باحثون يدعون إلى فهم السنة وتطبيقها في ضوء مقاصد الشريعة
دعا باحثون وأخصائيون من جامعات وطنية ودولية إلى ضرورة تناول النصوص الحديثية في ضوء علم المقاصد، بما يسهل الترجيح في كثير من المسائل والأحكام المختلف فيها وحل الأحاديث الصحيحة المشكلة منها والتوفيق بينها. وفتح المجال لدراسة علاقة المقاصد الشرعية بنقد متون السنة النبوية وبيان مذاهب العلماء في ذلك قديما وحديثا، والاهتمام بالتعليل المصلحي في فهم السنة، خصوصا ما يتعلق بالتنزيل على الفتاوى المعاصرة، وفهم مقاصد السنة في ضوء ضوابطها التي سطرها العلماء، وإجراء قراءات ومقاربات نقدية للتوظيف الحداثي للمقاصد.
وفي ملتقى دولي حول الفهم المقاصدي للسنة النبوية بادرت إلى تنظيمه كلية أصول الدين بالتعاون مع مخبر الدراسات القرآنية والسنة النبوية نهاية الأسبوع بجامعة الأمير عبد القادر عبر تقنية التحاضر عن بعد دعا المشاركون إلى إعادة تصنيف كتب السنة بحسب مقاصد موضوعاتها. وتوجيه جهود الباحثين في مرحلة الماستر والدكتوراه ومخابر البحث إلى البحث في هذا ودعم البحوث الأكاديمية التي تعنى بالفكر المقاصدي عند شراح الحديث عموما والسادة المالكية خصوصا، لتميزهم في هذا الجانب، وقلة الدراسات فيه.

ضرورة التوظيف المقاصدي للهدي النبوي  بفهم الجزئيات في ضوء الكليات
لقد تميز ديننا الحنيف بمنظومة تشريعية متناسقة ومتكاملة خالية من التناقض والاضطراب. وأضحى تعارض بعض نصوص السنة لقطعيات التشريع وقواعده الاتفاقية العامة يشكل تعارضا ظاهريا. وهذا التعارض حتى لو تبادر إلى الأذهان أنه محققٌ وواقع؛ إلا أنه في حقيقته متوهم؛ لتنزه الشريعة عن التناقض، ولاستحالة وجود حكم شرعي مقطوع به يخالف مصلحة للناس مقطوعا بها.  أما التعارض بين مصلحة حقيقية معتبرة وبين نص محتمل للتأويل فهذا واقع، ومسالك اجتهاد سلف هذه الأمة والخلفاء الراشدين وأئمة الاجتهاد قائمة على عدم الغلو في اتباع ظواهر النصوص، وترك التمسك بحرفية اللفظ.
ومن هنا انتهج جمهرة أهل العلم مسلك فهم النص الجزئي في دائرة المعاني الكلية القطعية، على صورة تجعله يتوافق ويتلاءم مع المصلحة القطعية المعتبرة شرعًا. فالكلي يفهم في ضوء الجزئي، والجزئي يفهم في ضوء الكلي. وتبقى أحكام الكلّيات جاريةً في الجزئيات، وإنْ خَفِيَ فيها معنى الكلّيات على الخصوص. ذلك لأن مناقضة الجزئي للكلي هو مناقضة ظني لقطعي، وهو مما تتنزه عنه الشريعة التي وصفت بالتناسق والترابط، وهذا كله يدعو إلى إعادة النظر والتأمل في الجزئي، ومحاولة التوفيق بينه وبين الكلي، وجعله أحد مكوناته وأجزائه، لا تنافر بينهما ولا تناقض.  
وقد قام المنهج النبوي على ربط الجزئيات بالكليات وعلى سبيل المثال: إسقاط النبي صلى الله عليه وسلم الحد على الرجل الذي كان ضعيفا وكان قد ارتكب فاحشة، واستبدل ذلك بضربه بمائة شمراخ ضربة واحدة. كل هذا مراعاة لمقصد (حفظ النفس)، واستثناء النبي صلى الله عليه وسلم الإذخر من تحريم قطع شجر الحرم؛  لحاجة الناس إليه، مراعاة لمقصد رفع الحرج.
كما أضحى مبدأ رد الجزئي للكلي مبدأ راسخا لدى سلف الأمة في نصوص السنة التي تتعارض مع كليات، وقد أعملوه في عدة وقائع، منها: رد عائشة لحديث تعذيب الميت ببكاء أهله عليه لمعارضته لقوله تعالى: (ولا تزرُ وازرةٌ وزرَ أخرى)، كما أن مسلك (رد الجزئي للكلي) أضحى منهجا راسخا متأصلا لدى أئمة المذاهب والاجتهاد والفتوى، وأعملوه في عدة مسائل، بل تقررت لديهم قواعد خاصة خادمة لهذا المسلك الاجتهادي، من مثل ما ذهب إليه الحنفية والمالكية من رد حديث الآحاد إذا خالف الأصول العامة أو خالف القياس.
ولرد الجزئي إلى الكلي ضوابط ينبغي مراعاتها منها: التحقق من ثبوت الجزئي وثبوت الكلي، وتحقق التعارض الظاهري ثبوتًا وقوةً، وعدم ثبوت دليل الاستثناء الصريح.
ومن أمثلة رد الجزئي إلى الكلي، حديث منع التسعير؛ فعن أنس قال : “قال الناس يارسول الله غلا السعر فسعر لنا فقال (إن الله هو المسعر..)، فهذا الحديث إذا عمم زمانا ومكانا أوقع في الحرج، وأضرّ بجميع الكليات الشرعية كما أنه معارض لقاعدة (الضرر يزال)، فلهذا يحمل المنع على حالة مخصوصة، أو أنه يرجع إلى نظر السلطان بحسب المصلحة. فيجوز التسعير في حالات ويُمنع في حالات.

من أسباب الأزمة الحضارية غياب الفهم الواعي لأحكام السنة
إن العقل المسلم المؤهل مدعو إلى إعمال ملكاته باستمرار في الكشف عن معاني السنة وما تضمنته من أحكام تفصيلية؛ مستنيرا بفهم السابقين دون الوقوف عندها، أو مكتفيا بها، هذا التدبر العميق والمتجدد والمستمر الذي يقود إلى استخراج ما فيها من معاني مختلفة ومعارف مكنونة، والالتفات إلى مقاصدها السامية، المبثوثة في كل أقواله وأفعاله وتقريراته، وهي مقاصد تنير الفكر، وتوجّه الفهم، وتصوّب الرأي، وتسدّد الالتزام.
ولقد لوحظ في الدراسات التي تمت حول السنة النبوية غلبة المنهج الفقهي عليها، مما أدى تقليص مرجعية السنة وعطاءاتها المعرفية، وعدم تسليط الضوء على الجوانب الأخرى التي حوتها السنة، كالجوانب النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإنسانية والأخلاقية والكونية وغيرها، وعليه فإن العقل المسلم مدعو إلى التعامل مع السنة بنظرة أوسع، والالتفات إلى سعة مقاصدها السامية، وأن يُجدد في كل مرة النظرة التأملية في معانيها، لأن حسن فهم الإسلام وصواب تطبيقه يأتي من سلامة الفهم لتلك المقاصد التي تضمنها كتابُ الله تعالى وسنة رسول الله.
فأزمة الأمة الحضارية وتخلفها ليست بسبب ضياع سنة رسول الله وعدم كتابة أحاديثه، وإنما بغياب الفهم الواعي لأحكام السنة ومعانيها، والذي كان له أثره السلبي على مسألة التأسي والإتباع وإساءة الاقتداء به، وعدم ترجمة معانيهما وإرشاداتها إلى سلوكات وأخلاق وتصرفات تنتظم بها الحياة، ويستقيم بها التَّدَين.
إن إغفال مقاصد السنة وسوء فهمها حتما يؤدي إلى الانحراف في الفكر، وقصور في الفهم والاستنباط، فيترتب عنه ظهور تأويلات ضالة، وبروز تفسيرات شاذة، ثم يتولّد عن ذلك كله انحراف في السلوك التي يظهر في التطبيقات الخاطئة والقاصرة، كظواهر التطرف والغلو، والعنف والتشدد. وقد يصاحبه اعتقاد بأن ذلك يمثل منهج السلف؛ وهي مظاهر غير طبيعية لا تمت بصلة إلى سماحة الدين ووسطيته وقيمه النبيلة، وحذّرت منها السنة النبوية نفسها في نصوصها الكثيرة،
فالكثير من سلوكات الانحراف الديني التي نبتت في حياة الأمة العربية والإسلامية، كانت بسبب فصل أحكام السنة عن مرادها ومقاصدها، أو عدم التعمق في تدبر سنته والقصور في استيعاب معانيهما، فولّد ذلك كلّه مفاهيم خاطئة، هي نتاج غياب الاسترشاد بتعاليم السنة النبوية، والخروج عن إطارها المرجعي، فظهرت في الأمة ظواهر غريبة وممارسات شاذة، أدى ذلك إلى تشويه صورة الإسلام، والتعتيم على سماحته وإنسانيته.
فسلوكات التشدد والغلو في الدين غالبا ما تنتج عن سوء تأويل أو عدم البصيرة بالمقاصد أو انحراف في تفسير نصوص الشرع.
فالقراءة السليمة لمنظومة المقاصد في السنة النبوية، وتجلية معانيها بغرض تحكيمها في الواقع المعيش، هي العاصمة من الشذوذ في الفكر والانحراف في العمل، وأي فهم أو توظيف خارج هذا الإطار فهو قاصر لا يصل إلى عمق ما أراده الإسلام، ولا يحقق غاياته ومراده.

الإمام ابن باديس أسهم في الكشف عن الفقه المقاصدي للسنة النبوية
لقد وظف الإمام عبد الحميد ابن باديس رحمه الله، الفقه المقاصدي للسنة مما نبغ فيه ووظفه أحسن توظيف في أعماله الإصلاحية سواء الفردية منها أو الجماعية التي شاركه فيها إخوانه وتلاميذه أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
ونقف على هذا الفقه عند الإمام رحمه الله فيما كتبه من مقالات شرح فيها جملة من الأحاديث النبوية الشريفة، ونشرها في مجلته الشهيرة التي كان يصدرها كل شهر باسم «الشهاب»، وقد جُمعت هذه المقالات ونُشرت في كتاب جامع تحت العنوان الذي اختاره لها بنفسه وهو “مجالس التذكير من حديث البشير النذير”.
في هذه المقالات يتجلى الفقه المقاصدي عند الإمام ابن باديس رحمه الله، حيث يستخرج المعاني التي تحملها الأحاديث المشروحة ويوظفها توظيفا مقاصديا، فيكشف ما تنطوي عليه هذه المعاني وما تُوجه إليه من مصالح خاصة أو عامة ينبغي جلبها وتحصيلها، وما تُحذر منه من مفاسد ومضار فردية أو جماعية يجب تَوَقِّيها واجتنابها والحذر من الوقوع فيها، كما يبرز الآثار الإيجابية للمصالح المطلوب جلبها، وكذا الآثار السلبية للمفاسد المطلوب دفعها.
من ذلك مثلا؛ ما أورده في تعليقه على حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ»؛ حيث أبرز أهمية العمر ونفاسته وغلاء أوقات الإنسان فيه، وضرورة استثماره في الطاعات والمنافع الدينية والدنيوية، وخطورة تضييعه في البطالة أو فيما لا ينفع ولا يفيد من الأعمال والتصرفات، وهذا مما يندرج ضمن مقصدي حفظ النفس وحفظ الدين، ومن ذلك ما أورده في شرحه لحديث النبي عليه الصلاة والسلام: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا” ثم شبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه [رواه البخاري عن أبي موسى]، حيث ركز الإمام ابن باديس على ضرورة الاتحاد والتضامن والتعاون والتكاتف، باعتبار ذلك مقصدا شرعيا تعمل الشريعة بأحكامها الكثيرة على تحقيقه في حياة المؤمنين، إذ لا قوة لهم ولا تماسك لصفهم ولا شأن لهم أمام أعدائهم إلا باتحادهم وتحابهم وتوادهم وتراحمهم. كما أكد على وجوب ترك واجتناب كل ما من شأنه أن يفرق صفهم أو يفسد مودتهم من مذاهب أو عصبيات أو انتماءات غير وصف الإيمان والإسلام.
ومن مقاصد الشريعة الضروية التي جاءت الأحكام الشرعية بحفظها ومنع ما يهدرها؛ مقصد حفظ العرض وحمايته من كل ما يمكن أن يشوبه أو يؤثر فيه بأي شكل من الأشكال، وقد أبرز الإمام رحمه الله أهمية هذا المقصد وخطورة إهداره عند شرحه لحديث: “على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي”
ومن مقاصد الإسلام كذلك؛ تحقيق الطهارة والنظافة في حياة الفرد المسلم والمجتمع المسلم، ولذلك أمر الشارع الحكيم بما يجلب النظافة ويحقق الطهارة والسلامة، ونهى عن كل ما يؤدي إلى تراكم الأوساخ وتأذي الناس منها. من ذلك ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “اتقوا اللعانين”، قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: “الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم” فهذا الحديث شرحه الإمام ابن باديس رحمه الله وبين من خلاله أهمية النظافة في حياة المجتمع، وأكد أن نشر بعض الناس للأوساخ هو في حقيقته ظلم وتعد على غيرهم يستحقون به أن يلعنهم المظلومون ويدعوا عليهم، ولذلك يجدر بكل مؤمن أن يعمل على تحقيق مصلحة النظافة الفردية والجماعية طلبا للأجر والثواب من جهة وتحقيقا لهذا المقصد الشرعي في الواقع العملي من جهة ثانية.
هذه نماذج مختصرة ومختارة من فقه الإمام عبد الحميد ابن باديس لمقاصد السنة النبوية الشريفة وتوظيفه لها في الإرشاد والتوجيه والإصلاح، وهي غيض من فيض مما قدمه الإمام رحمه الله، إذ في شروحه لأحاديث أخرى نماذج كثيرة ورائعة عن فقهه لمقاصد السنة، يجدر بالباحثين وطلبة العلم أن يتوجهوا إليها بالقراءة والدرس والتأمل لاستخراج ما انطوت عليه من كنوز باديسية رائدة، وتقديمها في قالب علمي لتكون إضافة إلى الرصيد المتراكم من الإسهام الجزائري في العلوم الإسلامية بصفة عامة، وليستفيد منها الباحثون في علم المقاصد بصفة خاصة.                                                                 
ع / خلفة

الرجوع إلى الأعلى