المقصلة نتاج عصر الأنوار قدمها الدكتور غيوتان عام 1789 أي مع الثورة الفرنسية وميلاد مبادئها ثم تم تقريرها  كأداة لقتل المحكوم عليهم بالإعدام.
عبد السلام يخلف / جامعة قسنطينة
سجن مونلوك تم تشييده عام 1921. شكله مستطيل بطول مائتي متر وعرض 40 مترا يتكون من ثلاثة طوابق تتوزع حول ساحة مركزية. 120 زنزانة مساحة ُ كل واحدة 3.5 متر مربع كانت كافية ً كي تستقبل ثمانية سجناء دون أسرّة أو مرحاض. الأمن في المكان مضمون بأسوار ضخمة طولها 12 مترا وأروقة تحيط بالسجن وحراس في كل مكان يرافقون الذاكرة. السجن بالنسبة للفرنسيين حمولة تاريخية عظيمة ليس بسبب الجزائريين الذين تم تعذيبهم ببشاعة وإعدامهم هناك بل بذكرى الحرب العالمية الثانية حين تعرضت فرنسا للهزيمة وبالتالي الاحتلال الألماني حين اكتسح جيش الفيرماخت مدينة ليون وقام بالزج بالكثير من الناس في زنزانات مونلوك. تحول السجن اليوم إلى بناية تحفظ الذاكرة الوطنية للفرنسيين وخاصة اليهود يزوره الناس للإطلاع على التاريخ  حين تحوّل مونلوك إلى مكان لأسر 10 آلاف من الرجال والأطفال والنساء وخاصة رجال المقاومة وعلى رأسهم (Jean Moulin) الذي يحمل سور السجن اليوم رسمة له ولأسماء الكثير ممن قضوا بعض عمرهم بين القضبان أو تم إعدامهم أو إرسالهم إلى أماكن الموت بعد أن تحول إلى سجن للنساء. أغلق أبوابه سنة 2009 بسبب الاكتظاظ والإهمال الذي تعرضت له بناياته وفتح أبوابه من جديد عام 2010 كمتحف ومكان لزوار الذاكرة الفرنسية والبشاعات النازية.
في 1983 تم إلقاء القبض على قائد الغيستابو كلاوس باربي الذي قيل أنه عراف التعذيب وأخذوه إلى سجن مونلوك كي يقضي ليلة هناك في الزنزانة إذلالا رمزيا لكنهم نسوا جلاديهم وقتلتهم الذين تفننوا في تعذيب الجزائريين وتدميرهم نفسيا بتدعيم جنون الانتظار خلف الباب ليلا وجرّهم إلى المقصلة عند الفجر ودفنهم قبل طلوع الشمس في هامش من مقبرة لم يحضوا فيها بكفن أبيض وقبر مستطيل أو شجرة ورد تغرس في ساحة السجن تذكارا للفرنسيين واليهود الذين تم الزج بهم هناك وإرسالهم إلى محتشدات النازية.
تقول الأوراق المبعثرة اليوم في الكتب أنه استقبل المساجين الجزائريين المحكوم عليهم بالإعدام خلال ثورة الجزائر.. دون تفاصيل. لم يذكروا أسماءهم: عناصر جبهة التحرير الوطني في فرنسا وبعد الكثير من الأحداث الدموية والصراعات بين الجماعات وعمليات التصفية التي تعرض لها مناضلو MNA  و FLN   تم القبض عليهم والحكم على 112 منهم بالإعدام بكل السهولة الممكنة. تحاول فرنسا الاستعمارية تخويف المناضلين وردع الثوار لمنعهم من نقل الثورة الجزائرية إلى أراضيها.
خضع للمقصلة رجال من ذهب : الأول كان الشهيد البطل بن زوزو محمد يوم 26 سبتمبر 1959 الذي نعتوه «بإرهابي من شمال إفريقيا». آيت رابح أحسن وكذلك شرشاري أحمد في 23 فيفري 1960 و لم يتجاوز الثلاثين سنة من العمر. كعبوش عبد الله في 17 مارس 1960 حارب بالهند الصينية وحوكم بتهمة اغتيال أحد المعارضين للجبهة والذي وشى بالكثير من أعضائها. فغول محمد وبراهيمي مناعي في 05 أفريل 1960. طافر بوخميس في 09 جويلية 1960. لخليفي عبد الرحمان في 30 جويلية 1960 وصدر حكم الإعدام في غيابه وغياب دفاعه وعمره لم يتعد 19 سنة وكانت تهمته استعمال السلاح في هجوم على مركزين للشرطة بمدينة ليون وجرح سبعة أشخاص. بوقندورة ميلود متزوج من فرنسية وقفتْ إلى جانبه طيلة سجنه وكانت تكتب له أربع مرات في الأسبوع معه مخلوف عبد القادر في 05 أوت 1960 الذي طيلة المحاكمة رفض الدفاع في محكمة عسكرية والتزم الصمت. دهيل صالح في  31 جانفي 1961 الذي كانت آخر كلماته «تحيا لافلان» تحيا الجزائر الحرة المستقلة. أسماء ترنّ في الأذن بصراخها وصمتها حين تنساها قائمة المساجين المعروضة في السجن للذاكرة وغياب الصور التي تبجلهم وتحفظ نبلهم.
أبواب السجن مفتوحة على مصراعيها للقادم الجديد رفقة خمسة من رفقائه ولا مدعاة للقلق لأن الحكم قد صدر سلفا ولا يحتاج هؤلاء للاعتراف بجرائمهم لأنهم ما داموا تحت الاستعمار فإن الضعيف هو الذي يدفع الفاتورة. قائدهم يحمل اسم موسى لشتر الذي رأى الكولونيل العنصري (Morel) العائد من الجزائر التي يدعي حبها يسارع بفرح للحكم بالإعدام على مجموعة الجزائريين الذين يتم جرهم إلى الزنزانات. نشر موسى لشتر كتابا صغيرا يحمل عنوان «المقصلة: يوميات محكوم عليه بالإعدام» بمنشورات ماسبيرو عام 1962 يحكي فيه الألم والضغط النفسي الذي يتعرض له السجين من خلال تواجده في زنزانة تحبس الأنفاس وفي أروقة خانقة تنبعث منها رائحة الموت والحارس الذي يذكِرك في كل لحظة في حالة نسيت: «سيقطعون رأسك هنا» مشيرا إلى المكان الذي توضع فيه المقصلة. يقول: هو لا يعلم أننا كلما ضعف الجسد تتسامى الروح وتتعالى الكبرياء لأن بالقلب أهل نودّ تحريرهم من العبودية ووطن نرجو له السؤدد و لا يعلم أيضا أننا أصبحنا نتعامل مع الوضع كأموات وهذا منذ أن تم الحكم علينا بالإعدام ونحن نروح ونجيء في هذا الرواق المشؤوم حين يطلب مني حارس الزنزانة أن أناوله سترتي وسروالي وحذائي لا أرتبك أبدا لأنني تعلمت هذا في السجنين السابقين (Maçon & Saint Paul).
يحكي قصص أصدقائه الذين رآهم لآخر مرة في رواق سجن مونلوك البشع. فغول محمد رجل شجاع مناضل من الصنف النادر، لم تغادر السلاسل يديه طول تواجده بالسجن لأن الإدارة الاستعمارية صنفته «خطيرا». في الطريق إلى الموت رفض السلاسل ورفض المساعدة بل صعد لوحده على لوح المقصلة ووضع رأسه تحت الشفرة وفتح عينيه واسعتين، أما صديقه مناعي ابراهيم فقد أغمي عليه من هول ما رأى وانتظروه حتى أفاق وقطعوا رأسه بنفس الطريقة البشعة التي هي حضارتهم. حين جئت إلى سجن مونلوك كنت أعرف العمل الثوري وكنت مسؤولا على الجناح (D) في سجن سان بول ومعزولا في زنزانة انفرادية لمدة 14 شهرا. أصبحت مسؤولا عن التنظيم داخل السجن الذي قررنا ألا كلام سوى مع السلطات الجزائرية والصمت هو السلاح الصارم والصادم للاستعمار.
طافر بوخميس صديقي الذي قضيت النهار ألعب كرة القدم معه في ساحة السجن وأكلنا بعض الفواكه وضحكنا، افترقنا مساء على ابتسامة وأمل في الغد ... اقتادوه قبل الفجر وسمعتُ صوته يقول: «لقد جاء الجلادون لأخذي، سلمولي بزاف على الجزائر، ابقاوْ على خير خاوتي محفوظ وموسى ربي يعاونكم». بعد مقتل هذا الرجل الفذ لم يبق هناك خوف أو تردد حتى الحارس بكاه بحرقة قائلا «نادرة طينة هذا الرجل القوي الصابر المخلص الشجاع». في الأروقة كنا نردد «من جبالنا طلع صوت الأحرار» وتحيا الحكومة المؤقتة وتحيا جبهة التحرير الوطني ويحيا الشعب الجزائري وتحيا الجزائر. منذ ذلك اليوم قررنا جماعيا النوم باكرا والاستيقاظ باكرا كي ننتظر القتلة في زنزاناتنا دون مباغتة أو مفاجأة قبل الفجر وذاك ما تعجبوا لأجله.
جاء دور لخليفي عبد الرحمان الذي صلى ركعتين وسمع وسمعنا صديقنا الشاب الفرنسي (Actis) الذي رفض محاربة الجزائريين يصرخ: (Assassins, courage mon frère). جاء دور بوقندورة ميلود الذي قال أنه رأى نفس الشخص القصير القامة صاحب النظارتين والذي أكثر النظر إليه في الوقت الذي يبدي أنه ينظر للحائط الذي يخضع للترميم لكن تأكدنا جميعا أن في عينيه بريق القتلة الذين لا يشبعون من دماء الأبرياء ومن صمت الأرواح النبيلة. لم يكن ميلود يبتسم ولم يقل شيئا، في عينيه بريق، مرّ أمام زنزانتي وقال: «سلملي على الخاوة، ربي يكون معاكم وما تنساش تكتب لوالديّ بريّة». في كل مرة يفتحون الزنزانة كي يقولوا للمحكوم عليه بالإعدام: «تعال ارتدِ ثيابك المدنية وصلّ ركعتين» ثم إلى المقصلة.
جاء دور مخلوف عبد القادر الذي بصق صباحا في وجه ممثل الحكومة الفرنسية فرفض له أن يؤدي الركعتين فأداهما تحديا ويداه مربوطتان بالسلاسل. نسي أن يودعنا لكنه لم ينس «تحيا الجزائر» والصراخ في وجه القتلة ( salauds de français) ثم «الله أكبر» ثم اختفى صوته في الرواق إلى الأبد.
يضيف السيد لشتر: «بدأت أعدادنا تتناقص مع العفو أو الإعدام حتى بقينا عشرة فقط في رواق الموت ننتظر دون أخبار من خارج السجن مع الحزن الذي يكبر. فجأة سمعنا أن ممثلي الحكومة الجزائرية المؤقتة رفعوا رسميا صوتهم ضد عمليات الإعدام الممارسة في حق الجزائريين وطالبوا بوقفها حالا كما أن الكثير من المثقفين والفلاسفة والشعراء الفرنسيين النزهاء مشوا في مسيرات كي تتوقف هذه الجرائم وأرسلوا ببرقيات إلى زعماء العالم إلى إيزنهاور وكروتشيف أسماء كبيرة يجب أن نحفظها في الذاكرة ونرد لها الجميل: أراغون، سارتر، بيكاسو، مورياك الخ. في السجن كنت أحد الثلاثة أشخاص الذين تكفلوا بتعليم القراءة والكتابة ورفع مستوى المساجين الجزائريين ببقايا كتب مدرسية بها قواعد النحو والصرف وكنا نعتبر أن رواق الموت مِلكـُنا ولم تكن إدارة السجن تتدخل كثيرا في حل المشاكل والخلافات التي تحدث بيننا فيما يخص التنظيم وتسوية النزاعات».
حان دور الأخ دهيل صالح الذي مشى نحو المقصلة وهو يغني متحديا كل ما يمثل الاستعمار والخوف من الموت والكولونيل (Morel) هذا السفاح الذي قال ضاحكا: «أنا بصدد أخذ صديقكم في نزهة صباحية» وهو يمثل ضمير الاستعمار والعجرفة وسلب حقوق الشعوب وحريتها يمثل دموية وقسوة النظام الفرنسي الذي لم يتعلم من تجاربه السابقة وانهزامه أمام الجيش الألماني ومعاناته في الزنزانات وأعمال الغيستابو الوحشية. تعرض دهيل صالح للتعذيب الشديد لكنه لم يفشل وبقي شجاعا للحظة الأخيرة وهو يلبس جسده الذي كان يحمل آثارا كثيرة عن العنف البشع.

يقول موسى لشتر: «أجلس في زنزانتي منتظرا دوري. تمرّ الساعات والدقائق، أسمع صوت مزلاج الباب وهو ينفتح مرتين. مزلاجين. خطوات الحارس. ظننته القاتل وبعدها المقصلة. الصمت من جديد. أقرأ بعض صفحات من كتاب. أكاد أتقيأ. يأتي الليل وأستعد لزيارة من الزبانية كي يجروني إلى المكان الذي سيق إليه أحد عشر من رفاقي. رواق الموت ورائحة الانتظار الطويل. أصابُ بالصداع وأروح أدور على ذاتي في غرفتي الزنزانة وفي كل الاتجاهات الممكنة. يتوقف الوقت. أسمع خطوات الحارس الذي يقوم بجولة كل ربع ساعة وأعدّ الجولات وإذا بها ساعة قد مرت. ها أنا ما زلت حيا في انتظار الذي سيحدث. الذي يحدث أعرفه جيدا ولا أخشاه. أستعيد ذكرياتي البعيدة وأنا طفل أركض في حقول القمح بالجزائر في انتظار الغروب. أرى الآن تقاسيم وجوه أصدقائي وأفراد عائلتي وهم يستقبلون ثيابي من دوني. أمشي وأنتظر. أعرف كيف استقبل السفاحين القتلة. لن يفاجئني أحد في نومي. أنتظرهم كي يدخلوا الزنزانة ويجدونني واقفا. سأسبقهم مشيا في الرواق. سأغني مع أصدقائي الأناشيد المقدسة. سأبقى بارد الأعصاب كي أغيض العدو وسألمس بعيني السحب العابرة والسماء الزرقاء.
أسمع في الرواق بعض الخطوات. لقد جاءوا لأخذي. حان دوري. أصوات رفاقي في الزنزانات الأخرى تتعالى وهم يستعدون لمرافقتي بأهازيجهم والتكبيرات. حضّرت جوابا للمفتي الذي سيرافقني أمام المقصلة، سأقول له: «روح تحارب على حرية بلادك، ربي نعرف نطلبو وحدي، روح، روح الله يهديك». دخلتْ الشمس من بين قضبان النافذة وملأت الزنزانة وبعثت الأمل في عيش يوم جديد. لن أموت اليوم والشمس هنا كي تقول لي ذلك. سمعت صوتا مألوفا في نهاية الرواق يقول: «باستطاعتكم النوم الآن أيها الرفاق». نمت نومة عميقة. كانت الساعة السادسة صباحا. ما زلت حيا».
بعد اتفاقيات إيفيان تم نقله مع 1585 معتقلا محكوما عليهم بالإعدام إلى (Vadenay) ثم إطلاق سراحه في ماي 1962. هذه حكاية موسى لشتر الرجل الطيب الذي عاش الأهوال يصرّ دوما أنها من أجل الجزائر ولا يبغي عليها جزاء ولا شكورا. اليوم يتعجب فقط من غياب الأصدقاء والمعارف ورفقاء الدروبات الكثيرة والحياة الطويلة معهم، لا أحد يطل، لا أحد يسأل عنه وعن صحته، يا لها من حياة وهؤلاء الشهداء الأحد عشر الذين تم إعدامهم وتكفلت السلطات الجزائرية في السبعينيات بنقل رفاتهم ودفنهم بمقبرة العالية لم يتحولوا إلى أبطال ولا يزور قبورهم أحد ولم يدخلوا الكتب المدرسية ولا يعرفهم غوغل ولم تكتب ذاكرتهم ولم تشارك الجامعات في وصف مآثرهم ونضالاتهم لكن اليد الآثمة تركت بصماتها في مسرح الجريمة وبقيت المقصلة واقفة في متحف المجاهد شاهدة على الجرائم التي ارتكبها وحوش الاستعمار في حق أكثر من 200 شهيد سقطت على رقابهم شفرة حادة تزن سبعين كيلوغراما من علوّ 3.5 أمتار وهذا من بين 1500 محكوم عليهم بالإعدام. إنه يوم فرح كبير ويوم اعتزاز وافتخار أن ألتقي وصديقي عبد الناصر خلاف بهذا الرجل المجاهد المتواضع الصابر الذي نجا بأعجوبة من المقصلة. تحدث إلينا بكل حب وإكبار وفرح بطلتنا الخاطفة لأننا أصبحنا جزءا من ذاكرته العامرة.
غادرنا بيته ورأيناه يستند على كتف ابنه الطاهر كي يذهب إلى غرفته وكله أمل بغد أفضل وبجزائر تكبر بأبنائها الطيبين وبذاكرة الرجال الأوفياء للشرف والعرض والأرض الذين رددوا أمام المقصلة: تحيا الجزائر.

الرجوع إلى الأعلى