* جمـــال فوغـــالي  

راكضًا كانَ معَ النارِ
 الجريحه
كان يمضي بين بحرين
 ينادي في القفارْ
 «اغرسي من موتيَ العابرِ
آلافَ الحقولْ»
 كان يجري تائهًا دون إسارْ
سنةً يحيا
وأعوامًا
فتغطّيه الجبالْ
بسعوف النخل
بالماء المطيرْ
•الشاعرُ عبد الله بوخالفة،إنسانٌ كبير•

لن يكونَ هناكَ متحفٌ لا لهؤلاءِ الذين ذكرتهمْ ولا لغيرهمْ،يا الصديق«لمين الزاوي»،ممنْ يكتبون بالعربية أو بالفرنسية أو بغيرهما منْ سلالاتِ اللغاتِ المهجَّنةِ أو المحورة،على ما ماهي عليهِ سلالات الكوفيد،وقد ابتلينا به،ولنْ يكونَ لنا أيضاً وأيضاً بعدَ عمرٍ طريلٍ أوْ قصير،سيّان،وقدْ خبرنا ذلك وعشناه،وهذي الأعوامُ تجري إلى مستقرٍّ لها،ولا علمَ لنا بميعادِ يومنا الآتي،ذلكَ تقديرُ العزيز الحكيم،وهذي الأحقادُ تتعالى زبرَ حديدٍ بين الأحياءِ من الكتاب،وينفخُ بعضهمْ فيها ضدَّ البعضِ الآخر،وأتساءلُ منِ الأحياءُ منَّا ومنِ الأمواتُ في هذا الزمنِ البئيس الزَّاحف زحفهُ نحو الهاوية؟
ونزعمُ  بهتاناً وكِبْراً كبَّاراً أنَّنا نكتبُ المحبةَ والجمالَ والبهاءَ الذي نريدهُ أنْ يينعَ في الحياة،وتكذبنا الحياةُ التي نعتقدُ أنَّنا نحياها،والأدلةٌ هاهنا فاضحةٌ وكاشفة،ونختفي خلفَ أوهامنا،فنكون أكثر سخريةً منَ النعامةِ في الصحراءِ البلقع،والرملُ يغطي منقارها والعينين والعنقَ الطويل،وما تبقَّى للريح الدَّبور...
وأينَ الكاتبُ الرَّائيُّ،وقدْ رموه بأقذعِ الصفات«صالح زايد»الذي استشرفَ ما نحنُ فيهِ منْ هوانٍ منذُ عقود،وهذا أرشيفُ جريدة«النصر»الشاهدُ والأمَارة،ولمَّا لمْ يجدْ لما يكتبُ صدًى أو تأثيراً،وكانوا لا يفقهون قولاً مما يكتبُ ولا يصدِّقون،رمى بصدقهِ العارفِ في مهاوي الفجيعةِ منْ وادي الرمال،فأزهرَ دمُهُ منَ الحجارةِ نوَّاراً ورياحين وماءً عذباً نميراً؟
وأينَ الكاتبُ القاصُّ الروائيُ«مصطفى نطُّور»وقدِ امتطى»أحلامَهُ»،و«الجيادُ المفجوعةُ»تسابقُ«فيضَ الرحلة»،ولا يريدُ مصطفى منْ كلِّ ذلكَ غير«وجهها»و«الغواية»،أهي أنثاهُ التي تعانقُ حناياه؟أم اللغةُ الفاتنةُ التي تحتوي نبضَه؟أم الجزائرُ التي أحبها وجرى في دمِهِ دمُ أبيه الشهيد،وتركهُ ليتمِهِ الفاجع،ولمْ تحتضنهُ أمهُ المجاهدة إلاَّ بعد استعادة الاستقلال،وغادرَ إلى الكتابةِ منْ«ومضة «الإثنيْن»وحيداً حزيناً لا يبتغي غيرَ حقِّهِ منَ الوطنِ منذُ«عام الحبل»الذي تركهُ في أعناقنا جميعاً،وهذا اسمُهُ في الحضورِ يطلُّ منْ«باب القنطرة»على وادي الرمال منَ المكتبةِ الرئيسةِ للمطالعةِ العموميةِ بسيرتا العليَّة..؟
وأين الكاتبُ«محمد بوشحيط»الذي توفيَ وغادرَ إلى الملكوتِ الأعلى يائساً،بائساً،متآكلَ الصَّدرِ وليسَ معهُ ما يفي باحتياجاتِ أسرتهِ،وقدْ تمَّ،وقتها،حلُّ مكتباتِ المؤسسةِ الوطنيةِ للكتابِ عبرَ الولايات،وكانَ الكتابُ بها ممجَّداً،ووجد نفسهُ في«لحظة وعي»منَ«الكتابة»وممَّا قدمهُ للجزائر يذهبُ هباءً منثوراً،وقدْ كان ثوريًّا مسفاراً ما بين بيروتَ والعراقَ وإسبانيا وفرنسا،ويعود ابناً ضالاَّ إلى وطنهِ محبًّا لهُ وعاشقاً،ليكونَ هذا آخر ما يهديه له،فتوقفَ قلبهُ المناضلُ واستكانَ إلى حزنهِ والألم..؟
وأين الشاعرُ«فاروق اسميرة»الذي غنَّى الحياةَ ثم انتهى إلى كتابةِ قصيدتهِ الأخيرة،يريدُ طهارة روحهِ ممَّا اعتراها منَ زيفِ الزَّائفين،وقدْ ألقى بنفسهِ إلى شلالاتِ وادي الرمالِ متطهراً بمائها فتلونَ بدمهِ البريء،وكانتِ الشلاّّلاتُ شاهدةً وما تزال..؟
وأين الشاعرُ التروبادور«عبد الله بوخالفة»وقد عانقَ صدرهُ القطار،وقدْ أطلقَ السائقُ الصَّفاراتِ المزمجرة،ولمْ يرعوِ ولمْ يخفْ،ولمْ يكنْ جباناً،وظلَّ كالنخلةِ المديدةِ قائماً في قيامته،فتعالى شعرهُ/دمُهُ متناثراً في الأقاصي البعيدة،ولا صوتَ يعلو فوق صوتِ الشِّعرِ في نشازِ المرحلة،قال،ثمَّ مضى يبحثُ عما تبقَّى منَ وهجِ القصيدة تحتَ ظلالِ الفلسفة التي ترومُ الحقيقة ولمْ يجدها..؟
وأينَ الأستاذُ الناقدُ«شريبط أحمد شريبط»من الجامعة التي كانَ أكبرَ منها،وكان يدرِّسُ و يرقدُ لثلاثِ مراتٍ في الأسبوعِ بالمصحَّةِ تحتَ الآلةِ الصديقةِ لتصفيةِ الكلى،كيْ يظلَّ مقيماً في الكبرياء،وأعرفُ منْ كان يتمنَّى لهُ الموت،وأحمدُ حيٌّ في الحياةِ منْ كتبِهِ في الحياة،ومنْ تمنى لهُ الموتَ بقيَ في الموات،وأوصى أحمدُ العربيُّ بمكتبتهِ العامرةِ للمكتبةِ الوطنيةِ الجزائرية،ونفَّذتْ زوجُهُ المصونُ الوصية،وماتزالُ روحهُ تنتظرُ الاحتفاليةَ بتسميةِ فضاءٍ باسمهِ فيها،والكتبُ هناكَ وتمَّ إحصاؤها وأنا الشاهدُ عليها والتاريخُ وأشجارُ حديقةِ الحامةِ والبحرُ ومقامُ الشهيدِ في أعاليهِ ومغارة«سرڤانتس»والذينَ أحصوا الكتبَ والمجلاَّتِ عدًّا وإحصاءً..؟
وأين الكاتبُ الشاعرُ«عمر بوشموخة»الذي غادرَ إلى أحبائهِ في الحياةِ من جبران خليل جبران إلى عباس محمود العقاد،فإلى أمِّ كلثوم ورياض السنباطي،وترك العودَ وحده،وأعرفهُ وهو يعانقُهُ وأنا ببيته،فقدْ كانَ جاري بيتَ بيت،ولم يقوَ قلبهُ الشاعرُ على الحياة التي يحبها،ولمْ أكنْ أعلم،وكنا نتقاسمُ بعضَ مباهجها والأفراح ؟
وأينَ الشاعرُ«حسين زبرطعي»الذي لمْ يسْطِعْ الانتصارَ على الآلةِ الصديقةِ نفسها لتصفيةِ الكلى،وزرتُهُ بالمستشفى قبلَ رحيلِهِ إلى الملإ الأعلى،ليبصرَ«ضوءه»،وظلَّ شعرهُ الأبقى منتصراً على«مخاوفه»ليقولَ الحياةَ وقد غادرها مقيماً في شعرهِ في الأبدية..؟
وأينَ القاصة«زليخا السعودي»التي أسست للسرد،وانسابَ قصَصاً سلساً على صفحاتِ ما كان يصدرهُ الروائيُّ الكبيرُ«الطاهر وطار»،وكان لها ملتقى باسمها في خنشلة،وقدْ حضرتُ طبعتهُ الأولى،ولولا«شريبط أحمد شريبط»ما كان لنا أنْ نتعرف على أعمالها الكاملة،فقد جمعَ وبوَّبَ وصدَّر وقدَّمَ،والمرضُ ينهشُ جسدهُ وقلبهُ والصَّدر،حتى استوى كلُّ ذلكَ على سوْقهِ وأتى أكلَهُ في طبعاتٍ مختلفة..؟
وأين الأستاذُ الناقدُ الحداثيُّ«حسين خمري» الذي كرَّسَ حياتهُ للنقدِ والجامعة،وهذا الكوفيدُ يغيبهُ دون سابق إنذار،وترك خلفهُ السيمياء،وقدْ عاد فرحا بها ومستبشراً بفتوحاتها،التي نظَّرَ لها وطبَّق،وتنابزهُ منْ كان يجهلُها بالألقاب،والألى الذين اعترضوا سبيلَهُ كانوا لا يفقهونها؟
وأين الشاعرُ الناقد«بختي بن عودة»منْ كل ذلك،وقدْ كانَ ممتلئاً بفيضِ المعرفة،وكانَ يدعو للحداثة،ويصادقها ويدافعُ عنها،وقدْ اغتالوهُ في وضحِ النهار،والناسُ شاخصون،وقد ترك «اسمهان»ابنتهُ وحدها،وهذا زوجها يحميها من وحدتها وممنْ تاجرَ باسمِ والدها..؟
وأين الروائيُّ«رشيد ميموني»وقدْ جرفَهُ«النهر المحول»،وظلَّ مقيماً في دارِ الثقافةِ ببومرداس مطلاًّ على البحرِ الذي يستريحُ إلى موجهِ والزرقةِ في رقدتهِ الأخيرة،ليسمعَ صخبَ الموجِ وكيْ يزورهُ«طمبيزا»،وأعرفهُ في السردِ لغةً وفي الحياةِ دماً ولحماً،وقد التقينا ذات عام،وعانقتُهُ عند قبرهِ ببودواو..؟
وأينَ القاصُّ«شريف شناتلية»الذي ظلَّ يطاردُ«النَّاموسة»،ولمْ يكنْ يدري أنها تتكاثر وتتناسل كالجرادِ المرَّاد،وهذا اسمهُ في النسيانِ منْ«أمِّ البواقي»،وهو الأبقى في الكتابةِ التي أحبَّها وفي الذاكرةِ منَّا ومنها..؟
وأينَ«أشقرُ الشعراء»«مالك بوذيبة»،الذي رحلَ إلى رحيلهِ قبلَ الرحيل،يافعاً عاشقاً،وكأنما كانَ يكتبُ وداعهُ الأخير،في شعره الفاجعِ الذي قالَ فيهِ وجيعتَهُ التي في القلبِ وفي النبضِ وفي القصيدة،وهلْ ودَّعناه؟ولا أذكرُ إلاَّ أنهُ ها هنا في الحياةِ ونحنُ الأموات؟
وأينَ القاصُّ«يوسف شاوش» الذي اعترضَ الحاقدون طريقهُ لمنصبِ عمل،فلمْ يجدهُ بين أحبَّائه،وثَقِفَهُ عندَ صهدِ رمال الصحراءِ بعيداً في الأقاصي،ولكنَّ قلبهُ الرهيفَ خذلهُ،ولولا مديرية الثقافةِ لسكيكدة والشاعر«علي بوزوالغ»ما كان لمجموعتهِ القصصية«الضيق»أن ترى النورَ الذي في قلبهِ وتبقيهِ حيًّا في الحياة وقد اتسعتْ لاسمهِ النبيّ..؟
وأينَ الشاعرُ«احسن خراط»الذي غادرنا إلى«بصر التراب»،كيْ يحتويهِ إليه،ولمْ يكونوا يرونهُ فوق التراب،وظلَّ يتيماً،وقد غادرَ والدهُ شهيداً مخضباً بدمه،متطهِّراً بعطره،ليلحق بهِ إلى«حدائق الماء» المعلقةِ في القصائد،ولمْ يجدها هنا على هذه الأرضِ التي لمْ تعدْ تستحقُّ الحياة،كي يشكوَ لهُ ما فعلَ«الأصدقاء»،وقدْ أخذَ في«شطح الدراويش»فاصاعدَ بهيًّا،أبيضَ القلبِ إلى فرحِ الملكوت العظيم،وقدْ ودَّعَ«نبضَ الفجيعة» واستوتْ روحهُ عندَ«مقام الياسمين»في اليقينِ منَ الشعر ِفي عليين منَ الحنين...؟
وهؤلاء،وللتاريخ،قدْ عمَّروا المشهدَ الثقافي وأترعوهُ لعقودٍ متتالية،وأعرفُ منهم الكثير،وغيرهمْ في الوطنِ الكبيرِ وقد ضاقَ بهمْ على اتساعه،وكانوا أصدقاءَ وإخوة،وآخرون قرأتُ لهم وما أزال،ولنْ يكذبني أحد،وهذا«كتاب الأحبة» الشاهدُ والدليل،وغيرهمْ ممن نسيتهمْ،وهم كُثُرٌ،وما أنسانيهم غيرُ أنانياتنا وأنواتنا المتضخمة،فأنسانا الوهمُ منْ أنفسنا أن نذكرهمْ،ولن يغفروا لنا يوم نلقاهمْ،وكلٌّ منا متربصٌ بغيره،مغرقٌ في تمجيدِ نفسهِ على علاَّتها والصَّغار،وسيحدثُ لنا أكثر مما حدثَ لهُمْ،وهذي الكتابةُ التي لا تنسى أبداً ولنْ تسلوَهمْ قطُّ ولنْ تغفرَ لنا ما ارتكبناهُ في حقهمْ...
ولنْ يكونَ هناكَ متحفٌ يذكِّرُ بصنيع هؤلاء وغيرهمْ،ولنْ يكونَ لنا أبداً،وإنْ نوَّر الملحُ الأجاجُ في البيد،وسنلتقي عراةً حفاةً إلاَّ منْ صدقنا،إنْ كان، نحملُ أوزارنا،وهي ثقيلة،هذا ما كسبتْ أيدينا،وتشهدُ علينا،وسنكونُ أمامَ الديَّانِ الأعظم،وسيطالبونهُ بالقَصاص جزاءً وفاقاً،وذلكَ حقهمْ منَ القسمةِ التي لنْ تكونَ،وقتئذ، ضِيزَى...
2021/09/22•
————————

•ما بين قوسين هي بعضُ عناوينِ الأعمالِ الشعرية ِوالقصصيةِ والروائيةِ لهؤلاءِ المبدعين الأحياء في الكتابةِ وفي قلوبنا إلى يومِ الدِّين...


    

 

الرجوع إلى الأعلى