أنا حطّاب أجمعُ  ما خلّفه  الخرابُ و صخبَ الحياة التي تمرّ دون أن يشعر بها أحد
من الصعب أن تستدرج شاعرا كخالد بن صالح إلى الحديث عن الشعر، لأن شعره فعل تتلعثم أمامه التعريفات، و لأن الشاعر القادم إلى اللغة بفرشاة تقدّر مكانة الفراغ يعلّمك من السطر الأوّل أن الشعر هكذا، يُعاش ولا يحكى،  وأن الحياة كلّها شعر ويكفي أن تنتبه لتدرك ذلك. لكن خالد بن صالح سيوفر علينا العناء وهو يجيب تماما كما يكتب الشعر، بالعفوية التي تسبّب الإرباك.
حاوره: سليم بوفنداسة

في «الرقص بأطراف مستعارة» يتواصل الموت، أيضا، حتى يصبح أليفا وعاديا كما في «مائة وعشرون مترا عن البيت»، من أين يأتي كل هذا الموت إلى لغتك؟
الموت مرَّة أخرى، لا شكَّ أن الهواجس مختلفة والمسافة ليست بقليلة بين الكتابين، إلا أنني كحطاب صغير كنت على مدار سنوات أجمع ما تبقى من مسامير صدئة وأخشاب خلَّفها الخراب في مدنٍ تسكننا، وغابات أحرقناها لنحمي الجميلة من الوحش، كنت في كل تلك الألفة العادية للموت، أبني جسراً نحو البحر متذكراً قصيدة «الجسر» للكاتب الأمريكي جيم هاريسون التي مطلعها: قضيتُ معظم حياتي/ أبني جسراً على البحر/ رغم أنَّ البحر كان شاسعاً جداً». الموت عندي هو كل ما يعطل عملية بناء هذا الجسر، أن تجد نفسك مثلاً عاطلاً عن الحلم وعن ممارسة الحياة تحت أسقفٍ واطئة تمنعك من استنشاق هواء نقي ومغاير، كما أن لآلة الموت أطرافا أخطبوطية تلامس الجهات كلها.
ما أتركه من فراغات في نهايات الجمل أو بينها، هو كتابة أخرى، علينا التمعن فيها.
في «الرقص بأطراف مستعارة» الهمُّ الانساني في الكتاب خاص، جزائري الموت والملامح والأحزان، حتى مدنه وموسيقاه وأغانيه كلها قادمة من «التسعينيات»، من عشرية يظل توصيفها بالسوداء والحمراء سطحياً ولا يعكس حجم الدمار الذي طال الانسان. هكذا وبعين ذلك الطفل الذي نسي أنه كذلك كان التقاط تلك الملامح والصور والمشاعر العميقة التي لم يُفصح عنها. قصص غير مكتملة، شظايا حكايات، شذرات حب ما، أغانٍ كنا نتمسك بكلماتها وألحانها البسيطة حتى يصبح لأيامنا معنى.
للغة هنا، فعلُ الفتيل المشتعل، وأي محاولة للتفجير تخلف وراءها ضحايا، وجثثَ وقتٍ قديم، وأشلاء تملأ الساحات وتلطخ أوراق الشجر بالدماء، يأتي الموت من أزمنة متكسِّرة، وجراح طفولة لم تندمل، يأتي من هذا الدم المتدفق منذ عشرات السنين على جغرافيا عربية، كأن بيكاسو يعيد رسم غارنيكا بملامح عربية، أكبر مساحة من لوحته الأصلية. كما أن الموت في شكله اليومي يحرضنا على طرح أسئلةٍ لا عدَّ لها والشعر أحيانا يتجرأ على محاكاته بشكل ما، كمن يستيقظ صباحا باكراً مدفوعاً برغبة تدخين سيجارته الأخيرة قبل أن ينطفئ معها.
يقول أحد «شخوصك» في مستهل «الرّقص» أنه ينتصر بلا تردّد «للعادي وللأشياء التي تتأخر في أن تصير عادية، لأسباب واهية»، و أنّه يكتب بدافع الضجر، إلى أي حدّ يجاري خالد بن صالح  هذا الشبح الرهيب؟
الكتابة بدافع الضجر والانتصار للعادي، جاء من منطلقات إبداعية بحتة، تنحاز للهامشي والمهمل والعابر والتفاصيل الصغيرة التي أهملتها كذلك الكتابة عن «القضايا الكبرى» و»البلاغات المنبرية».. هكذا أنتصر للهامش دون هوادة، بعد أن التهم المتن كل شيء. ولا يهم أن يكون هنالك شيء ما من وراء ما أكتب. عظمة الشعر في هشاشته. في أنه لا يفعل شيئاً ولكنه موجود وباقٍ ولا يمكن أن نتصور العالم من دون شعر، حتى لا أقول شعراء.
هاجس آخر يدفعني للكتابة عن الأشياء العادية، كونها هي من يرسم حقيقة وجودنا في العالم. العالم كمكان يجمع المتناقضات والأضداد بكل ما في النفس البشرية من حب وعنف، من خير وشر، من رأفة ووحشية. كما أن الذات الجزائرية خصوصاً، تعجز عن التعبير بالكلمات، ربما أتخيلني أمشي في شارع مكتظ بالمشاة والعابرين إلى مصائرهم المشتتة ألتقط صمتهم، وحركات شفاهم القليلة، في محاولة لكتابة قصيدة تشبهني وتكون مرآة عاكسة لأرواحهم التي تلامس روحي ولو في مرايا متشظية.
لعلني أصبح أنا ذلك الشبح الذي يتربص بالتفاصيل، مجارياً تلك الرهبة في كتابة نصٍ يجعل من ركن مهمل في مدينة ما مكاناً يجمع صخب الحياة التي تمر دون أن يشعر بها أحد.
في مجموعاتك سرد وقصّ  وغرائبيّة، كأن الشاعر متسلّح بأدوات الروائي في قنص الحياة، كيف تستدرج السرد وتطوّعه حتى يصير شعرا كامل الضراوة؟
لا أدعي الحرفة هنا، ولكني مؤمن بأهمية هذا التقاطع بين السردي والشعري في الكتابة. الجرأة تأتي من الخلفية التي يأتي منها «الشاعر الرائي» كما يسميه بيسوا، أن تكون هناك قصة ما، حكاية تمنحك القدرة على مجاراة الحياة ككتاب مفتوح دون أن تشي بنفسها. أن يكون هناك سرد لا يمنح القارئ صفة التأكد من أنه سرد.
لا شك أن القصيدة، وقصيدة النثر على وجه التحديد، محملة بالأسئلة لا بالإجابات وهو لسان حال الشعر حين يمتطي أحصنة جريحة تضرب الأرض الجامدة للغة بحوافرها فتترك أثراً ولو كان ملطخا بالدماء. لم أعتقد أن الورقة التي أخربش عليها عادة بقلم جاف، كانت يوماً محايدة. وأن ما أتركه من فراغات في نهايات الجمل أو بينها، هو كتابة أخرى، علينا التمعن فيها.
أقول أنني جئت إلى الشعر من الأبواب الخلفية للغة، رسام ضلَّ الطريق إلى القصيدة
في الحياة قصصٌ، وحكايات ناقصة يسردها الناس على اختلافهم، وربما الحياة في حد ذاتها حكاية غير مكتملة. ومن الغموض الذي يلف النهاية ويجعلها أحيانا مشتهاة، يتسلل الشعر ليصبح حياة أخرى تستحق العيش والانغماس فيها دون تفكير.
في نصوصك ثقافة بصرية  وتشكيل  وانتباه حاد إلى الحياة، على ماذا يتغذى خالد بن صالح؟
كنت دائما أقول أنني جئت إلى الشعر من الأبواب الخلفية للغة، رسام ضلَّ الطريق إلى القصيدة، مبقيا على أشياء مرسمه في يده، فرشاة ألوانه وتشكيلتها على لوحة خشبية صغيرة، تلك الحركة التي يلامس بها سطح قطعة قماش خشنة الملمس، وما يسبق لحظة التشكيل والرسم على لوحة يملؤها الفراغ. كنت كذلك أقول إن قصائدي لوحات لم أرسمها، وشيئا فشيئا اكتشفت ضراوة الشعر في قدرته على المحو، دون أن ينقص منه شيء.
أدخل إلى القصيدة كلص، لا يملك خارطة تدله على مكان الكنز، أجوب البحر كقرصان يبحث عن وهم ثروة طائلة، لا يمنعه عنها الخوف من الغرق وهو يواجه المصاعب والخيانات. لا يهم بعد أن نغادر الموانئ التفكير في طريق العودة، لأن الشعر لا يليق إلا بمغامر تخلى عن كل شيء ليفك شفرة المجهول أو يموت وهو يحاول.
الخلفية التي أقرأ وأكتب بها القصيدة، مؤثثة بسِيَر رسامين ولوحاتهم، بأبطال روايات وأفلام خذلتهم الحياة، وهم يؤدون أدوارنا التي تخلينا عنها كضحايا وحالمين، بالموسيقى والأغاني حين تتحول إلى نهر يفيض من الجانبين، بالفلسفة وهي تدمر أفكارنا السطحية عن الحياة، بالقراءة كفعل وجود يحول الواحد منا إلى سندباد لا وطن له إلا الترحال، بكل ما يجعل الكتابة حقيبة سفر تتجاوز الجغرافيا والمطارات والمواعيد وكي تفوت على السكانير ما يعرفش واش فيها، لعجزه عن ذلك.
تمارس مهنة الصحافة، العمل الإذاعي تحديدا، كيف يتعايش الشاعر مع الصحفي؟ ألا يشوّش أحدهما على الآخر؟ وكيف ترسم الحدود بينهما؟
أي وظيفة هي تشويش على الكاتب وتحديدا المصاب بأجمل لعناتها: الشعر. لكنني ومنذ أكثر من عشر سنوات عرفت كيف أتحايل على الصحفي حتى لا يخنق الشاعر، لكل منهما صوته وهو ما يتجلى في نبرة الإلقاء وطريقة القراءة بينهما. كما أن لي تجربة مؤلمة مع خالد الرسام الذي أطفأت ألوانه إلى حين انتصارا للشاعر. وهذا ما يجعلني اليوم أبذل جهدا مضاعفا أثناء العمل في التغطيات الإعلامية وإنجاز البرامج ونشرات الأخبار لأكون الصحفي لساعات معينة في اليوم.
العمل في إذاعة المسيلة منحني ميزة اكتشاف الحياة خلف واجهاتها الملمعة، والغوص عميقا في وحلها، رافعا صوت المواطن البسيط وهو يتحدث عن أحلامه المحدودة في مقابل هواجس كثيرة لا تنتهي.
عرفت كيف أتحايل على الصحفي حتى لا يخنق الشاعر
ومن بين الحيل الجميلة التي تفطنت إليها كي أضع ما يشبه الحدود بين الشاعر والصحفي هي إعدادي لبرنامجين أدبيين هما «زوارق من ورق» و»قراءة في كتاب آخر»، لأجعل الحرب أقل ضراوة بينهما ولا أخسرني في النهاية.
• أنت واحد من قلّة جعلت النص الشعري الجزائري يعيش عصره، أيّ الطرق سلكت، وكيف نجوت من البلاغات والغنائيات والغراميات التي قتلت كثيرين؟
لا أدري إن كنت أفعل ذلك حقاً، لكنني مستمتع بلعبة الهدم وإعادة البناء، بحرق مدن بأكملها وبعث أخرى من رمادها، سلكت الطريق التي سلكها كل شخص وقف أمام غابة «فروست» العظيمة، الطريق الذي لم يسلك إلا قليلاً، مع احتفاظي بندم خفي إذ لم أسلك الطريق الثانية، وهذا ما صنع الاختلاف.
المنطلقات لم تكن واعية ولكنني بمرور الوقت والتوغل أكثر في متعة الكتابة وشغفها. وخاصة بعد اكتشافي لمجلة «أوكسجين» الإلكترونية سنة 2006 ومنذ ذلك الحين وأنا أنشر نصوصي وقصائدي بالمجلة وأساهم في إضافة كل ما يمكن أن يمنح خطها «المنحاز إلى كل ما هو خارج الوصفات الجاهزة، والأفكار المعلبة، والعنتريات، والتهويمات التي تشيّد قصوراً في الهواء».
اكتشفت ضراوة الشعر في قدرته على المحو، دون أن ينقص منه شيء
لا أدري أين قرأت أنَّ الشعراء عندما يفلسون يتحدثون عن تجاربهم، لكن حقيقةً النص الشعري الجزائري لم يخرج من سياقات محدودة الأفق، رغم الأصوات الواعدة التي كانت تحلق وتغرد خارج المتن. لا نملك مدارس شعرية، ليس لنا أسماء اشتغلت على مشروعها لتكوّن مرجعية ما، يمكن الانطلاق من أرضيتها نحو أمكنة جديدة. وتلك الأصوات أخمدت، وتم خنقها بفعل التغييب أو القتل خلال العشرية الدموية، أو توقفت عن الكتابة لسبب أو لآخر. يضاف إلى هذا اليُتم غياب التواصل وانتشار ثقافة الإقصاء والتهميش. رغم كل هذا اليأس لم أسلك تلك الطريق وحدي، هناك أسماء وتجارب اليوم تجعلني أتبنى شعار منشورات المتوسط التي أصدرت عندها كتابي «الرقص»: معاً لنحارب طواحين الهواء.
• تبدو أحيانا كآلة غريبة تحوّل الحياة إلى شعر، وتبدو أحيانا كمُخرّب أنيق يخلّف مدنًا محروقة في عبوره. كيف تُعرّف الشعر يا خالد؟
يصعب عليَّ تعريف الشعر، رغم محاولاتي الكثيرة للإجابة عن هذا السؤال في حوارات سابقة. أكتفي بمقولة رامبو: «سيبقى هذا السُّم في عروقنا» وربما لذلك يستحيل عندي «الشعر عشبةً سامّةً يُخفيها الشعراء بين صفحات الكتب/ وقليل من يعرف ذلك.
أقول هذا، لأن عدوى المرض أقوى من عدوى العادات الصحية.
• أنت قليل الظهور على شبكات التواصل الاجتماعي، عكس كثير من شعراء العصر والأوان الذين لا يتردّدون في نقل تفاصيل حياتهم و أحوالهم  النفسية والتعليق الفوري على الأحداث، هل يحتاج الشاعر إلى عتمة؟ كيف تنظر إلى الشعراء الذين يعرضون جثثهم خارج النص؟
الشاعر ابن عزلته، رفيق العتمة، والظلال العالية. هو من يمنح الضوء للعالم وليس العكس، كثرة الأضواء على زيفها تجعل الكاتب يعيش خارج دائرة الكتابة. لا يهمني ما يفعل الآخرون على شبكات التواصل الاجتماعي، كل له طريقته في تقديم نفسه ونصه. أنا أعتقد جازماً أن القصيدة هي السبيل الوحيد إلى القارئ في هذا العالم. هناك فرق بين كاتب مقروء وكاتب مشهور، والمشهور ليس طبعاً جيداً، فما ساهمت فيه شبكات التواصل عبر نشر ثقافة شعبوية لا علاقة لها بالأدب ولا بالشعر، وبطريقة مقصودة تستقطب الجماهير إن جاز التعبير وليس المعجبين أو القراء النوعيين. الفرق شاسع مثلا بين الفايسبوك وتويتر أو انستغرام وغودريدز. كما أن الكتابة الآنية المباشرة لا تعتبر رأياً مفكراً فيه. والغريب أن هناك من يكتبون نصوصهم «المرتجلة» إجابة على سؤال السيد مارك: بماذا تفكر اليوم؟
كثرة الأضواء على زيفها تجعل الكاتب يعيش خارج دائرة الكتابة
• تبدو متريثا في النشر، هل تأخذ وقتك في الكتابة أم فيما يليها؟ ما هي الهواجس التي تشغلك وأنت تخرج من نص إلى نص ومن مجموعة إلى أخرى؟
الوقت الأكبر أقضيه فيما يلي الكتابة، من اشتغال وإعادة قراءة، حيث أن القصيدة تحتاج إلى وقت طويل قبل أن تصبح قابلة للنشر وقبل أن أحذفها كعادتي ولو بعد أشهر من كتابتها. تنهكني هذه المرحلة في حين تبقى المتعة الأعظم هي لحظة خربشة النص لأول مرة على ورقة دفتر أحمله معي دائما، من بين دفاتر كثيرة أحرص على اقتنائها بعناية. أكثر الهواجس التي تشغلني بين نص وآخر يتعلق بسؤال الاشتغال والقدرة على تجاوز النص الحالي خاصةً إذا أخذ وقتاً وكان مُحكماً، ويحتل جزءاً مهما من مشروع الكتاب، لأنني عادة لا أكتب نصوصاً متفردة، إنما أشتغل على ثيمة واحدة تتنوع تحت عنوانها الرئيس النصوص لتخدمها شعرياً إن جاز التعبير بكل ما في ذلك من انفلات أحياناً ولعب على فتح نوافذ غير محتملة. لا أستعجل شيئاً أبداً. أنا اليوم في خصام مع الكتابة لا الشعر. لم أكتب منذ ما يقارب السنتين وعادة أقضي من أربع إلى خمس سنوات بين مجموعة وأخرى لا يتجاوز عدد صفحات الواحدة 80 صفحة. ربما «الرقص بأطراف مستعارة» كان الكتاب الذي كنت فيه أكثر قسوة على القصائد وأنا أراها تطير من المسودة الأولى كطيور ملعونة تستخدم لتعلم الصيد. جاء الكتاب في خمسين صفحة ورغم خفته أعتبره الكتاب الأثقل بما حذف منه من قصائد وجمل وفقرات زائدة عن حاجة الشعر. هذا ما آمل أني فعلته فعلاً. حاليا أنا متفرغ للكتابة للسينما وقراءة الكتب والترجمة ومشاهدة الأفلام، إلى أجل غير مسمى.
عظمة الشعر في هشاشته. في أنه لا يفعل شيئاً ولكنه موجود وباقٍ
هل يمنحك العيش في مدينة داخلية  دوافع للكتابة، هل تحبّ أمكنتك؟  هل تتابدلان القسوة؟
أهم شيء تمنحني إياه المدن الداخلية هو عامل الوقت. أنا في بلدتي «الديس» أملك ساعات متراكمة من الوقت تظهر بمجرد عودتي من العمل أو السفر. ربما هذا ما أحتاجه الآن بالنظر إلى المشاريع التي أشتغل عليها. عكس مدن الساحل التي تلتهم ذلك الكائن الذي يوصف بالسيف، كسندويتش سريع وتلتهم أصحابه معه. أحب هذه البلدة التي تنام في حضن سلسلة جبال حجرية عالية، وأنشد حين أغادرها بيتا عظيما للجواهري ذكرنا به صديقنا الشاعر والناشر خالد سليمان الناصري في جلسة مع صديقي الشاعر صلاح باديس، يقول فيه: «أنا عندي من الأسى جبلُ / يتمشَّى معي وينتقلُ». أحب غربتي بين أهلي أحياناً وعزلتي الصاخبة المطلة على وادٍ لا يعرف الماء إلا في المناسبات، حين تحتفل السماء وتغدق على التراب العطش مطرها المشتهى. أحب قسوة الحجر وقسوة البشر هنا حين يدوسون على أحلام الكثيرين عن قصد أو دون قصد. لعلني كنت صادقاً جداً حين قلت أنني «» أَكتُبُ - ربّما - لأنَّ عطباً ما حدثَ، ولم أستَطِع إصلاحَه». تلك القسوة أتبادلها مع مكاني بكل تفاصيله على شكل جسر أبنيه ببقايا الأشياء.
سأختم الحوار من حيث بدأته بإكمال المقطع الثاني من قصيدة الجسر لهاريسون:
أنا فخورٌ بالجسر
المعلَّق في هواء البحر النقيّ.
س.ب

عن خالد بن صالح
تسلّط النصر في هذا العدد من «كراس الثقافة» الضوء على إحدى أهم التجارب الشعرية الجديدة في الجزائر، تجربة  الشاعر خالد بن صالح، الذي أعلن حضوره الطاغي بثلاثة دواوين تصدم المتلقي من عناوينها وتضعه في مناخ غير مألوف، هو قفزة نوعية تضمن للنصّ موقعا  في عصره وتكتب عذابات الذات الجزائرية شعرا، تستدعي مأساة التسعينيات دون أن تخلّ بالشرط الفني الذي يتعامل معه الشاعر بصرامة.
النصر التي حاورت الشاعر، استكتبت شاعرين على اطلاع على تجربته من موقع قريب، هما صلاح باديس الذي يتقاطع معه في  الحساسية الشعرية وعماد بن صالح شقيق الشاعر الذي رفض الأخذ بوصيّة أمه التي لا تريده  أن يكون شاعرا مثل أخيه، لأنها لا تعلم أنه قطع يد الشاعر مرارا  وعوض أن يتوقف عن الكتابة كانت تنبت يدٌ أخرى، كما كتب في نصّ بديع.
و خالد بن صالح  من مواليد 25 أوت 1979، اختص في علم الاجتماع وبدأ حياته الفنية كفنان تشكيلي شارك في عدة معارض داخل الجزائر وخارجها، يشتغل صحفيا بالإذاعة الجزائرية بالمسيلة.
صدر له شعراً:
-"سعال ملائكة متعبين" 2010 منشورات الاختلاف، الجزائر/ العربية للعلوم ناشرون، بيروت
«مائة وعشرون متراً عن البيت» 2012 منشورات الاختلاف، الجزائر/منشورات ضفاف، بيروت-
«الرقص بأطراف مستعارة» 2016 منشورات المتوسط إيطاليا-

خالد بن صالح: ذاكرة بصرية بديلة
كنت قد كتَبتُ مرّات عديدة عن شِعر خالد بن صالح، لكن الذي يهمني فعلاً اليوم، وبعد ديوانه الثالث «الرقص بأطراف مستعارة» (منشورات المتوسط- 2016) هو التقاط تفصيل مُعين، تفصيل يتكرّر في كتابة بن صالح منذ «سعال ملائكة متعبين»، خيطٌ من الخيوط التي تربط دواوينه الثلاثة. هذا التفصيل هو الذاكرة البصرية البديلة التي خلقها الشاعر وكتبها كل مرة، إذ أنّ خالد ينتمي لجيل عاش مراهقته وشبابه خلال فترة التسعينات، أي خلال حربٍ أهلية حصدت كل شيء، ودائماً ما يُنسى هذا البُعد عند التطرّق لتجارب أدبية انطلقت من هذه البيئة، خاصة أنّه لا يُمكننا الحديث عن جيل أدبي في الجزائر، ما دامت كل التجارب الجيدة في الشعر والقصة والرواية –وباللغتين- دائماً ما كانت طفراتٍ فردية، هنا وهناك، تظهر وتخبو.
صــــلاح باديــــــــس
أصدر خالد ثلاثة دواوين، هو الذي بدأ رساماً، ثم تحوّل في عشرينياته إلى الكتابة، وفي ديوانه الأول كتب «الصورة ليست كل الشّعر» إلاّ أن خالد، الرّسام السابق، لا يتوقّف عن تأثيث قصائده بكل ما علق في الذاكرة، ذاكرة تكوّنت أصلاً مثل رقعة كولاج واسعة، تمّ استعمالها لسنوات كبديلٍ لذاكرة بصرية مشوّهة وشبه غائبة، جيل التسعينات، في خضم العنف ضد المدنيين والحرب على الارهاب، في صحراء التسعينات القاحلة كان لزاماً على ذلك الجيل أن يصنع إقليمه الخاص ويُعلّمه بأشياء –مهما بدَت لنا صغيرة- كانت ركيزة وسنداً للعيش اليومي، من شرائط كاسيت الشاب حسني، وصوته، إلى البوسترات وصور الأفلام وأغلفة الكُتب، بل وحتى الكُتب التي لا تحمل أغلفة وتنقصها بضع صفحات. الإشارة إلى كل هذه المراجع هو ما وَسَمَ كتابة خالد بن صالح منذ البداية، بل وكان طاغياً في ديوانه الأوّل، وبدأ في التراجع حتى امّحى، تقريباً، الحدّ الفاصل بين الصور والكتب والأغاني وبين قصائد خالد بن صالح، صار ينسى مُدنا وطيوراً تحترق داخل الكُتب، وتسرّبت أحداث وشخصياتٌ إلى نصوصه بسلاسة أكبر، لكن في نفس الوقت ظهرت الحرب التي كان يحاول –ربما- الكتابة عنها منذ أول ديوان، لأنّه يحدث أن نكتُب أكثر من كتاب دون أن نعي بأنّنا نتدرب على كتابٍ ثالث أو رابع، كتابٍ لاحقٍ، سنصِله ذات يوم، سنبلغه بعد كل التجارب، ليس لأنه الأفضل بل لأن التجربة أو موضوع الكتابة ينضج معه، وقد يكون هذا ما حصل مع بن صالح في «الرقص بأطراف مستعارة» حيث بدا موضوع العنف المتكلّس على جدران مغارة الذاكرة واضحاً، وقريباً، وليس من قبيل الصدفة –ربما- أن نقرأ في هذا الديوان قصيدة قصيرة بعنوان «كولاج» لكن لا كولاج فيها، بل فقط تحيّة للعُزل الذين لم تحظى أجسادهم بقبور وإشارة لملائكة لم يتعبهم التحليق، هكذا يربط بين خط سيرِ الديوان الجديد وبين ملائكته المتعبين القدامى، الذين بدأ معهم الرحلة... توصّل الشاعر مع ديوانه الأخير إلى التعبير عن ذاكرته البديلة تلك، دون أن يعرضها كرقعة كولاج أو قائمة مُقتنيات ينثرها على القصائد، ولذلك أقول أن الديوان كان تكثيفاً لعوالم بدَت غائمة في الكُتب الأولى، لكن هل وصل أم لم يصِل... يبقى الجواب مرتبطاً بتجربة قراءة كل واحد فينا لأعمال هذا الشاعر الذي يشتغل منذ سنوات على صوت يخصّه وحده.

خالـــد أخـــي الذي اختصـــر لي  الطريـــق إلى الجحيــــم
عماد  بن صالح

لما أرسل الشاعر الأمريكي «فرانز رايت» قصائده الأولى لأبيه «جيمس» علّق هذا الأخير على ابنه “أنت شاعر يا ولد مرحباً بك في الجحيم” ليُصبحا مع مرور الزمن من أهم شُعراء أمريكا حصلا على جائزة البوليتزر للشّعر في سابقة فريدة من نوعها حيث لم يحدث أن فاز أب وابنه من قبل بنفس الجائزة عن نفس المجال. هذا بالضبط ما أخبرني به خالد أيضا لمّا قرأ قصائدي لأول مرة، ومنذ ذلك الحين ونار الجحيم تحرق أحشائي وتُحوّل الرماد إلى كلمات.
لا يمكن الحديث عن خالد دون التطرق إلى ما يجمعنا من تفاصيل يومية نعيشها تحت سقف واحد. علاقتنا هي علاقة متعددة النواحي، خالد بالنسبة لي يُعتبر أبا وأخا أكبر وعرابا، فبحكم طلاق والدينا قبل أشهر قليلة من ولادتي، تكفل بتربيتي مع أمي وأختي منذ أيامي الأولى كتعويض لغياب الأب. كان هو سند العائلة ومعيلها في تلك الفترة. ربما كنت محظوظا جدّا كوني الأصغر في العائلة، حيث فتحت عيني وسط أسرة ملتفة حول نفسها في جو حميمي ساعد على خلق التفاهم بين أفرادها الأربعة. كان لخالد التأثير الأكبر في نشأتي، حيث جعلني أحرق مراحل كثيرة كانت ستأخذ مني وقتا طويلا لو كنت  من دونه. فاختصر عليّ الكثير من الأشياء عن طريق النقاشات وشرح بعض المفاهيم بأسلوبه الخاص وتوجيهي في اختيار الكتب. أذكر حين أهداني في عيد ميلادي العاشر قصة قصيرة بعنوان «سعيد والحمام الزاجل» لكاتبها «الأخضر بن هدوقة» لتشكل تلك القصة انطلاقتي في عالم المطالعة. بعدها جاء وقت الاكتشاف حيث كان يمتلك مكتبة كبيرة  قوامها سنوات وسنوات من تجميع الكتب. تعرفت من خلالها على أسماء كُتّاب وعناوين كتب أثرت مُخيّلتي وفتحت عقلي على عوالم أخرى، تتنوع بين كتب الفن والرسم، تاريخ وفلسفة روايات وشعر ودراسات وغيرها. ولحد الساعة حجم المكتبة يزداد يوما بعد يوم ومعها يزداد شغفنا. وفي تلك اللحظة التي اكتشفت فيها المكتبة، اكتشفت أيضا شغف خالد بالكتب ومدى ولعه بما يملك، يختار كتبه بعناية ويقرأ بنهم، خصوصا وأن سنوات الجامعة كان لها تأثير كبير في حياته حيث درس علم الاجتماع وقرأ معظم الكتب المتواجدة في مكتبة الجامعة آنذاك، كانت فرصة له ليكتشف دوركايم وسيوران وماركس وانجلز وغيرهم، وكذلك مجلات الشعر العربية والعالمية. كان فأر كتب لا يشبع، نارا مستعرة تلتهم الأخضر واليابس. كان أكثر تحرُّرا واندفاعاً على عكس ما هو عليه اليوم فلو وضعنا مقارنة بسيطة بين خالد في ذلك الوقت واليوم لوجدنا أن وقته تقلّص نوعاً ما، بحكم تنقله اليومي إلى مكان عمله بإذاعة المسيلة، وزواجه بالمرأة التي أحب، وتربيته لابنه «إياد». كلها ظروف أخذت منه جلّ وقته وجعلته يقرأ بوتيرة أقل ويكتب ببطء، والدّليل فارق الوقت بين مجموعته الثانية والثالثة، حيث تطلبت منه تقريبا أربع سنوات.
يقول خالد أنه يكتب بدافع الضجر، لكي يردم هوة داخله، لأن عطباً ما أصابه ويحاول إصلاحه بالكتابة. لكن لو تأمّلنا في الخلفية التي أتى منها خالد سنجد العديد من العناصر والأحداث والقصص التي حدثت في حياته لتُكوّن هذا الشاعر الذي هو عليه الآن. فمنذ أيام المراهقة كان شغوفا بالحياة، محبا لها ومليئا بها. وهذا ما تظهره صوره الكثيرة التي تستولي على جزء كبير من ألبوم العائلة. شاب عشريني حالم في زمن التسعينات، واكب الأحداث والتغيرات التي طرأت آنذاك، ولم يكن يتوقع أن قرية صغيرة مثل “الديس” النائمة بين جبلين سيصلها حمام الدم ليفتح جراحا لا تندمل ويكون ذلك منعرجا في حياة جيل بأكمله، حيث رأوا الموت أمامهم، يُربّت على أكتافهم ويدفعهم نحو الهاوية. هذا ما جعله ينقل ذلك اللون الأحمر الذي طغى على الأرصفة والشوارع ونشرات الأخبار إلى قماشة التوال التي كانت نافذته التي يطل منها على العالم. احترف الفن التشكيلي لعقد من الزمن أو أكثر حيث افتتح مرسماً مع صديقه المقرب آنذاك. رسم العديد من اللوحات، شارك في الكثير من المعارض وتحصل على عدة جوائز وشهادات هي مُكدّسة الآن داخل خزانة في ركن غرفته. لكن بعد سنوات من الرسم ومعاقرة الحياة، وفي لحظة فارقة من مساره كفنان تشكيلي، قرر أن يبتعد عن الرسم، ربما كان لوفاة صديقه المقرب الذي افتتح معه المرسم الأثر الأكبر في قراره هذا. ثم بعدها بمدة، وبعد حادث سير خرجنا منه سالمين إلا من ندبة تعلو حاجبه الأيسر، في تلك الفترة التي كان عليه أن يمكث بالبيت، قرر أن يكتب لأول مرة باستمرار. من خربشات على ورق أبيض، إلى قصائد منشورة إلكترونيا ومن مخطوط مجموعة إلى ديوان شعري مطبوع ورقيّاً. غيّر مساره الفني هكذا، كمن يخرج بسيارته مُسرعاً نحو الطريق الآخر غير مُبالٍ بمُخالفة اتجاه السير. ربما هنا بدأ منظوره بالتشكل حول الكتابة، حيث كان يقول أنه دخل إلى هذا العالم من الأبواب الخلفية. وأظن أن الندبة التي تعلو حاجبه الأيسر لم تكن إلا احدى هاته الأبواب.
يمكنني القول أن خالد من النوع الذي لا يهاب التجريب، ولا يخاف معاكسة جهة السير، يؤمن أن التمرد يكون داخل النص لا خارجه، وأن الشعر هو فن الحذف بامتياز. كل شيء بالنسبة له يكمن في المغامرة وفي اقتناص التفاصيل الصغيرة واللحظات الهاربة من حياة رتيبة ليُدخلها إلى نصّه طيِّعة ويجعل منها مادة شعرية يبني بها قصيدته، ويجعل من الكتابة عن الهامشي والعابر أداة لهدم كليشيهات لم تعد تضيف لقصيدة النثر شيئاً.

الرجوع إلى الأعلى