قمـح على أبواب الحـرم لإطعـام الحمـام و طلـب المتاع و التكفيـر عن الذنـب
تمتلئ سماء مكة و مبانيها و كهوفها السحيقة و جبالها الصخرية الرمادية، بأسراب الحمام المتحركة على مدار ساعات النهار في كل الاتجاهات، تحلق عاليا ثم تهوي إلى الأرض لتزاحم الناس في الساحات الواسعة و على الطرقات و الأرصفة، بحثا عن غذاء وفير لا ينقطع من طلوع الشمس إلى المغيب، إنه القمح الذهبي المتناثر في كل مكان، ترميه الأيادي باستمرار دون كلل أو ملل، حتى أن أسراب الحمام تصاب بالتخمة أحيانا، و تترك كميات كبيرة منه على الأرض لتكون من نصيب فرق النظافة و تزيد من متاعبها اليومية، فهي في صراع دائم مع النفايات و مهمتها أن لا تترك شيئا على الطريق و الرصيف و مواقع الصلاة المفتوحة على بوابات الحرم المقدس.

منذ عقود طويلة ظل زوار البقاع المقدسة أوفياء لعادات وتقاليد راسخة، و تأتي طقوس نثر القمح و إطعام الحمام، في مقدمة هذه التقاليد العريقة التي ظلت صامدة في وجه التحولات الاجتماعية المتسارعة التي تشهدها المجتمعات الإسلامية عبر العالم.  
فلماذا ترمى كل هذه الكميات من القمح في طرقات و ساحات مكة، و حتى ببعض المواقع حول المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة، و مشعر عرفات و جبل أحد، و غيرها من الأماكن المقدسة التي يزورها الناس خلال مواسم الحج و العمرة؟ و من هم باعة قمح الحرم؟ و كيف تحول القمح هنا إلى تجارة تدر المال الكثير و تستقطب إليها المزيد من الرجال و النساء القادمين من دول عربية و إفريقية، و حتى من أهل مكة الذين يعتمدون على مواسم الحج و العمرة لتأمين مصادر العيش من خلال مهنة الطواف و تجارة الألبسة و الهدايا و القمح الذي يكتسي أهمية خاصة للباعة و الزوار؟  
تكفير عن الخطايا و معتقدات أخرى  

أمام أبراج الصفوة أو ما يعرف بأبراج الساعة الشاهقة بمنطقة أجياد الشهيرة، يجلس شيخ يبدو أنه يعاني من مشاكل في الحركة و حوله أكياس صغيرة من القمح، ربما يكون من أهل مكة، و بالقرب منه امرأة إفريقية تتفاوض مع إحدى الزائرات و تحاول إقناعها بشراء عدة أكياس من القمح و نثرها للحمام من أجل التكفير عن الخطايا و ربما رغبة و أملا في إيجاد حلول لمشاكل اجتماعية كالزواج و الذرية و التجارة الرابحة و الوظيفة المريحة و غيرها، مما تشتهيه الأنفس في الحياة الدنيا.
هنا في ساحة الحرم الجنوبية تنتشر تجارة القمح و يتوافد الزوار الباحثين عن تكفير الخطايا و متاع الدنيا من مال و بنون، يعتقدون بأن نثر القمح و إطعام الحمام، يحقق لهم أحلامهم و الكعبة المشرفة على بعد أمتار قليلة منهم، و الأرض التي يمشون عليها هي أطهر بقاع الأرض و الصلاة بالحرم المقدس لا تضاهيها صلاة بأي مكان آخر على وجه الأرض، دون الحرم النبوي و القدس الشريف، كما يقول الرافضون لهذه الطقوس العريقة.
ربما يكون هؤلاء الذين ينثرون القمح لأسراب الحمام ، ضحية معتقدات قديمة ظلت متجذرة، وسط مجتمعات كثيرة لم تتخلص بعد من طقوس سائدة، فالبعض يعتقد بأن إطعام الحمام قد يزيد من الأجر و الثواب و يخفف من تبعات الخطيئة التي تقع خلال أداء المناسك، كاللغو و السهو و النظر و الغضب عند الزحام و غيرها من الأشياء التي تحدث للزوار بين حين و آخر.  
و يعتقدون أيضا بأن قمح مكة الذي نال الحمام منه، ربما يشفي من العلل و يجلب الحظ و السعادة، و لذا ترى نساء كثيرات يجمعن ما تبقى على الأرض بعد أن تغادر أسراب الحمام عائدة إلى أوكارها بجبال مكة و مبانيها العالية و كهوفها السحيقة، و يحملن ما جمعنه من القمح إلى بلادهن البعيدة، عندما يحين موعد الرحيل.  
و لا تقتصر عادة نثر القمح بالبقاع المقدسة على النساء فقط، فحتى الرجال ينثرونه ، لكن عددهم قليل و البعض منهم يشعر بالحرج و هو يفرغ أكياس القمح على الرصيف و أمامه عامل نظافة ينتظر، لتنظيف المكان.  
و يعد الزوار القادمون من الدول العربية و الإفريقية الأكثر إقبالا على شراء القمح و نثره، و هناك رجال و نساء من آسيا و أوروبا يفعلون هذا أيضا، متأثرين بما يشاهدونه كل يوم، و معتقدين بأن المسلمين العرب و الأفارقة ربما يكونون على شيء من الاعتقاد الصحيح.  
 و عادة ما يشتري ناثرو القمح عدة أكياس بسعر قد يصل إلى 50 ريالا ، ما يعادل ألفين و 500 دينار جزائري للكيلوغرام الواحد من القمح تقريبا، و تبعا لحجم الخطيئة و طلب المتاع، تكون كميات القمح أكثر.  
هيئة الإرشاد الديني بالحرم المكي  التكفير عن الذنب يكون بالاستغفار  
سألنا أحد إطارات هيئة الفتوى و الإرشاد الديني بالحرم المكي عن المعتقدات السائدة بين الناس حول نثر القمح للحمام، فأجابنا بأن ما يعتقده هؤلاء الزوار خاطئ ،و أن التكفير عن الخطأ يكون بالاستغفار و الصلاة و العودة إلى الله، و الدعاء بطلب الرزق و الذرية و غيرها من المطالب الدنيوية الأخرى المشروعة.  
و يتردد الكثير من الناس على مواقع هيئة الإرشاد الديني المتواجدة على بوابات الحرم المكي، للاستفسار عن قضايا الدين و الدنيا و كل ما يتعلق بمناسك الحج و العمرة و الحياة اليومية بالحرم المكي.  
و لم يعترض المشرفون على شؤون الحرم و البقاع المقدسة الأخرى على نثر القمح لإطعام أسراب الحمام، لكنهم ينظرون بقلق إلى تنامي العادات و المعتقدات غير الصحيحة بين الزوار و يحاولون باستمرار توجيه الناس إلى النهج الصحيح و حثهم على درء المعتقدات الخاطئة.   
و يحاول رجال أمن الحرم العاملين بالساحات الخارجية و الطرقات، حث الزوار على عدم رمي القمح في الطريق العام، لما يسببه من متاعب و مخاطر للراجلين، لكنهم يواجهون صعوبات كبيرة للتعامل مع الحشود البشرية المختلفة اللهجات و العادات.  
ناثرو القمح و عمال النظافة.. عناد و صبر جميل
 يواجه عمال تنظيف ساحات الحرم و الطرقات المؤدية إليه، متاعب كبيرة مع ناثري القمح الذين يرمونه على مساحات واسعة لاستقطاب أكبر عدد ممكن من الحمام، معتقدين بأن الأجر ربما يكون أكبر، كلما كان الحمام أكثر، غير مكترثين بما يسببونه من متاعب لعمال النظافة القادمين من الدول الآسيوية.  

و كلما تم نثر القمح في طريق المشاة يسارع أصحاب البذلة الخضراء إلى تنظيف المكان، و جمع القمح و وضعه بمواقع محددة، و في بعض الأحيان يشعر ناثرو القمح بالقلق و عدم الرضا عندما يتدخل عمال النظافة لجمع ما رموه على الأرض، قبل أن تصل إليه أسراب الحمام، و يضطرون لإعادة المحاولة مرة أخرى و في مكان لا يوجد به كثير من عمال النظافة، حتى يبقى القمح أطول مدة على الأرض، و تأكل منه الطير، فيكون الأجر و الثواب و تتحقق الآمال و الأحلام، كما يعتقدون.  
و تبدأ عملية نثر القمح صباحا عندما تأتي أسراب الحمام من أوكارها القريبة و البعيدة، و يقولون بأن بعض الحمام يأتي من المدينة المنورة و مواطن أخرى من المملكة في مواسم الحج، التي تكثر فيها عمليات نثر القمح على مدى شهر أو يزيد.  
و يتميز عمال النظافة بالحرم المكي بالصبر و الأخلاق العالية، و يواجهون المواقف الحرجة و تعنت بعض الزوار بحكمة كبيرة و يكتفون بنظرات عتاب عندما يتمادى ناثرو القمح و النفايات الأخرى في سلوكهم المثير للقلق على الطرقات و بوابات الحرم المكي المقدس.  
و تتميز فرق النظافة بالحرم المكي و المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة و المواقع الأخرى المقدسة، بتنظيم جيد و برامج عمل دقيقة تشرف عليها الهيئة العامة لشؤون المقدسات، و كل عامل يتحرك، وفق برنامج زمني و موقع محدد، و يتحمل مسؤولية المكان المتواجد فيه، فمستقبله المهني و بقاؤه بمكة و المدينة مرتبط بمدى قدرته على العمل و تنفيذ البرنامج اليومي، فلا مجال هنا للتهاون عندما يتعلق الأمر بالعمل و المقدسات و الحشود الكبيرة من الزوار الذين يخلفون كميات هائلة من النفايات على الطرقات و الساحات، بالرغم من النداءات التي توجه لهم بين حين و آخر ، و اللافتات المتواجدة في كل مكان تطلب منهم التعاون للمحافظة على نظافة المكان و التحلي بتعاليم الدين الإسلامي التي تحث على النظافة في كل مكان.
حمام مكة.. قداسة و تاريخ عريق
   حمام مكة طائر جميل وديع و صديق للإنسان، لا يهرب من المارة و يكاد يحط على رؤوسهم و كأنه يداعبهم بلطف، و يذكرهم بأنه سيظل طائر سلام، كما كان منذ أن وجد على الأرض.  
و ينظر الناس هنا إلى الحمام نظرة مقدسة فلا يأذونه و لا يقتلونه و لا يدمرون أوكاره ، و لا يتلفون بيضه بالأعشاش، مستمدين اعتقادهم من تاريخ عريق للحمام، فهو من أنقذ الرسول و صاحبه عندما ضلل قريش بالغار، و هي تلاحق الرسول تريد القضاء عليه و على رسالة الإسلام التي انطلقت من هنا.. من مكة الأرض المقدسة.  
كما يعتقدون بأن الطير الأبابيل التي قضت على أصحاب الفيل و حمت الكعبة المشرفة قبل 14 قرنا و نصف من الزمن، ربما تكون الحمام أو طيور تشبهه، و أن هذا الطائر هو من اهتدى به عيسى عليه السلام إلى البر للنجاة من الطوفان الكبير.    
كل هذه المعتقدات و الآمال و الأحلام المرتبطة بحمام مكة، جعلت الناس يحبونه و يطعمونه قمحا، و يلتقطون معه صورا تذكارية جميلة عندما يصلون إلى المدينة المنورة و مكة المكرمة خلال مواسم الحج و العمرة التي تكتسي أهمية كبيرة في حياة المسلمين عبر العالم.  
فريد.غ  

الرجوع إلى الأعلى