يمسح الزقاق الطويل بتوجّس و يعتذر: تجنّبت مهاتفتك لئلا أسبب لك أذى، إنهم يلاحقون حتى صوتي، صاروا يحاولون معرفة ما أفكر فيه. لا تهاتفني ولا تقف معي طويلا، يقول لك، ثم يمسك بيدك ليمنعك من الذهاب. ازداد سعارهم هذه الأيام، لا أدري ماذا يريدون.
يرتفع منسوب الغضب في ملامحه التي تحدت الزمن: وجه بربري جرت فيه دماء الرومان وعينان واسعتان تميلان إلى الخضرة صباحا وتصيران بنيتين مع المغيب ولسان يستطيب الفرنسية في المرح والغضب مع فواصل هجينة تغرف من قاموس الأجداد.
وقوفا يستعيد التاريخ وانعطافاته الرهيبة. يستعيد الشخوص كندامى برعاية خيال يسند الوقائع. يستعيد الأحداث السحيقة كأنها جرت البارحة ببراعة سارد يستعين بموهبته في التلفيق لإخفاء فجوات الذاكرة. يعيد توزيع الأدوار والبطولات وفق روايته تصحيحا لحيف ارتكبه الرواة عن قصد أو عن خنوع لمتدبري أدوار الصف الأول في حكاية يتدافع أبطالها ابتغاء المجد.
ألف الشخوص المتقاتلة في كتب التاريخ  وألفته فصار يقول كنّا وهو  يفصّل حادثة و يمسك بيدك كي يثنيك عن ذهاب محتمل قبل أن ينهي سرد الحكاية.
رياح مختلفة هبّت على الزقاق لكنه ظل صامدا، لم يتغيرّ كما يتغير الناس في المواسم، لم يجار غير هواه، لكن الجسد بدأ يخونه وبدأ الأطباء يحذرونه مما يشتهي فيلعنهم ويراجع مقولاتهم استنادا إلى معارفه في علوم الأحياء ونظرياته التي تقف على محدودية الطب. صارت خطواته شحيحة في الشارع لكن صوته لازال قاسيا كما هو ووجهه لازال يمنح الأمان كوجه أب لا يجاهر بما يختزن قلبه الكبير، ورسائله القصيرة لازالت تشير إلى شاعر أخطأ وجهته ومشى في حكاية لا تشبهه.
لم يتوقف الجسد عن إرسال الإشارات الحمراء ولم يعبأ هو بتسرب الزمن كتسرب الماء أسفل العمارات ساحبا معه الأرض تحت الأساسات، ولم ينتبه إلى أنه لم يعد يستطيع مسح الزقاق بنظراته المرتابة حتى وهو يستعين بحزمة من النظارات يعلق بعضها في رقبته ويخفي البقية في المحفظة الجلدية التي لا يتخلى عنها أبدا. لم ينتبه إلى أن التاريخ هكذا: يمنحك الفرصة لتقول ما تشاء ثم يطحنك مع قمحه بقسوة إن أنت دخلت رحاه.
في مستهل الساعة الثانية لوقوفكما، يمسك يدك ويقول: لنتجنب الهاتف. لنتجنب الوقوف في الزقاق، إنهم لا يتأخرون عن معاينة الهواء الذي أتنفسه.

سليم بوفنداسة

 
    • قطارُ الباطل

      سلّطت الاحتجاجاتُ الطلابيّة في الولايات المتحدة الأمريكيّة الضوء على هيمنة اللّوبي الصهيوني على الجامعات ومراكز البحث، سواء من حيث الاستثمارات والشراكات أو التمويل والتبرّعات التي تهدف إلى الهيمنة والسيطرة على القرار، وهو ما...

    • صعلكة

        أصبح "خطاب الحق" عنوان ضعفٍ في عالم اليوم الذي باتت تتحكّم في مفاصله قوى ولوبيات لا تبالي بالقوانين ولا بالمبادئ التي راكمتها الإنسانيّة في خروجها الفاشل من الصّراعات الدموية. بل إن "التصعلك" تحوّل إلى ما يشبه العرف في العلاقات الدولية،...

    • ضرورة التفكير في المجتمع

        سليم بوفنداسة انتفض المجتمع المدني في ولاية خنشلة ضدّ "الراقي الزائر"، الذي أثار الجدل على مواقع التواصل، ودعا السلطات لفتح تحقيق حول قيّامه بنشاط غير مرخص، في مبادرة حضاريّة تكشف عن وعي الجمعيّات وتحمّلها مسؤوليّة التصدي لآفات ظلّت لفترة...

    • المخفيّ

      حين مات محمد ديب لم تجد وسائل الإعلام الوطنيّة، مادة سمعية بصريّة عن الكاتب تقدّمها للجمهور، كان ذلك سنة 2003، أي قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وكان محمد ديب أكبر كاتبٍ جزائري، عاش عمرًا مديدًا يكفي لاستدراجه إلى توثيق يخدم...

    • اختراق

      شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب المدمرة على غزة، تسخير ذباب إلكتروني لتسفيه الخطابات المؤيدة للفلسطينيين، ويمكن أن نقرأ ما يندى له الجبين في تعليقات عربيّة على الجهود الدبلوماسيّة لوقف المذبحة، أو على التضامن مع الضحايا، حيث...

    • خِفّـــة

      يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي يبقى، لذلك صارت استراتيجيات التّواصل تُبنى على عبارات يوصى بإلقائها وسط موجة الكلام، في حملات الانتخابات وفي الخُطبِ والتدخلات في وسائل...

    • وصفُ السّعادة!

      تجري الحياة في فضاءات أخرى وليس على المُستطيل الأخضر، رغم المُتعة التي توفرها كرة القدم، باعتبارها مسرح فرجةٍ في عصرنا، يلتقي فيه الشغف الكونيّ. صحيحٌ أنّ هذه اللّعبة، تجاوزت حدود الرياضة بعد ظهور "المستثمرين" والتجّار من باعة...

    • القيمة والشّعار

      يخترقُ المنتوج الثقافيّ الحدود واللّغات، بجودته أولًا وأخيرًا، وقد يفوق تأثيره التوقّعات، لذلك استغلّت بعض الأمم المُتصارعة على المسرح الكونيّ الفنون لتمرير رسائل تستهدف وجدان البشر و تستدعيه في لعبة استدراج و تماهٍ، عبر صوغ...

    • كبارُ "الباعة"!

      سخر كمال داود من الصّفة التي يطلقها العرب والمسلمون على ضحايا العدوان الهمجي على غزّة، ووجد الوقت والمتعة للتّنكيل اللّغوي بمنكّل بهم في الواقع، لكنّ اللّغة ستخونه، قطعًا، في وصف القتلة، لأنّ حريّته تتوقّف عند جثث الضحايا،...

    • مقبرةُ جماعيّة للإنسانيّة

      في هذه الأرض المزدحمة، حيث يتعايش الأحياءُ والموتى، تُحفر القبور على عجلٍ في الأسواق السّابقة والأرصفة السابقة، لا أزهار هنا في وداع النّازلين إلى ترابهم من حياة، هي مجرّد استراحة بين ميتات مُختلفة. قد يُسرف القتلى في النوم حيث...

    << < 1 2 3 4 5 > >> (5)
الرجوع إلى الأعلى