اكتشف فجأة أنه كان يعيش خارج نفسه كمن أجر جسدا لأزيد من خمسين سنة مما يعدّون. تريّض بقسوة حتى حذّره الطبيب من توقف مفاجئ للقلب. أعاد استنبات أسنانه متخلصا من إرث السلالة. قضى على الشيب الذي هجم عليه نتيجة قلق غير مبرّر بالأسود الغراب. جدّد بطاقته في الحزب الذي أخطأ في الخروج منه. توقف عن قراءة الجرائد الصادرة بالعربية. انخرط مع أطفاله في تعلّم اللغة التي كان يفترض أن يتعلمها. تصدق بملابسه الفضفاضة، سخر من نفسه وهو يراجع أرشيف الملابس ومتحف الأحذية:هل حمل جسدي حقا هذه العجائب؟
تبرع بمكتبته التي أفسدت طبعه وأصابت أهله بحساسية. ضحك وهو يتذكر كيف أقامها كتابا كتابا وكيف كان يعتبرها جنته.
ضحك وهو يراجع ما خطت يداه. ضحك و هو يستعيد وجوه الشعراء و أيديهم التي ترتفع وتنزل في عنف وهم يرددون كلمات تنتهي بنفس الحرف. ثم يتوقفون استجداء لإعجاب يترجم بالتصفيق. كلمات لا معنى لها تنتهي بنفس الحرف. ضحك وهو يراجع الحزن المصطنع  والنباهة المصطنعة على وجوههم. عاودته صورته وهو يلقي نزارياته بعد أن أحدث زلزالا في عصره بتخليه عن التزام مبكر بالقضايا الكونية وانصرافه إلى هموم الذات في خيانة أغضبت الرفاق و استهوته. ضحك وهو يستعيد سيرة نظيره الأحمق الذي ضيع عليه خمسين سنة كاملة. النظير الأبله بأسنانه البارزة وقمصانه الفضفاضة. تمنى لو يعاقبه. لو يقطع لسانه الذي أفسد عليه حياته، لو يحطم رأسه  ليكسر العناد الذي حرمه من كل متع الدنيا: كان يتوهم أنه سيغير العالم بعباراته الركيكة، أخرجني من الحزب وقطع علي كلّ السبل وناصب كل الناجحين العداء متأثرا بالقصص التي كان يقرأها في الكتب. القصص الخيالية التي أخرجته من الحياة. لم يفهم أن الحياة تُعاش ولا تقرأ. لم يفهم أن الحياة تُعاش ولا تُكتب.
حاصره بالمرآة وصرخ فيه: ماذا فعلت بي؟  
صمت النظير، فهجم عليه: لا بدّ أن تدفع ثمن تلاعبك بوقتي حان وقت الحساب. يجب أن تغادر. يجب أن أنساك. أنت عار عليّ، كل الذين يحاولون النيل مني يتعمدون تذكيري بك.
ابتسم الآخر فبرزت أسنانه القديمة المخربة. لم يتمالك نفسه، لكمه بعنف. لكمه ثانية، فتطايرت شظايا المرآة.

سليم بوفنداسة

 
    • صعلكة

        أصبح "خطاب الحق" عنوان ضعفٍ في عالم اليوم الذي باتت تتحكّم في مفاصله قوى ولوبيات لا تبالي بالقوانين ولا بالمبادئ التي راكمتها الإنسانيّة في خروجها الفاشل من الصّراعات الدموية. بل إن "التصعلك" تحوّل إلى ما يشبه العرف في العلاقات الدولية،...

    • ضرورة التفكير في المجتمع

        سليم بوفنداسة انتفض المجتمع المدني في ولاية خنشلة ضدّ "الراقي الزائر"، الذي أثار الجدل على مواقع التواصل، ودعا السلطات لفتح تحقيق حول قيّامه بنشاط غير مرخص، في مبادرة حضاريّة تكشف عن وعي الجمعيّات وتحمّلها مسؤوليّة التصدي لآفات ظلّت لفترة...

    • المخفيّ

      حين مات محمد ديب لم تجد وسائل الإعلام الوطنيّة، مادة سمعية بصريّة عن الكاتب تقدّمها للجمهور، كان ذلك سنة 2003، أي قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وكان محمد ديب أكبر كاتبٍ جزائري، عاش عمرًا مديدًا يكفي لاستدراجه إلى توثيق يخدم...

    • اختراق

      شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب المدمرة على غزة، تسخير ذباب إلكتروني لتسفيه الخطابات المؤيدة للفلسطينيين، ويمكن أن نقرأ ما يندى له الجبين في تعليقات عربيّة على الجهود الدبلوماسيّة لوقف المذبحة، أو على التضامن مع الضحايا، حيث...

    • خِفّـــة

      يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي يبقى، لذلك صارت استراتيجيات التّواصل تُبنى على عبارات يوصى بإلقائها وسط موجة الكلام، في حملات الانتخابات وفي الخُطبِ والتدخلات في وسائل...

    • وصفُ السّعادة!

      تجري الحياة في فضاءات أخرى وليس على المُستطيل الأخضر، رغم المُتعة التي توفرها كرة القدم، باعتبارها مسرح فرجةٍ في عصرنا، يلتقي فيه الشغف الكونيّ. صحيحٌ أنّ هذه اللّعبة، تجاوزت حدود الرياضة بعد ظهور "المستثمرين" والتجّار من باعة...

    • القيمة والشّعار

      يخترقُ المنتوج الثقافيّ الحدود واللّغات، بجودته أولًا وأخيرًا، وقد يفوق تأثيره التوقّعات، لذلك استغلّت بعض الأمم المُتصارعة على المسرح الكونيّ الفنون لتمرير رسائل تستهدف وجدان البشر و تستدعيه في لعبة استدراج و تماهٍ، عبر صوغ...

    • كبارُ "الباعة"!

      سخر كمال داود من الصّفة التي يطلقها العرب والمسلمون على ضحايا العدوان الهمجي على غزّة، ووجد الوقت والمتعة للتّنكيل اللّغوي بمنكّل بهم في الواقع، لكنّ اللّغة ستخونه، قطعًا، في وصف القتلة، لأنّ حريّته تتوقّف عند جثث الضحايا،...

    • مقبرةُ جماعيّة للإنسانيّة

      في هذه الأرض المزدحمة، حيث يتعايش الأحياءُ والموتى، تُحفر القبور على عجلٍ في الأسواق السّابقة والأرصفة السابقة، لا أزهار هنا في وداع النّازلين إلى ترابهم من حياة، هي مجرّد استراحة بين ميتات مُختلفة. قد يُسرف القتلى في النوم حيث...

    • في وصف الشّر

      تدفعُ المقتلةُ الجاريّة هذه الأيّام ومحاولات تأويلها وتغطيّتها نحو التفكير في "الشّر"، ليس كمصطلح خاضت فيه الفلسفات، ولكن كعنوانٍ بديعٍ لعصرنا الذي صدّقنا أنّه يشهد ذروة تطوّر الإنسانيّة، في العلوم والمعارف وفي النظم السيّاسيّة...

    << < 1 2 3 4 5 > >> (5)
الرجوع إلى الأعلى