الغناء النسوي  في قسنطينة.. حناجر أسكتتها العادات و خنقها الإقصاء
تشهد الساحة الفنية بولاية قسنطينة غيابا لافتا للأصوات النسائية، و الموجودة منها تعد على رؤوس الأصابع، على غرار الفنانة فلة الفرقاني، صورية زبيري، حسنية و مريم سلطاني، كما نلاحظ اندثار الكثير من الطبوع الغنائية النسوية التي كانت تميز قسنطينة، مثل الفقيرات و البنوتات التي كانت المرأة تسجل حضورها من خلالها، و تساهم بفضلها في إثراء المجال الموسيقي المحلي، لكن اليوم و على الرغم من ظهور مواهب من حين لآخر، إلا أنها تظل مغمورة فنيا لأسباب عديدة، يرجعها البعض إلى التغيرات الاجتماعية و السياسية، فيما يرى آخرون أن هذا التغييب أفرزته سياسة  إقصاء موهبة حواء الغنائية لفائدة  الأصوات الرجالية، و هو واقع قزم مساهمتها الموسيقية، فهي ككائن اجتماعي لا تزال مقيدة بالعادات و التقاليد، و بالتالي تعاني من غياب شبه تام في مجال الغناء التراثي بقسنطينة.
هيبـــة عزيـــون

مغنية المالوف صورية زبيري
الإقصاء سبب تراجع الأصوات النسوية بقسنطينة
ترى مغنية المالوف و النوبة الأندلسية صورية زبيري، أن سبب غياب و تراجع الأصوات النسوية بقسنطينة، يعود إلى سياسة الإقصاء الممارسة على المرأة عموما بالولاية، و عدم تشجيع المواهب الفنية النسوية خصوصا، حيث تفتقر حاليا الساحة الفنية القسنطينية للأصوات النسوية بشكل كبير، و لا توجد بها سوى أسماء تعد على رؤوس الأصابع،  على غرار فلة الفرقاني و المتحدثة.
و اعتبرت زبيري الأمر مفتعلا ، من أجل تقزيم المرأة  الفنانة بقسنطينة ، عكس الولايات الأخرى،  فعلى الرغم من التطور و الحداثة الحاصلين، غير أن كل المؤشرات التي من شأنها إعطاء دفع أكثر للفن النسوي ، لم تساهم في بروز أصوات غنائية أنثوية بعاصمة الشرق الجزائري. و أضافت المتحدثة  أن الموروث اللامادي الذي ميز قسنطينة لسنوات طويلة، مهدد بالزوال و الاندثار نهائيا.
و عادت صورية زبيري بذاكرتها إلى  الفرق التي كانت متواجدة خلال السبعينات و الثمانينات من القرن الماضي، على غرار البسطانجية و الفرقانية و غيرها ، التي كانت تزخر بأصوات نسوية مميزة كلها لم يبق لها وجود حاليا.  و ربطت ذلك بالإقصاء و غياب سياسة التسويق و الترويج للمواهب و  الموروث الشعبي العريق، على غرار الفقيرات و البنوتات.و هنا تساءلت الفنانة صورية عن سبب عدم إعطاء قسنطينة للمرأة الفنانة حقها في البروز و التألق، و احتكار الرجال لمختلف الطبوع الغنائية، خاصة المالوف.
  و أكدت أن المرأة بإمكانها أداء المالوف و بتميز كبير، و هو التحدي الذي رفعته صورية زبيري، بأدائها  لطابع المالوف و النوبة، و قالت إنها الصوت الوحيد بقسنطينة الذي يؤدي المالوف الأصيل.
 ودعت زبيري القائمين على قطاع  الفن بالولاية، إلى إعطاء الأولوية للموروث الغنائي اللامادي القسنطيني و حمايته من الاندثار، من خلال دعم الأصوات النسوية و كتابة و تسجيل الموروث الغنائي النسوي ، خاصة و أن الأغاني التي اشتهرت بها فرق الفقيرات و  البنوتات، غالبا ما كانت تحفظ و يتم تناقلها شفويا، لأدائها في المناسبات العائلية، على غرار الأعراس و حفلات الختان، و كذا المناسبات الدينية، لأنها عبارة عن غناء صوفي محض.

الفنان العربي غزال
الفنانات ضحايا العادات و التقاليد
اعتبر الفنان العربي غزال أن التقاليد السائدة بولاية قسنطينة، و طبيعة عائلاتها المحافظة من أسباب تراجع الأصوات النسوية بالولاية، فعلى الرغم من انتماء الكثير من المواهب الغنائية الأنثوية  لبعض الجمعيات الموجودة ، و إن كانت قليلة، على غرار جمعية حمودي بن حمودي الحاج و جمعية نجم قرطبة، غير أنه لا يسمح لهذه الأصوات بممارسة  هواية الغناء كحرفة، خارج إطار الجمعية الثقافية ، و ظهورها في الساحة الفنية يتوقف مباشرة بعد مغادرة الجمعية.
 من ناحية أخرى فإن تغير النمط المعيشي و الاجتماعي بالولاية، ساهم في اندثار الكثير من الطبوع الغنائية النسائية، على غرار البنوتات و الفقيرات، الطابعين  اللذين كانا متنفسا للكثير من الأصوات النسائية قديما و الفضاء الحر لاحتضانها.
أما الأصوات الموجودة حاليا ، على غرار حسنية ، فلة الفرقاني ، صورية زبيري و المغتربة مريم سلطاني، حسب العربي غزال،، فإن انعدام النشاط الثقافي بقسنطينة ساهم في تغييب هذه الأسماء و أضحى ظهورهن مناسباتيا.

الأستاذ محمد علمي باحث مهتم بالتراث
الساحة الفنية القسنطينية عانت طويلا من نقص الأصوات النسوية
أرجع الباحث المهتم بالتراث القسنطيني الأستاذ محمد علمي  من جهته، سبب تراجع الأصوات النسوية المؤدية للطبوع الغنائية القسنطينية، إلى غياب جمعيات فنية فاعلة تعتبر المدرسة الأولى لاحتواء  المواهب و صقلها، لكي تكون قادرة على إثبات نفسها بالساحة الفنية المحلية و الوطنية ، و حتى خارج الوطن.
هذه النتيجة توصل إليها المتحدث من خلال دراسة ميدانية بعنوان «مدرسة قسنطينة أصول و فروع» أجراها قبل سنوات، و من بين الفروع التي تطرق إليها الباحث في دراسته الغناء النسوي بقسنطينة الذي تمتد  أصوله إلى الأندلس و غرناطة ، حيث بينت هذه الدراسة أن من أبرز أسباب تراجع الأغنية النسوية الاصيلة بالولاية، غياب الجمعيات الفنية لتأطير المواهب، و تحديدا  منذ العشرية السوداء ، و  حتى المدارس و الجمعيات التي كانت موجودة اندثرت.  و بالتالي غاب الرافد الأول  لاحتواء هذه المواهب الفنية، ناهيك عن صعوبة أداء طابع  المالوف القسنطيني من قبل المرأة ، حسبه، ما جعله حكرا على الرجل .
و يرى المتحدث أن الأصوات النسوية بقسنطينة و إن أضحت معدودة، فإنها كانت منذ القدم قليلة و منحصرة بين طابعي  الفقيرات و البنوتات، على غرار جوق بنت العيساني و هو أول جوق نسوي قسنطيني تأسس بين 1830 إلى 1840  ، ثم جوق بنت الكحلة ،  بلفرطاس  ، جوق زهور الفرقاني ، جوق البقرات، و بعض الأجواق الفنية التي كانت مؤلفة من النسوة و اشتهرت بأداء الأغاني الصوفية و المدائح الدينية  من الحوزي ، المحجوز ، الزجل و العروبي.
 و ترتكز هذه الطبوع أساسا على قوة الصوت في الأداء ، و بعض الآلات الموسيقية ، مثل البندير ، الدف و الطار ، و قد ساهم الطابع الاجتماعي للأسر القسنطينية  آنذاك، في ظهور و انتشار هذه الطبوع الغنائية النسوية   التي تكون غالبا حاضرة في مختلف المناسبات الاجتماعية ، إضافة إلى ذلك فإن التحريف الذي طال مختلف هذه الأنماط، و خاصة ما تعلق بالمواضيع و الكلمات و الإيقاعات، كان وراء عزوف الأصوات النسوية.

عائلة الفرقاني وعاء لا يزال يحتوي الموسيقى النسوية
خلال مئوية الفنانة زهور الفرقاني ، الصوت البارز في طابع البنوتات بقسنطينة،  قال عدد من أفراد عائلتها للنصر، على غرار ابني أخويها عبد الله و عائشة باية الفرقاني، أن العائلة لا تزال تحافظ على مختلف الطبوع الغنائية النسوية ، و تلقن الأغاني و طرق الأداء لبنات العائلة . و لا تزال الكثير من بنات العائلة تقمن بإحياء حفلات الأهل و بعض الأسر القسنطينية داخل و خارج الوطن بأصوات نسائية محضة ، من خلال تداول هذا الموروث اللامادي الذي يرمز لخصوصية الولاية و العائلة بشكل كبير ، كما أن جوق الفنانة فلة الفرقاني يتكون من عدة أصوات نسائية عائلية.
و أوضحت عائشة الفرقاني أنها لا تزال تؤدي مختلف أغاني البنوتات في مختلف المناسبات، خاصة في ما يتعلق بـ"تعليلة لعروسة" و كذا حفلات الختان و المولد النبوي الشريف،غير أنها  بقيت منحصرة بين أفراد عائلة الفرقاني و بعض العائلات.
و أعربت المتحدثة عن أسفها لغياب أصوات نسائية حاليا تؤدي هذه الطبوع  التي تعكس أصالة و عراقة الولاية .
من جهته أكد ابن أخ الفنانة زهور الفرقاني، عبد الله، أن التغيرات السياسية التي مرت بها الجزائر، قد ألقت بظلالها على مختلف جوانب الحياة ، و تعد من أبرز الأسباب التي أدت إلى غياب الأصوات النسوية بالولاية.                    
هـ/ع

الرجوع إلى الأعلى