الصدفة قادتني لكتابة قصص الأطفال و أتوق لخوض مغامرة الرواية
تسافر بين الكلمات، و تبحر بين جزر الشعر، القصة و الأدب، كاتبة، صحفية، شاعرة، تنتظر أن ترسو سفينتها على مرسى الرواية، لتكمل  مسارا بدأته بطفولة حالمة، و أشبعته بطموح رسخته مهنة المتاعب، فرافعت لأجل إنصاف المرأة، لتجد نفسها أمام واقع لم تخطط له،   فكتبت للطفل، و كبرت معه في قصص و قصائد متنوعة.  تجعلك تسافر معها في كل الإتجهات، قبل أن تفتح عيناك لتقرأ اسما خط أحرفه من ذهب في الأدب الجزائري و العربي و العالمي، هي سليمة مليزي،  ابنة الجزائر، التي غيبتها الظروف لـ23 عاما، قبل أن تعود كصاروخ أحدث استثناء في عالم الأدب، تفتح قلبها لقراء جريدة النصر، و تتحدث عن جزء من مشوار يزخر بالأحداث، الأعمال و الجوائز.
حاورتها: إيمان زياري
. النصر: سليمة مليزي، كاتبة وصحفية، كيف كانت البداية، هل الكتابة سبقت الصحافة أم العكس؟
ـ سليمة مليزي : الموهبة أحياناً تولد مع الإنسان، فأنا منذ صغري كنت أحب المطالعة و الكتب، خاصة القصص الخيالية الجميلة، و كنت كثيرة الانزواء في حديقة جدي التي تتميز بجمال فريد، في قرية بني عزيز، أين عشت طفولتي، وكانت الطبيعة بكل جمالها هي الصديق الأقرب لي، حيث كنت كلما قرأت قصة أعيد تمثيلها على شكل مونولوج بصوت عال  و أحدث الطبيعة و العصافير، وأشعر بأنها كانت تسمعني ، وكنتُ أتحصل على أحسن علامة في المدرسة في مادة الإنشاء ، حيث كنت أعبر بجمال عن الطبيعة الساحرة بكل فصولها، من هنا ربما ولدت في موهبة الإبداع،  وبداية كانت بالرسم حيث كانت رسوماتي   يعلقها المعلم  في القسم لإعجابه بها، وأيضا كنتُ أرسم على جدار غرفتنا نحن البنات، أرسم الطبيعة، الربيع، الفلاح، أشجار الفاكهة و كل ما يوجد في الحديقة، رغم قِلّة الإمكانيات في ذلك الوقت، لذلك أرى أن الموهبة تولد مع الإنسان و ما عليه سوى تنميتها بالمطالعة، و قد نشرت أولى أعمالي القصصية في  جريدة  «الشعب» التي كنت أشتغل صحفية بها، و الشعرية في جريدة «الجمهورية» «النادي الأدبي»، أما الصحافة، فكنت مولعة بهذا العالم الساحر الذي منحني الكثير، حيث بدأت أعمل في مجلة «ألوان» وأنا  طالبة ، ما أتاح لي الفرصة للاحتكاك  بصحفيين كبار وأدباء تعلمت منهم أصول الصحافة و الأدب .
أعشق التغلغل في تفاصيل الهندسة المعمارية للمدن
. لماذا اخترت أدب الطفل للانطلاق في عالم الكلمات؟
ـ كما سبق و أن ذكرت طفولتي كانت جد حالمة، و عندما كبرت وجدت تلك  الطفلة فيّ لم تكبر،  و تعلقي  بالطبيعة الساحرة لم يزل مع نضوجي، فوجدت نفسي  أكتب  قصصا للأطفال صدفةً، ولم يكن اختيارا أبدا ، لكنني  أدركت في بداية ثمانينيات القرن الماضي أهمية هذا النوع من الأدب الذي  يربي النشء ويجب الاهتمام به أولا، لأن الطفل يحتاج أن نكتب له  و نطبع فيه أصول التربية والثقافة من خلال القصص التي تهدف إلى ترسيخ التربية السليمة و الصحيحة في ذهنه، ليصبح رجلاُ متعلما يخدم المجتمع ، فتربية جيل صالح هو الاستثمار الحقيقي  لبناء وطن ناجح ، لكن فكرة الكتابة للأطفال في ذلك الوقت كانت شبه منعدمة، عندما أخذت قصتي الأولى إلى منشورات الأطفال  في الشركة الوطنية للنشر منوعات الأطفال ، كانت حديثة النشأة ، و قال  لي المدير حينها ،أشكرك يا ابنتي لأنك تكتبين للأطفال، مؤكدا : نحن نبحث عن  أدباء  يكتبون للأطفال  بالشمع !
 أستطيع أن أقول أنني من بين الأوائل الذين كتبوا قصص الأطفال في الجزائر، وكانت الانطلاقة  جد ناجحة لما  اقترحت سنة 1984 إنشاء  ملحق ثقافي للأطفال في مجلة «الوحدة» للشباب،  كنت أتابع كثيرا  مجلة «العربي الصغير» وهو ملحق للأطفال  كان يصدر عن مجلة «العربي» الشهيرة ، وكان الوحيد الذي يصلنا من العالم العربي  و هو يهتم بأدب الطفل ، فقلت لماذا لا تكون لنا مجلة للأطفال  تخدم الطفل وترسخ التربية والمناهج التعليمية الممهدة لتثقيف الطفل الجزائري ، الحمد لله اقتراحي لقي صدى و قبولا لدى مدير جريدة  «الوحدة»  آنذاك، الأستاذ قارة  محمد الصغير الذي أشكره طبعا على تأييده لفكرتي ، واستقر الملحق» الوحدة الصغير» بعد خمسة أعداد إلى مجلة  مستقلة وهي «رياض»، وكنتُ أقوم بتحريرها مع بعض الرسامين والمصمم الأستاذ علي  حكار، وتحت إشراف صحفيين لهم وزن في الصحافة المكتوبة ، ونجحت بشكل كبير،  وكانت توزع المجلة عبر العالم العربي، وتعتبر الأولى في تاريخ أدب الطفل في الجزائر  بعد مجلة  «مقيدش»  للشريط المرسوم .
. كتبت و رافعت من أجل المرأة و المجتمع، ما هدفك من ذلك؟  و هل تحقق بعد هذا المشوار الطويل من العطاء؟
ـ لو تحدثنا عن نضال المرأة العربية عبر العصور و حتى قبل الإسلام، لقلنا بأنها كانت ذات سلطة وقوة ونفوذ ، مثل الملكة ديهيا المعروفة بالكاهنة التي جَمعت بين الجمال الأمازيغي و الدهاء، ما جعلها تتبوأ مكانة عالية في تاريخ، و إكرام  الإسلام للمرأة دليل على أنها قادرة على خوض كل المعارك الاقتصادية والعلمية، ناهيك عن قيادتها لأمور البيت و تربية الأبناء، وخاصة المرأة الجزائرية التي يضرب بها المثل في العالم بنضالها إبان الثورة التحريرية، فكيف تتراجع اليوم حقوق المرأة و تظل سوء المعاملة من طرف بعض الرجال، في ظل ظاهرة التطرف التي نخرت أفكار الشباب الجزائري، حيث نلمس تراجعا كبيرا في إنصاف المرأة و الاستماع لرأيها الحكيم، بعد أن أصبحت تباع وتشترى وكأنها آلة أو قنبلة قابلة للانفجار في أي لحظة، ضف إلى ذلك ظاهرة  الاغتصاب و الخطف التي انتشرت والقتل والتنكيل بأجساد النساء، خاصة المراهقات  بأبشع الجرائم التي لا تغتفر، لذلك أردت إيصال كلمتي من خلال مقالاتي التي أنشرها في جريدتي «الحوار» و «الجمهورية»، وشبكات التواصل الاجتماعي والجرائد الإلكترونية، لنقل انشغالات المرأة، علها تلقى صدى في  المجتمع المدني، و تتمكن من تغيير النظرة الخاطئة لها.
هناك شرخ بين الأدباء الشباب و أدباء النهضة المعاصرة
. كتاباتك وصلت كل بقاع العالم، وحصدت جوائز معتبرة، ماذا أضاف لك كل هذا؟
ـ أعتبر نفسي بعد العودة إلى الكتابة و الإبداع في بداية الطريق، لأنني أحمل زخما كبيرا من الإبداع و الأفكار التي تؤرقني، ورسالة قوية جدا من أجل تحقيق و لو القليل من طموحي في نشر رسالة امرأة عانت الكثير من أجل فرض وجودها في الساحة الأدبية، وتلك الجوائز ما هي إلا بداية لتمهيد الطريق، من أجل الوقوف على مرفأ صلب وأكون قادرة على التصدي للتيارات التي تواجهني، ومن زوابع تسعى لتحطيم أحلامي .. لأن الشجرة التي لا تهدمها عواصف الشتاء، تستقيم مع أول بزوغ للربيع و تعيد زرع أجمل الورود على حقول العمر.
. ديوانك «على حافة القلب»، حقق نجاحاً كبيراً، ما هو السر في ذلك؟
ـ ديواني «على حافة القلب» الثالث في الشعر، صحيح أنه حقق نجاحا كبيرا، وكُتبت فيه  أكثر من 8 قراءات نقدية من  طرف نقاد ودكاترة وأساتذة جامعيين  وأدباء  من  الجزائر والعراق ولبنان و اليمن والمغرب، ربما لأن معظم القصائد نُشرتْ في جرائد ورقية عريقة عربية وجزائرية كجريدة «الشعب» و»الجمهورية»، و»المستقبل» العراقية وجرائد من مصر، كما أنه يحتوي على قصائد عالجتْ الوضع العربي، أو الربيع العربي  الذي عانى منه الوطن من حروب وهجرة و تشتت وحرمان، خاصة تلك التي خصصت لفلسطين و الأطفال الذين غرقوا في البحر، فضلا عن  ثلاثة قصائد ترجمت لى إلى اللغة الكردية و الإسبانية ، لما تحمله من ألم وحزن و تعبير عن آلام المواطن العربي، بالإضافة إلى  قصائد غزل  تعبر عن هموم الشاب العربي، ومعظم هذه القصائد ، باعتراف مجموعة من طالبات معهد الأدب في جامعات الجزائر، و هي شهادة أعتز بها ، تعبر عن حالة  يعيشها شباب اليوم  من الكبت والحرمان من التعبير عن الحب، كما لا يخفى عليكم أن الديوان ترجم إلى الفرنسية و سيصدر قريبا في باريس، وهناك مشروع لترجمته إلى اللغة الكردية.
. منحت لك صفة سفيرة السلم و الديمقراطية في الشرق الأوسط و شمال إفريقيا كممثلة للمرأة الجزائرية في العالم العربي، هل تمكنت من خلال هذه الصفة من إنصاف المرأة في المجتمع الجزائري و العربي، و كيف تسعين لتحقيق ذلك؟
 ـ للأسف رغم هذا الشرف الذي منح لي من طرف الاتحاد العالمي للأدباء و الكتاب العرب، لم أجد آذانا صاغية تنصفني لأجله في الجزائر، فبسبب بعض العراقيل، عجزت عن تجسيد المشروع ميدانا، لكنني نجحت في ذلك من عمل دؤوب من خلال شبكة التواصل الاجتماعي، بنشر مقالات وانشغالات و نداءات عبر الجرائد والمجلات الإلكترونية والأنشطة الثقافية التي ينظمها الإتحاد عبر الموقع والإذاعة الخاصة بالاتحاد.
. من الصحافة، إلى أدب الطفل إلى القصة
و الشعر، كيف تبحرين بين هذه الجزر، و أين تجد سليمة ملّيزي نفسها أكثـر؟
ـ الإبداع  كالقصة  والشعر هي حالة حميمة تأتي دون استئذان، لذلك يعتبر من أجمل ما أمارسه من مجال الكتابة التي تمنحني  الهدوء والراحة  بعد زوبعة من ألم المخاض الذي تولد معه القصيدة و تقطع حبلي بالانتصار والتحدي، أما المقالة الصحفية، فالواقع هو من يجبرني على كتابتها من خلال الكلام أو التعبير عن وجع ينخر المجتمع، وهذا دوري  ومهمتي إزاء المجتمع، هناك أدب، أعشقه وهو أدب الرحلات، حيث يكمن حبي له  في اكتشاف عواصم العالم،  وأنظر إليها من زاوية المبدعة والأديبة التي ترسم جمال  هذه العواصم المذهلة عبر كلماتها، لأن الإنسان العادي لا يراها من زاوية المبدع، لذلك أعشق التغلغل في تفاصيل الحكاية عن الهندسة المعمارية للمدن، خاصة القديمة التي لها تاريخ مجيد، و تترك في ذهني عشق لا ينضب أبدا ،  حيث سجلت إلى غاية  الآن أكثر من 7 حلقات  في البرنامج الإذاعي «رحالة»  مع الإعلامية ندى عزيزي في القناة الأولى.  
شبكات التواصل الاجتماعي فتحت مجال النشر للمهمشين
. ما تقييمك للواقع الأدبي الجزائري اليوم، و هل أنصفت ملّيزي و السائرات على نهجها المرأة بعد مشوار طويل من الكفاح؟
ـ الوضع الثقافي في الجزائر شهد انفتاحا كبيرا، طبعا من خلال شبكة التواصل الاجتماعي التي فتحت مجالا للنشر لكل المبدعين، هذا الشيء الإيجابي بالنسبة للأدباء المهمشين من طرف بعض المهيمنين على الساحة الأدبية والثقافية منذ عقود، أما في ما يتعلق بالواقع، فهناك حراك أدبي تعكسه بعض الملتقيات، لكنها تبقى منطوية على نفسها، ولا تبحث عن التطور و تغيير الروتين العادي الذي أنشأ شرخا كبيرا بين الأدباء الشباب و أدباء النهضة المعاصرة.
 . لمن تقرأ سليمة مليزي؟
في الحقيقة خلال السنوات الأخيرة حاولت أن أقرأ لكتاب جزائريين مؤسسي الرواية الحديثة، وجدت أن للجزائر أدباء مبدعون  بامتياز، و خاصة الشباب و في مجال الرواية، و أنا أبحث عن ذاتي  بين هؤلاء الشباب، لعلي أشفى من عقدة كوني لا أقرأ للجزائريين، بعدما تربتّ ذائقتي الإبداعية على كبار الكتاب في العالم في الثمانينات القرن الماضي، أقرأ للروائي الكبير الدكتور واسيني الأعرج وعبد العزيز غرمول الذي اعتبره مدرستي الأولى، و حلمي الأبدي الجميل الروائية الكبيرة أحلام مستغانمي التي أوصلت الرواية  الجزائرية إلى العالمية بكل جدارة واستحقاق، و بالنسبة للكتاب الشباب، فقد أعجبت كثيرا  برواية  «أربعون عاما في انتظار ايزابيل» للروائي الشاب سعيد  خطيبي الفائز بجائزة كتارا، و أيضا الروائية الشابة حنان بركاني التي للأسف لم تجد من ينصفها، رغم أنها  أصدرت روايتين و سنها لم يتعد 26 سنة، كما قرأت أيضاً للكاتب الفرنسي   باتريك موديانو روايتين «عشب الليالي» و « حتى لا تتيه في الحي» الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 2014 ، والروائية الشابة هاجر قويدري  روايتها « نورس باشا « والروائي الشاب .إسماعيل  يبرير، لكني أعود أحيانا إلى مكتبتي الذهبية وأقرأ لكتاب عشقت روايتهم في شبابي، كالأديبة غادة السمان، وغابرييل غارسيا مركيز، هيمينغواي، ألبير كامي، لويس  تولوستيوي، نجيب محفوظ، يوسف إدريس، غسان كنفاني، وغيرهم من الكتاب العالمين والعرب.
الملتقيات  الأدبية منطوية على  نفسها
. مشوار طويل، و أعمال متنوعة، تعدت حدود الجزائر جغرافيا، هل حققت كل ما كنت تطمحين إليه، أم هناك آمال في الأفق؟
ـ كلما نشرت مقالة أو قصيدة أو طبعت كتابا، أرميه إلى الوراء وأشعر أنني لا أزال في بداية الطريق ولم أحقق ما أطمح إليه، لأن الفضول والطموح الذي يسكنني لا يتوقف أبدا، أتمنى أن أخوض تجربة الرواية ذات يوم .
. ما جديدك ؟ و هل من رسالة تريدين إيصالها للقراء و متتبعي المشهد الثقافي؟
ـ جديدي  ديوان شعر تحت الطبع عنوانه «حدائق الغفران»و كتاب  في قراءات أدبية  لمجموعة من الكتب الصادرة حديثا، و أعتبر الثقافة والأدب المعيارين الحقيقيين لمعرفة الوجه الآخر للشعوب، حيث يعكسان مدى وعي المفكرين والأدباء من خلال ما يبدعون وما يهتمون به من أدب و تثقيف المجتمع، و تعتبر من أهم مقاييس التحضر لدى الأمم، و يعتبر موروثها الأدبي والتاريخي الذي يعكس الوجه الحضاري للأمة، فالأدب هو الصورة لما في داخل العقل و النفس من فكر و لواعج ، وهذا الفكر واللواعج هي انعكاس لتفاعلات الحياة الثقافية والعلمية والإنسانية التي يعيشها الأديب، لذلك أرى أن الاهتمام بالأدب و الثقافة من الأولويات التي يجب أن تركز عليها الجهات المعنية.أما رسالتي التي أوجهها للقراء، هي أن ينظروا إلى الثقافة والبحث عن العلم والمعرفة على أنهما الشعلة التي تضيء دهاليز الحياة  وتساعدنا على الوصول إلى نور القلب المحب للسلام والأمن و المساواة.  
   إ. ز

الرجوع إلى الأعلى