعي، لكن تأثير الشرق يبدو واضحا عليها أكثر من المدن الأخرى التي زرناها خلال رحلتنا التي دامت لأسبوع ببلوندا.
ما استوقفنا أيضا، هو التواجد المكثف للسياح العرب و خاصة الخليجيين، الذين كانت للنصر دردشة مع بعضهم، حيث قالوا إنهم يفضلون هذه المدينة لما تتمتع به من جمال ساحر و معالم تاريخية و مناظر طبيعية، تسمح لهم بقضاء إجازة
ممتعة مع كامل أفراد العائلة، فيما ساهم توفر محلات الأكل الحلال و خاصة متاجر «الكباب»، في تسهيل الحصول على وجبات تناسبهم.
في معسكر «الموت»
و لا يمكن لمن يدخل كراكوف، ألا ينتبه إلى التواجد المعتبر لليهود، الذين يسهل تمييزهم بالقلنسوات التي يرتدونها، فهذه المدينة ما تزال تضم العديد من المعابد اليهودية، كما أنها تحولت إلى عاصمة الحكومة العامة النازية خلال احتلالها لبولندا في الحرب العالمية الثانية، حيث أقيم بها معكسر أوشفيتز بيركينو الذي يزوره حوالي 700 ألف شخص سنويا، و يُتهم نظام ألمانيا النازية بإقامته لإبادة اليهود داخل أسواره.
 و قد دخلت النصر هذا المعسكر المصنف كأحد مواقع التراث العالمي ببولندا منذ سنة 1979، و الملفت هنا أن جميع أجزائه الممتدة على مساحات شاسعة، حولت إلى متحف مفتوح لا يزال يضم سكك القطارات التي كان يجلب داخلها المعتقلون و كذا الغرف التي كانت تتم عمليات الاحتجاز بداخلها، و لأننا وصلنا المكان مساء و قبل غلقه بمدة قصيرة، فإننا لم نجد الكثير من الزوار، غير أننا صادفنا القليل من العائلات التي بدا أن بعضها يهودية، حيث كان أفرادها يضعون الشموع و الورود بالمكان.
و لطالما كانت “معسكرات الموت” نقطة خلاف بين الحكومة البولندية و ألمانيا
و الكيان الصهيوني، فبولندا تقدم نفسها على أنها كانت ضحية في تلك الفترة، كما أن حكومتها طالبت في أكثر من مناسبة بالحصول على تعويضات مالية من ألمانيا، و هو ملف لا يزال مفتوحا إلى اليوم.
ي.ب

الرجوع إلى الأعلى