أكد مهندسون و مختصون في العمران و علوم الأرض و الجغرافيا، بجامعة قسنطينة، بأن بناء المدن في الجزائر يجب أن يتطور، تماشيا مع  التغيرات المناخية و الطبيعية الحاصلة، فالعشرين سنة الأخيرة،  حسبهم، شهدت تعدد الحوادث الكبرى الناجمة عن الكوارث الطبيعية، كالزلازل و الفيضانات و الحرائق،  وعليه فإن أي عملية تعمير مستقبلية، لا بد أن تتم  بناء على نتائج خارطة مخاطر، تقدم معلومات دقيقة و وافية عن طبيعة الأراضي المبنية ،و عن نوعية المخاطر المحتمل حدوثها في محيط التعمير عموما.
هذا النوع من الدراسات يسمح بالتدخل في كل الحالات، كما يسهل إيجاد حلول لبعض المشاكل الشائعة في المدن، كقسنطينة مثلا، على غرار مشكل الانزلاق  الذي قد يتم التحكم فيه تقنيا، بشكل يخفف من عمليات الترحيل الناجمة عنه، كما يمكن من إعادة استغلال الأوعية العقارية بطريقة أمثل.
  المختصون حذروا في ندوة النصر، من مغبة الاستمرار في تجاهل أهمية هذا الإجراء، خصوصا و أن القوانين و النصوص التشريعية المنظمة لنشاط التعمير في بلادنا، تدرجه بشكل صريح و واضح، على اعتبار أنه من بين الآليات التي تضمن صمود المدن و تسهل تكيفها مع المخاطر الكبرى و الكوارث الطبيعية.

صابر سدراتي خبير تقني بمركز هندسة مقاومة الزلازل
خارطة المخاطر ضرورية لتخفيف أضرار الزلازل
 أكد المهندس التقني بملحقة قسنطينة، للمركز الوطني للبحث المطبق في هندسة مقاومة الزلازل، بأن تخصص دراسة المخاطر حديث نوعا ما في بلادنا، فأول دراسة من هذا النوع أعدها خبراء أميركيون بعد زلزال الشلف، و لم يعتمد  بعدها هذا النمط الدراسي الجيوـ تقني مجددا، إلا بعد زلزال بومرداس سنة 2003، حيث اتضحت أهميته الكبيرة، لكونه من بين التخصصات التي تسمح بالتدخل عند وقوع الكوارث ، كما يساعد على مراقبة حركة الأرض و وضع خارطة زلازل محتملة، تعد بمثابة خطة تدخل قبلية و بعدية،  من شأنها أن تحدد طبيعة المخاطر المحتمل حصولها في بعض المناطق، ما يمكن من ضبط إجراءات وقائية مسبقة، كما أنها مهمة أيضا لتنظيم تدخل أعوان الحماية المدنية و المصالح الطبية، في حال حدوث أخطار، وبالتالي فإنها تسهل أي عمليات إجلاء ممكنة.
حسب المهندس، فإن هذه الدراسات يمكنها أن تمنحنا تصورات نهائية عن نوعية الأخطار التي قد نواجهها، بعد وقوع زلزال معين، على غرار الانزلاقات و الفيضانات التي قد تهدد استقرار المباني و تأتي على أجزاء هامة من المدن، موضحا بأن الدراسة تتم عادة، وفق معطيات جغرافية و جيوـ تقنية و جيولوجية و هيدروجيولوجية، كما تتابع بدقة نشاط التصدعات الأرضية المرتبطة بحركة الزلازل.
و عليه فإن اعتمادها في مخططات البناء الأولية ضروري جدا،  كونها قد تكون صك ضمان أمام الأخطار المستقبلية، و ذلك على اعتبار أن المعلومات التي تقدمها يمكن أن تساعد في تحديد نوعية البناء و ثقله، وكلها تفاصيل مهمة لضمان مقاومة المباني للزلازل و صمودها عند وقوع الكوارث، خصوصا في المناطق و المدن التي تعرف بمشكل الانزلاق و تحصي عددا من التصدعات الأرضية على غرار قسنطينة، أين نجد، حسبه،  تصدع عين سمارة الذي كان مسؤولا عن زلزال 1985، بالإضافة إلى تصدع سيقوس، و تصدع السمندو، بزيغود يوسف، و تصدع تاملوكة، القريب، الذي قد يشكل خطرا على المدينة في حال نشاطه.
هذا يعني، حسب رأيه، بأن خارطة المخاطر باتت حتمية مطلقة، خصوصا وأننا نتحدث في الجزائر عن بناء المدن الجديدة ، وهو ما يلزمنا بضبط تصورات مسبقة للمخاطر، اعتمادا على دراسات جيوـ تقنية عمرانية أولية. المتحدث أوضح من جهة ثانية، بأن هذا النوع من المخاطر، لا يقتصر على قسنطينة وحدها، بل ينسحب على معظم مدن الشرق التي يصنفها المركز الوطني للبحث المطبق في هندسة مقاومة الزلازل، في خانة مناطق الخطر.

البروفيسور محمد الطاهر بن عزوز أستاذ الجيولوجيا
التغيرات المناخية ضاعفت خطر البناءات الهشة
 يعتبر أستاذ الجيولوجيا البروفيسور  محمد الطاهر بن عزوز،  بأن مشكل البناء في مناطق الانزلاق و المناطق الهشة، و بمحاذاة الوديان، من بين  أخطاء التعمير الكبرى التي ميزت المدن الجزائرية منذ الاستقلال، و هو مشكل أرجعه إلى غياب الدراسات المتخصصة في مجال تحديد المخاطر خلال السنوات الأولى من عمر الجزائر المستقلة، ناهيك عن إغفال الاعتماد على الأبحاث المتوفرة حاليا في ذات المجال، مشيرا إلى أن هذا النوع من التوسع العمراني غير المدروس، أصبح أكثر خطرا على الأرواح من ذي قبل، وذلك بسبب حركة الأرض و التغيرات المناخية، بدليل أننا بتنا نسجل خسائر بشرية مضاعفة في كل حادث.
و أضاف البروفيسور بن عزوز، بأن السنوات القادمة ستحمل أخطارا كبرى، وذلك بناء على ما تم التحذير منه مسبقا، من عوامل طبيعية و مناخية، مع ذلك فإننا في الجزائر، لا نزال غير قادرين على مواجهتها و التعامل مع تبعاتها، لأننا مستمرون في البناء بشكل عشوائي  في مناطق سبق وأن بينت دراسات معينة أو تحاليل متخصصة، بأنها تواجه خطر الانزلاق، وهو تحديدا ما يضعنا اليوم أمام معضلة التخلي عن أحياء كاملة، و عدم استغلالها سكنيا، بعد الانتهاء من تشييدها، على غرار ما حصل في عمارات « كناب  بحي بو الصوف بقسنطينة».
علما بأن المشكل لا يتعلق بنشاط الأفراد فحسب، كما ذكر المتحدث، بل يشمل السلطات التي توجهت نحو تعمير الجهة الشرقية من المدينة، باتجاه علي منجلي، من أجل ترحيل ساكني مناطق الانزلاق و البنايات الهشة، رغم العلم المسبق بوجود مشاكل دقيقة، تتعلق بطبيعة الأرضية في هذه الجهة من الولاية.
بالمقابل، قال المتحدث، بأن كل المؤشرات تثبت بأن محيط المدينة القديمة، يعد أكثر صلابة و صمودا و مقاومة للزلازل و الانزلاقات من المدينة الجديدة، فعمليات التخريب التي تمت في السويقة مثلا ، كانت بفعل الإنسان و ليس الطبيعة، لأن هذه المنطقة ظلت صامدة ، رغم كل الزلازل التي ضربت المدينة على مر العصور، و بالتالي فإنه من الممكن جدا أن يعاد استغلال هذا الفضاء عمرانيا، لكن وفق شروط تقنية معنية.
البروفيسور  بن عزوز، أوضح بأن مستقبل العمران في الجزائر، يجب أن  يعزز بشرط دراسة الأرضية، خصوصا و أن الأبحاث متوفرة في الجامعات، كما أن الجانب القانوني و التشريعي معروف، و لا بد من احترامه و التخلي عن سياسة البناء العشوائي، بحجة ربح الوقت أو تقليص التكاليف.

معايش رئيس قسم التعمير بكلية الهندسة بقسنطينة
نجاح مشاريع المدن الجديدة مرهون بالبحث العلمي
يرى رئيس قسم العمران بكلية الهندسة بقسنطينة، الأستاذ إبراهيم معايش، بأنه لا يمكننا الحديث عن نجاح مشاريع المدن الجديدة في الجزائر،  و ضمان تعمير نماذج عصرية تتوفر على شرطي الصمود و الاستدامة، بالإضافة إلى القدرة على التكيف مع التغيرات الطبيعية و المناخية، دون أن نعتمد في عملية إنشائها، على معطيات البحث العلمي بكل ما توفره من دقة و من تفاصيل، يمكنها أن تقف كجدار صد أمام الأخطار المحتملة و الكوارث غير المنتظرة.
 و قال المهندس، بأن اليابان استطاع أن يطور منظومة بناء ذكية لمساعدة المدن على التكيف مع خطر الزلازل المتكررة، لأنه وظف البحوث العلمية ميدانيا. لحسن حظ الجزائر فإن الجامعة وتحديدا كلية الهندسة العمرانية و التعمير بقسنطينة، تتوفر على مادة بحثية هامة ، هي نتاج عدد لا يحصى من رسائل الدكتوراه و الماجستير ، و ثمرة بحوث فردية قام و يقوم بها أساتذة و مهندسون أكفاء، يكفي أن نمنحهم فرصة العمل  و متابعة المشاريع بشكل صحيح، دون تدخلات، ليحققوا نتائج جد مرضية، مشيرا إلى أنه يستحيل أن نحقق أي تقدم في عملية بناء المدن الجديدة، ونتمكن فعلا من التخلص من مشاكل المدن القديمة، دون توفر إرادة سياسية حقيقية، لتفعيل منتجات البحث العلمي في الجامعة.
و أضاف المتحدث، بأن أي نشاط تعمير جديد لابد وأن يتم وفق دراسات مسبقة، تأخذ بعين الاعتبار  كل العوامل والأخطار المحتملة، كما تحدد مفهوم الاستدامة و تبين بوضوح شروط تحقيقها، لأن ذلك من شأنه أن يحدد نوعية البناء الأنسب لكل منطقة، بالعودة إلى طبيعتها الجغرافية و خصائصها المناخية كذلك.

إبراهيم أسماء فوغالي طالبة دكتوراه في التعمير
دراسة المخاطر تسهل التدخل تقنيا في مناطق الانزلاق
 أكدت طالبة الدكتوراه في مجال التعمير أسماء فوغالي ، أن هناك تقنيات تعمير حديثة، من شأنها أن تسمح باستغلال المناطق المصنفة في خانة الخطر عمرانيا، بما في ذلك مناطق الانزلاق التي سبق و أن تم ترحيل سكانها، مشيرة إلى أن هذا الموضوع، يعد لبنة بحثها الجامعي حاليا، حيث تعتبر، بأن الأوعية أو المساحات المصنفة كمناطق هشة، أو مناطق انزلاق، ليست بالضرورة فضاءات غير قابلة للبناء، بل يمكن جدا تعميرها، بالاعتماد على تقنيات معينة، تحدد عادة، بعد إجراء خبرة تقنية تشمل إعداد دراسة مخاطر المنطقة، فالسؤال الأصح، كما قالت، يجب عدم طرحه فقط حول التقنيات التي يمكننا استخدامها كحلول، بل يجب أن يدور حول الأسباب الحقيقية وراء مشكل الأرضية محل الجدل، بمعنى أنه يتعين علينا أن نفهم العلة لنقترح الحل.
 و ترى المتحدثة، بأن المشكل لا يكمن في التوجه نحو البناء في مناطق منزلقة، بل في عدم إجراء دراسات أولية تحدد طبيعة المخاطر في هذه المناطق و نوعيتها و مستواها، و تسمح بتحديد الطريقة الصحيحة للبناء و اختيار نوع العمارة المناسبة، إذ يمكن، حسبها، أن نستغني أحيانا عن المباني الضخمة القائمة على الإسمنت المسلح، المكونة من عدة طوابق، و نتوجه نحو البناء الخفيف «مرآب و طابق أرضي «، باستخدام مواد نبيلة أو صديقة للبيئة ،و غير ذلك،  خصوصا وأن هذا الحل يعتبر البديل الأنسب في مدينة، كقسنطينة، التي تعاني من شح العقار و كثرة الانزلاقات، ناهيك عن التوزيع غير المدروس للأراضي المخصصة للبناءات السكنية.
 هدى طابي

الرجوع إلى الأعلى