تعرف تشريعيات 12 جوان القادم، حضورا لافتا لأساتذة جامعيين، ترشح أغلبهم ضمن قوائم حرة أقرها القانون العضوي للانتخابات، الذي فتح أمامهم باب المشاركة السياسية، بعد سنوات من القطيعة سببها عزوف طوعي من قبلهم و تغييب متعمد أرجعه متدخلون، إلى طبيعة المناخ السياسي الذي كان سائدا، ناهيك عن ممارسات مشبوهة كرستها أحزاب سياسية طيلة سنوات فرضت خلالها منطق المال على غالبية المواعيد الانتخابية.
متغيرات مهدت لتجديد الطبقة السياسية
خلافا للمعهود، فإن هذا الموعد تميز بانخراط كبير للطبقة الجامعية، التي لطالما ظلت بعيدة عن الساحة السياسية، بناء على معطيات كثيرة أبرزها الخوف من الوقوع في فخ تسييس الجامعة و الميل نحو الانعزال داخل المحيط الأكاديمي، إضافة إلى هيمنة التشكيلات الحزبية على الخارطة السياسية في البلاد، وتكريسها لمبدأ المال مقابل المقاعد و الأصوات، وعليه فإن الانفتاح الكبير للجامعين على التجربة الانتخابية هذه المرّة، يمكن أن يصنف كظاهرة سياسية غير مسبوقة، لها خلفيات يعتبرها البعض ضمانات مسبقة مهد لها حراك 22 فيفري ووثقها دستور 2020، وبعدها القانون العضوي للانتخابات و تنصيب السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات.
و الملاحظ أن هناك اعتمادا كبيرا على الأكاديميين في تشكيلات قوائم الترشح الحرة و الخاصة بالكتل السياسية، و يبدو جليا بأن الزج بهؤلاء في اللعبة السياسية ليس فقط وليد معطيات جديدة جاء بها القانون العضوي للانتخابات الذي أقر حق الثلث المتعلم في الترشح، بل أن توظيف صورة الجامعيين لتحقيق القبول الاجتماعي، يعد أيضا عاملا رئيسيا في تكريس مشاركتهم، إذ تضم معظم القوائم الانتخابية بقسنطينة، على سبيل الحصر       من اثنين إلى ثلاثة أساتذة جامعيين، كان غالبيتهم قد أعلنوا عن ترشحهم للتشريعيات المقبلة، عبر موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، أين تتسارع وتيرة الحملة يوميا و يحتدم التنافس أكثر، بهدف كسب أكبر عدد من المتابعين للصفحات الخاصة التي أنشئت خصيصا للترويج للمترشحين.
وكانت الحملة الانتخابية قد انطلقت على صفحات الكثير من الأكاديميين المترشحين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حتى قبل الإعلان عن تاريخها الرسمي، حيث مهدوا للأمر بشكل غير مباشر، من خلال العودة للنشاط بقوة على فيسبوك وبمعدل يومي، ناهيك عن تكثيف التفاعل مع المنشورات والمواضيع ذات الصلة بالانتخابات و الوضع العام في البلاد، وهو سلوك لم يكن يعرف عن الكثيرين، كما زاد التركيز على نشر الصور الشخصية و الإشارة إلى السير الذاتية والتذكير ببعض المواقف و النشاطات المحمودة، فضلا عن تكثيف عرض وقبول طلبات الصداقة لتوسيع دائرة المعارف و كسب قاعدة جماهيرية.
نهاية مرحلة العزوف الطوعي والطموحات المؤجلة
وبهذا الخصوص تقول أستاذة الهندسة المعمارية بجامعة قسنطينة3، المترشحة أسماء رامول، بأن الطبقة الجامعية لطالما تحلت بالطموح السياسي، غير أن الظروف التي كانت تطغى على واقع الممارسة في وقت سابق، هي ما دفعت بالغالبية إلى فرض نوع من العزلة الذاتية والانسحاب الطوعي، لكن الأحداث والتحولات التي عرفتها الجزائر، في ظل السنتين الأخيرتين و بروز بوادر التغيير الحقيقي، صنعت الفرق.
المترشحة قالت، بأن المشهد السياسي أصبح أكثر وضوحا و أبسط قراءة وهو تحديدا ما شجعها على خوض السباق نحو البرلمان على غرار العديد من الجامعيين الذين استعادوا الثقة في قدرتهم على المساهمة، كما ترى بأنهم قادرون على صناعة الفرق و التأثير فعليا في المنظومة التشريعية بفضل الخبرة العلمية و التخصص الذي يعزز الاستشراف والتحليل والاقتراح، خاصة وأن الوسط الجامعي يعد صورة مصغرة عن المجتمع ككل،و بالتالي فإن المترشح للانتخابات سيمثل مجتمعه وسينقل انشغالاته بناء على احتكاك مباشر و واقعي مع فئاته، مضيفة، بأن التمثيل الأكاديمي في القوائم الانتخابية سيكون له تأثير جد إيجابي على العملية ككل، بالنظر إلى مكانة الجامعيين في المجتمع و قدرتهم على استقطاب المواطنين إلى الصناديق يوم 12 جوان،  وبالتالي استرجاع الثقة في فعل الاقتراع، كما أن وجود المرأة الجامعية في الانتخابات المقبلة سيشجع النساء على الخروج للإدلاء بأصواتهن و سيقدم صورة أمثل عن السيدة الجزائرية المتعلمة و الجامعية، وهو تأثير يمتد حسبها ليشمل كذلك فئة الطلبة والطالبات واعتبرت، بأن تشكل كتلة أكاديمية داخل البرلمان القادم سيسمح بتوحيد الرؤى و الكينونة كعنصر اقتراح و تأثير هام وهذا الاتحاد سيخلق حسبها، قوة من شأنها دفع عجلة التغيير وإن كان ذلك على المدى المتوسط أو البعيد نوعا ما.
تراجع الغطاء الحزبي كسر احتكار القوائم الانتخابية
و تشير قراءات أخرى قدمها أساتذة مترشحون، عن ولايات قسنطينة و باتنة، بأن الاقتراع المنتظر يوم 12 جوان القادم، سيحمل الجديد نظرا إلى نوعية القوائم المقترحة و اندماج النخب بشكل أكبر فيها، وذلك بفعل تراجع سطوة الأحزاب السياسية التي كانت تمارس التهميش المتعمد للمثقفين والجامعين لسنوات، كما أن تحيين القوانين و إقرار الانتخاب عن طريق القائمة الاسمية قدم دافعا قويا للنخبة، من أجل المشاركة أكثر في الاستحقاقات القادمة بعيدا عن قيود الأحزاب و حساباتها الضيقة، وهو ما يذهب إليه الدكتور حميد بوشوشة أستاذ محاضر بكلية الإعلام والاتصال بقسنطينة3، و مدير مخبر بحث، مضيفا بأن النخبة التي لطالما كانت مقصية من المشاركة في القرار السياسي، تجد نفسها اليوم أمام فرصة للمساهمة بشكل أكبر في صنع القرار،  وذلك على غرار ما هو سائد في كل دول العالم، مشيرا إلى أن الجامعيين و الأكاديميين عموما، مطالبون بالانخراط فعليا وبشكل بناء، في تحرير المؤسسة التشريعية من الصورة النمطية التي ارتبطت بها طيلة السنوات الماضية و وضعتها في موقف الملام، بفعل ضعف مستوى ممثلي الشعب و بعض ممارساتهم غير المقبولة، خصوصا ما تعلق بمناقشة القوانين، لذلك فإن الإضافة التي سيقدمها ترشح وانتخاب الأساتذة و الباحثين الجامعيين، ستكون نتاجا لنظرة استشرافية و تحليلية للأمور، ناهيك عن امتلاك هؤلاء للعلم و للخبرة، وهو تماما ما يتطلبه التشريع في البرلمان وفي كل المجالات، لذا فإن تدعيم البرلمان القادم بكفاءات عملية وبحثية حقيقية، سيحسن من أدائه ويسمح بتجاوز الممارسات والأخطاء السابقة.
بوشوشة قال، بأن فكرة ترشح الأساتذة الجامعيين، خلفت نوعا من الاستحسان في أوساط المواطنين، كما عززت الحديث عن ضرورة فتح الفرص أمام وجوه جديدة قد تكون أقدر على صنع الفارق، وحتى وإن كانت بعض الانطباعات القديمة المرتبطة بالممارسة السياسية السلبية في بلادنا لا تزال تلقي بظلالها على علاقة الثقة بين المترشح و المنتخبين كما عبر، إلا أن هناك شبه إجماع على  أننا بصدد خوض تجربة جديدة في الجزائر.
قانون الانتخابات قدم ضمانات شجعت الإقبال على الترشح
من جهة ثانية، يعتبر متابعون، بأن القانون العضوي للانتخابات لعب دورا في انخراط الجامعيين في العملية السياسية، بفعل الضمانات  الجديدة التي قدمتها والتي توفر شروطا قانونية تلغي ثقافة المحاصصة و ترؤس القوائم وغيرها من الممارسات السابقة، كما أن تفعيل دور السلطة المستقلة للانتخابات له تأثير مهم جدا في تحييد الإدارة، وهو الضمان الأهم كما يرى الأستاذ بكلية العلوم السياسية بجامعة الجزائر3، الدكتور رضوان بوهيدل، مشيرا إلى أن المعطيات السياسية الجديدة التي تعرفها الساحة الوطنية دفعت بالكثيرين إلى اختيار آلية الاقتراع لأجل  التغيير الذي ينادي به الجميع، كونه هدفا يرتبط  بإلزامية الوصول للسلطة من أجل المشاركة في اتخاذ القرارات و إصدار القوانين و مراقبة عمل الحكومة، ولعل ذلك هو ما دفع  النخب الجامعية إلى تطليق عزوفها الاختياري عن ممارسة السياسة بعدما توفرت الظروف المشجعة والمناسبة لخوض هذا المجال.
المترشح الحر عن ولاية باتنة قال، بأن حصة الثلث التي خصصها قانون الانتخابات  للمثقفين والجامعيين، سوف تعكس صورة مغايرة عن هذا الاستحقاق الذي ارتبط لسنوات برجال الأعمال والمال الفاسد و شراء المناصب، فالقانون الجديد يعتبر في حد ذاته ضمانة حقيقية لتغيير صورة البرلمان، و لذلك فإن التعامل  مع هذا الموعد يجب أن يكون مختلفا عن ما عهده المواطن بداية بالتخلي عن لغة الخشب، و الوعود الكاذبة، لأن مهمة البرلماني حسبه، ليست إنشاء المشاريع التنموية، بل تشريع القوانين و مراقبة عمل الحكومة.
وضوح المشهد السياسي أعاد الثقة للنخبة الجامعية
خلفيات سياسية واجتماعية أخرى كثيرة، مهدت مجتمعة لاندماج الجامعيين في العملية الانتخابية و تخليهم عن العزوف الذي ساد سابقا، فالتحول الذي  يعرفه المجتمع الجزائري منذ حراك22 فيفري، و المعطيات السياسية والقانونية التي رافقت محطات هامة تلته مباشرة، على غرار الانتخابات الرئاسية وكذا التعديلات التي رافقت دستور 2020، فتحت المجال أمام تجديد الطبقة السياسية، وحسب الأستاذ في القانون الدستوري، بكلية الحقوق بجامعة قسنطينة1، عصام حوادق، فإن لتنصيب السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، دور كبير في تشجيع الكفاءات الجامعية على دخول المعترك السياسي، لأن فرض هذه السلطة حيد الإدارة.
أضف إلى ذلك، فإن ما أتى به القانون العضوي 21ـ01 المتضمن قانون الانتخابات، من شروط  تقع تحت طائلة بطلان القائمة كشرط للتمثيل النخبوي عن طريق فرض الثلث المتعلم أو المثقف على القوائم، لعب دورا هاما في هجرة الجامعيين نحو المجال السياسي، بعدما لمسوا حسب المترشح، الأمل بالتغيير و باتت لديهم ضمانات لتراجع سيطرة الأحزاب و رجال الأعمال على المشهد.
 ويشير البروفيسور في القانون والمحامي، إلى أن التوجه العام للمجتمع الجزائري، له تأثير مباشر على تزايد الإقبال النخبوي وبالأخص الجامعي على المشاركة السياسية، قصد تشكيل طبقة نوعية تخرج بالتمثيل السياسي عن الإطار السابق و تضع قرار التشريع في يد كفاءات علمية و بحثية ذات صلة بالمجال، خصوصا وأن الطبقة الجامعية المثقفة تحظى بالقبول الاجتماعي فالعملية السياسية التي تقودها وتمثلها فئة ذوي الرتب العلمية، ستكون إيجابية كما قال، ما سينعكس على عملية الاقتراع ككل و يشجع الإقبال على الصندوق، كما سيساعد على نبذ خطاب الكراهية و ينهي بعض الممارسات القديمة مثل، فوضى الملصقات و ضعف الرقابة على الصناديق وغيرها، أضف إلى ذلك، فإن اندماج الجامعيين في العملية السياسية سيخلق علاقة طردية، بين المجتمع الجامعي بمختلف فئاته و بين مؤسسات الدولة خصوصا وأن القوائم المفتوحة وطريقة الانتخاب أصبحتا أكثر وضوحا وشفافية و القانون العضوي للاقتراع كرس دور الأشخاص على حساب الأحزاب والبرامج، فالبرلمان يعد بمثابة حكومة موسعة تضم لجانا مختلفة يجب أن توكل مهامها حسبه، إلى  أهل الاختصاص، لأن تمثيل النخبة للشعب سيؤثر بشكل مباشر على عمل هذه المؤسسة التشريعية التي تترجم إرادة المواطن على شكل قوانين.
هدى طابي

الرجوع إلى الأعلى