سجلت مرحلة الثورة التحريرية ما بين 1954 و1962 في الجزائر عدة أشكال من المقاومة للاستعمار الفرنسي، حيث انعكست في جوانب مختلفة من الحياة، من بينها أسماء المواليد التي أصبحت تتجه في الفترة المذكورة إلى اختيار ألقاب للأطفال تحمل دلالات معبرة عن الثورة والانتصار والاستقلال والقيم الوطنية، فضلا عن استعادتها للتاريخ الوطني والإسلامي، في حين يمثل استمرار التسميات التقليدية تشبثا بالهوية والملامح الفارقة للأمة الوطنية في مواجهة الاستعمار الذي فشل في تفكيكها ومحوها طيلة 132 سنة.
استطلاع: سامي حباطي
وانطلقنا في رحلة الاطلاع على التحولات الطارئة على تسميات المواليد الجدد خلال فترة الثورة التحريرية مسترشدين بدراسة للباحثتين، طالبة الدكتوراه في المدرسة العليا للأساتذة في بوزريعة، دليلة كعباش، والبروفيسور وردية يرمش، بعنوان «تصنيف الأسماء الثورية الجزائرية من 1954 إلى 1962»، حيث نشرت في جوان من العام الماضي في الدورية المسماة «اللغات المتعددة» Multilinguales التي تصدرها جامعة عبد الرحمن ميرة في بجاية. واعتمدت الباحثتان في الدراسة على سجلات الحالة المدنية للمواليد في بلدية عين ولمان بسطيف خلال فترة الثورة التحريرية.
وقسمت الباحثتان الأسماء الثورية إلى ستة أصناف، حيث تتمثل في أسماء دينية تحمل دلالة الإصرار الثوري مثل سيف الدين وعز الدين وناصر الدين، وأسماء ذات طابع ديني يعبر عن واجب الدفاع عن الإسلام والوطن مثل مجاهد وشهيدة وجهيدة التي وجدت الباحثتان أنهما لم تظهرا إلا منذ 1960، وأسماء ذات طابع ديني تعبر عن النصر مثل فتيحة وفاتح ونصيرة، إلى جانب أسماء مرتبطة مباشرة بدلالة الحرب بشكل يجعلها شبيهة بدلالة الثورة مثل حربي وحربية وثورية وشعبية، وأسماء تحمل دلالة الاستقلال وسيادة الجزائر مثل حورية الذي وجدتا أنه كان موجودا في سجلات الحالة المدنية المدروسة منذ 1940، إلا أن عدد الذين أطلق عليهم الاسم قفز من 20 في 15 سنة قبل الثورة إلى 300 فتاة خلال فترة الثورة، مثلما أشارتا إليه.
وسجلت الباحثتان في هذا الصنف أيضا أسماء «دولة» و»دولية» و»دويلة» و»جزائرية» أو «جزائري»، حيث لاحظتا بروز هذه الأسماء في سجلات الحالة المدنية منذ سنة 1959، فيما يتمثل الصنف السادس في الأسماء المأخوذة من أسماء وألقاب القادة السياسيين الوطنيين العرب مثل جمال عبد الناصر، عبد الناصر، محمد نجيب، أنور السادات. من جهتنا، فقد اعتمدنا على فحص أكثر من 300 اسم منشور على صفحات الجريدة الاستعمارية «لاديباش دوكونسطونتين» ما بين 1954 و1962، حيث اخترناها بشكل عشوائي من العمود الذي كانت تنشره الجريدة بصورة دورية لعرض أسماء المواليد الجدد أسبوعيا أو نصف شهريا عبر مدن شرقية مختلفة من بينها قسنطينة، في حين اتبعنا التقسيم نفسه للباحثتين وفقا لدلالة الاسم، مع إضافة تصنيف الأسماء ذات الدلالات التقليدية المتوارثة محليا.
«هارون الرشيد» و»صالح باي» و»حرية»
ووجدنا في الاستطلاع عددا معتبرا من الأسماء ذات الدلالات الثورية وفقا لتصنيف الباحثين في القائمة التي قمنا باستخراجها، حيث تظهر زيادة في عددها مع تقدم سنوات الثورة التحريرية، على غرار الأسماء ذات الطابع الديني المعبرة عن النصر، إذ وجدنا منها 5 في إحدى قوائم المواليد لسنة 1954، في مقابل ثمانية أسماء في قائمة واحدة تعود لسنة 1960. وتبرز أسماء عز الدين ونصيرة وفتيحة، التي تحمل دلالة الفتح، وناصر الدين من بين أكثر الأسماء تكررا في هذا الصنف، بينما لاحظنا وجود أحد المواليد الذي أطلق عليه والداه اسم صلاح الدين في الصنف المذكور، فضلا عن أننا وجدنا أحد المواليد الذي أطلق عليه اسم «هارون الرشيد»، بما يمثل إحالة مباشرة لما يعرف بالعصر الذهبي للحضارة الإسلامية في العصر العباسي.
وتضم القائمة التي اطلعنا عليها مجموعة من الأسماء التي تندرج في خانة الألقاب التي تحمل دلالة الاستقلال والسيادة الجزائرية، على غرار اسم حورية وحرية وعتيقة، مثلما أشارت إليه الباحثتان، فضلا عن أننا وجدنا مولودا منح اسم «صالح باي»، بما يعكس إحالة مباشرة إلى حاكم قسنطينة الشهير وأحد رموزها قبل الاحتلال الفرنسي الذين مازالوا راسخين في الذاكرة إلى اليوم، في حين يتكرر اسم جمال نسبة إلى جمال عبد الناصر خمس مرات عبر السنوات المختلفة التي انتقيناها في الصنف الخاص بأسماء القادة السياسيين الوطنيين العرب، فضلا عن اسم عبد الناصر، الذي يحمل دلالتي الانتصار ويحيل على تسمية هذه الشخصية أيضا.
وتمثل هذه التسميات مقاومة اجتماعية رمزية للاستعمار الفرنسي وفعل ثورة ثقافية عليه مرافقة لحرب التحرير، حيث تطرق العديد من الباحثين في مجال علم الاجتماع والأنثروبولوجيا إلى السياسة التي انتهجها الاستعمار الفرنسي في منح الألقاب العائلية للجزائريين، من خلال اختيار ألقاب ذات دلالات سلبية أو مشينة من أجل إلصاقها بالجزائريين أو لتفرقتهم، في وقت يمثل طغيان التسميات التقليدية على القائمة التي اطلعنا عليها فعل مقاومة آخر من أجل الحفاظ على الهوية الوطنية للشعب الجزائري. ويظهر في قائمة التسميات التقليدية الكثير من الأسماء المكررة، على رأسها اسم محمد، إلى جانب الكثير من الأسماء ذات الدلالات الدينية والجمالية، على غرار الزهراء، والعطرة وفاطمة.
وسلطت صاحبتا الدراسة التي اعتمدنا على منهجها الضوء على العلاقة الوثيقة بين عملية التسمية والظروف المحيطة بها من خلال ما سجلتاه خلال الثورة التحريرية، حيث رصدتا بروز ممارسات جديدة في التسمية، بما يتميز بشكل واضح مع الممارسات السابقة لها، وأكدتا أنها تتجسد بظهور أسماء وليدة التغيرات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها الجزائر في هذه المرحلة من تاريخها، بما يؤكد أن الثورة التحريرية لم تقتصر على الفعل المسلح فقط، وإنما تجسدت في «ثورة اسمية» أيضا، على حد وصفهما.
س.ح